علي عبود يكتب: التجار يكيلون بعدة مكاييل !
لا يكيل التّجارُ كما يُشاع بمكيالين، وإنما يكيلون بعدة مكاييل، وما يحدّد استخدام كل مكيال هو مقدار ما يحقّق لهم من أرباح فاحشة تلحق الأذى والضرر بالعباد.
ومهما قدّمت الجهات الحكومية للتجار من تسهيلات وإعفاءات، بل وتنازلات، على أمل أن يرأفوا بالناس، فالنتائج دائمة محبطة ومخيّبة، لأن الجشع والاستغلال هما الركيزتان الوحيدتان اللتان تحكمان نشاطهم اليومي في الأسواق أو مطالبهم اللانهائية من الحكومة، فأي قانون أو قرار يحدّ من الجشع أو الاحتكار، أو الاثنين معاً، مرفوض من التّجار، بل ويمارسون الضغط الشديد على الحكومة لإلغائه، وكلنا نتذكر تهديدهم منذ أشهر بمنع مدّ الأسواق بالسلع الأساسية.
وما من اجتماع للتجار مع وزير أو أكثر، كالاجتماع الأخير مع وزير التجارة الداخلية، إلا وينجحون بانتزاع قرار أو وعد بتعديل قانون يرون فيه “إجحافاً وظلماً” أي يحدُّ من جشعهم واستغلالهم!
أثار التّجار في هذا الاجتماع مجدداً موضوع تسجيل العمال ضمن التأمينات الاجتماعية، وبدا واضحاً أنهم سيستمرون بالمطالبة حيناً، وبالضغط غالباً حتى “ترضخ” الحكومة لمطلبهم وتتراجع عن إلزامهم بتسجيل عمالهم في التأمينات.
ولا ندري الأسباب التي تجعل من موضوع تسجيل العمال في التأمينات الاجتماعية “الهاجس الأساسي للتاجر” إلى حدّ مطالبة غرفة التجارة بإيجاد آلية أو حلّ جذري لهذا الهاجس!
وقد سبق للتّجار أن رفضوا قانون التأمينات، كما رفضوا ربط انتسابهم لغرفة التّجارة بشرط تسجيل عاملين على الأقل في التأمينات، وما زالوا يتهربون من تسجيل عمالهم أو يقومون بتسجيل وهمي لبضعة عمال فقط تهرباً من الغرامة والعقوبة.. إلخ.
ومن يستمع للتجار يتوهم أنهم سيتكبّدون خسائر جسيمة لقاء تنسيب عمالهم إلى مؤسسة التأمينات الاجتماعية، وبأنهم لن يحمّلوا رسوم اشتراكاتهم على تكاليف سلعهم ومنتجاتهم وخدماتهم، أي أن العبء المادي الفعلي سيسدّده المستهلك، ومع ذلك يرفضون.. فلماذا؟
أليس غريباً هذا “الاستشراس” من قبل التّجار ضد العمال لمنعهم من الحصول على حقوقهم الطبيعية، كتعويض نهاية الخدمة وإصابات العمل والراتب التقاعدي والاستطباب؟!
لاحظوا أن التجار “يكيلون” حتى في هذا المجال بمكاييل متناقضة، فهم من جهة مع زيادات الأجور، ومع المنح للعاملين في القطاع العام لأنهم سيشفطونها خلال أيام، ولكنهم ضد رفع أجور العمال في القطاع الخاص من جهة أخرى، بل إن غالبيتهم لا تمنح عمالها الحدّ الأدنى للأجور.
وسبق وقلنا مراراً: إن من “يتفنن” بالتهرب من دفع الرسوم والأرباح، ويقدّم لوزارة المالية بيانات ورقية بأنه خاسر في الوقت الذي تشير الوقائع إلى أن حجم أعماله بالمليارات، لن يُسجّل طوعاً ولا إلزاماً عماله بالتأمينات الاجتماعية، فهم بالنسبة له ليسوا بشراً بل مجرد “روبوتات” يتخلّص منها فور انتفاء الحاجة لها، دون حسيب أو رقيب!
ومن يتعامل مع عماله كآلات ويرفض تأمين الحدّ الأدنى من أجورها وتكاليف استطبابها، هل ننتظر منه أن يتعامل مع مستهلكي منتجاته ومستورداته وخدماته بالمكاييل التي تحدّدها الأنظمة والقرارات النافذة؟
إن ضبط آلاف الأطنان بين يوم وآخر من السلع الغذائية الفاسدة، أو منتهية الصلاحية، أو مجهولة المصدر، يؤكد أن معظم التّجار لا يجيدون التعامل إلا بالمكاييل التي تحقّق لهم الأرباح الفاحشة، ولو على حساب صحة الناس.
وليس صحيحاً أن التّجار يعملون بمبادئ السوق ويتنافسون على تقديم السلع الأفضل بأرباح قليلة، فهذا وهمٌ تراهن وزارة التجارة الداخلية على “ضمير” التّجار لتحويله إلى واقع منذ عشرات السنين، لكنه لن يتحقق فعلياً إلا بتطبيق الأتمتة والفوترة في أعمال وزارات المالية والاقتصاد والتجارة الداخلية.
ودون الفوترة والأتمتة لن تتوصل أي جهة حكومية إلى معرفة الكلف الحقيقية للسلع والمواد إلا تقريبياً، أي بمقارنة أسعارها في سورية مع أسعارها في الدول الأخرى، وهي مقارنة تؤكد دائماً تلاعب التّجار بمكاييل الأسعار والمواصفات، ولهذا رفضوا سابقاً وسيستمرون بالرفض إلى أمد غير محدود أي تطبيق للأتمتة والفوترة!
وبما أن التاجر الدمشقي، حسب تأكيد وزير التجارة، “يستطيع ومن محل صغير في سوق الحريقة أن يعمل تجارة بين دول العالم”، فالسؤال: هل هذا تألق أم “شطارة” بالتهرب من الرسوم والضرائب بفعل غياب الفوترة والأتمتة؟
بالمختصر المفيد: نستغرب غياب التنظيم العمالي عن اجتماعات الجهات الحكومية مع غرف التجارة والصناعة، بل نستغرب ألا يعقد أي اجتماع بين التنظيم وغرف التجارة والصناعة لمناقشة قضايا الأسعار والأجور والتأمينات الاجتماعية وتعويضات نهاية الخدمة وإصابات العمل، وإلزام أرباب العمل بمساعدة عمالهم على مواجهة أعباء الحياة الصعبة.
البعث