ما بين الصراحة والأمراض الاجتماعية
"من أمِن العقوبة أساء الأدب"...ظهرت في الآونة الأخيرة فكرة موقع "صراحة"، وهو موقع يسمح لأي شخصٍ كان بأن يُعبِّر لك عن رأيه أو مشاعره تجاهك، أو فكرة تتعلق بك... الكثيرون نشروا الموقع وطلبوا من الآخرين أن يدخلوا ويكتبوا ما يحلو لهم، وكانت هنا المفاجأة.
اعتمد الموقع في مجمله وفي الترويج لنفسه على نشر print screen وصور لتعليقات جميلة وصلت مستخدميه، وأنه قد تصلك رسالة مدح أو غزل أو رأي إيجابي أو نصيحة مُلهمة في حال جربت الموقع، ولكن المعظم خاب ظنه.
فمنذ أن يفتح البعض حساباتهم، تبدأ رسائل الكراهية والحقد والغيرة والتهديدات تصل مستخدميه. "حجمك حجم ديناصور"، "عفكرة، زوجك خطبني ٤ مرات وأنا رفضت"، "بتفكر الناس ما بتعرف إنك مديون بـ٢٠٠٠ دينار وعامل حالك مليونير؟!"، "الله لا يهنّيك انت وزوجتك"، "يا أنا يا انت بالشركة"، "بدأ العد التنازلي لعُمرك"... إلخ. وبدأ الناس ذاتهم يغلقون مشاركتهم في هذا الموقع، مستغربين من الإجابات التي تصلهم.
ذكرني هذا الموقع بتجربة قام بها طبيب نفسي "فيليب زيمباردو" عام 1971 وتُسمى The Stanford Prison Experiment. وأصابت هذه التجربة العالَم بالذهول والخوف في آن واحد:
التجربة باختصار، تقوم على السماح لمجموعة من الشباب بلعب دور "السجّان" مقابل مبلغ مالي، ومجموعة أخرى بلعب دور "المسجون" مقابل مبلغ مالي أكبر.
وصلت التجربة لمراحل فظيعة من ضرب السجان للمسجون، ما اضطر الطبيب إلى إيقاف التجربة خوفاً على حياة المساجين، علماً أنهم كانوا جميعاً زملاء في الجامعة قبل التجربة.. ولكن هذه التجربة سمحت لبعضهم بـ"التجبُّر"؛ بسبب عدم وجود رقابة أو محاكمة أو عقوبة، فأساءوا الأدب.
وتجربة مارينا أبراموفيتش، حيث قررت أن تقف لمدة 6 ساعات متواصلة دون حراك وأتاحت للجماهير أن يفعلوا بها ما يريدون.. فمنهم من شتمها وآخر ضربها وأهانها، وكاد أحدهم يطلق النار عليها لولا تدخُّل أحدهم، وكل أولئك لا يعرفونها معرفة شخصية!
وفيلم The Purge الشهير الذي يتيح لك أن تقتل من تشاء في يوم واحد بالسَّنة، دون عقوبة. فيتحول البعض من حمَل إلى وحش كاسر يقتل أقرب الناس إليه.
وقِس على ذلك عندما تنطفئ الكهرباء في مدينة ما، تنتشر حالات السرقة والاغتصاب وغيرها.. في نيويورك عام 2003، فقدت المدينة الكهرباء لمدة 30 ساعة، وأدى ذلك إلى تدمير محال وسرقتها وتخريب ممتلكات عامة تصل قيمتها للملايين وتحتاج المدينة أسابيع لإعادة إصلاحها!
والضباب الشهير الذي أصاب مدينة لندن عام 1952 خمسة أيام والذي يقال إن سببه كان تلوثات مصنعية. قُتِل أكثر من 12 ألف شخص في حوادث مختلفة، وتم سرقة ونهب مئات المحلات والمنازل والسيارات واغتيال شخصيات عامة ومهمة!
قد يكون سبب اشتراك أحدهم هو رغبته في الوصول لحقائق لا يعرفها عن نفسه، أو نصائح قد يخجل البعض من التعبير عنها، ومن ثم فهو كمشترك مستعد للقراءة وقبول النقد، ونفسيته مُهيَّأة للاستقبال والتأثُّر كذلك، وهذا نتيجة مؤذية؛ لأن كاتب التعليقات ليس بالضرورة أن يكون هدفه إفادتك بقدر إيذائك أو التشكيك فيك أو في عملك أو في قدراتك أو في مواهبك أو زرع الفتنة بين شخصين.
حتى في المحاكم، لا تُقبل شهادة من مجهول، ولا يُقبل في الدِّين نقل حديث من شخص غير ثقة، فكيف تتوقع أن تصلك نصائح أو تعليقات هدفها الخالص هو "مصلحتك" من إنسان قد يكون فتاةً، أو شاباً، وقد يكون طفلاً أو كهلاً، لا تعلم عنهم أي شيء وتُدخلهم بكل سهولة لعالمك الخاص وحياتك المهنية والخاصة والعائلية؟! أنتَ فتحت لهم الباب.. تذكَّر..
وأقتبس عن الأستاذ شهاب نجار -وهو قائد وحدة مكافحة الإرهاب الإلكترونية الدولية في شرطة السايبربول لمنطقة الشرق الأوسط:
"هذا الموقع فتح باباً جديداً لجرائم الذم والقدح والتحقير.. ومن زاوية أمنية، نرى أن الموقع لا يستخدم سياسة خصوصية ولا سياسة استخدام، وهو أمر خطير جداً لم ينتبه إليه المستخدمون الذين قاموا بالتسجيل، وهذا بدوره يُعطي إدارة الموقع صناعة أي شيء وكل شيء بحسابات المستخدمين دون إشعار المستخدم بأي شيء، كما أن الموقع يحتوي على أخطاء برمجية وثغرات أمنية تسمح للمهاجمين بتغيير جزء من الموقع، وقد قام مجموعة من الهاكرز بصناعة موقع مزيف عن موقع (صراحة) استطاعوا من خلال الموقع اصطياد المستخدمين".
برأيي، هذا الموقع "صراحة" من أسوأ الطرق التي تستطيع من خلالها أن تسأل الناس عن رأيهم... شخصياً، لم أستخدمه ولا موقع "آسك"، ولا أمتلك بجعبتي نصيحة لاستخدام وسيلة أخرى... ولكن لا تفسح المجال لأيٍ كان أن يبدي رأيه بهذه السهولة دون عواقب تحمُّل مسؤولية كلامه والذي يجب أن يكون مرفقاً بالتواريخ والأدلة والتفاصيل كاملة؛ حتى يتم أخذ التعليق بعين الاعتبار.. هل تتوقع حقاً أن تكون جميع الردود منطقية ومحايدة وعقلانية ومتوازنة؟
وبحُكم عملي مُخرجةً، فأنا أؤكد لكم أن ما يحصل "خلف الكواليس" يختلف عما ترونه "أمامكم"، وما يصلكم من البعض يختلف عما ترونه منهم في الواقع..تذكَّر: "الناس في الظلام ليست ذاتها في النور".
هافنغتون بوست