زياد غصن يكتب ... الدعم الحكومي: اعتمادات سنوية متقلبة.. والعبرة بما ينفق فعلياً!
يبدو أن هناك قراراً حكومياً قد اتخذ لمعالجة ملف الدعم. وما حديث رئيس الحكومة حسين عرنوس مؤخراً سوى محاولة تمهيد لما يمكن أن يصدر خلال الأيام القادمة، لاسيما عندما اعتبر أن قيمة ما تقدمه الحكومة حالياً من دعم هو أعلى بكثير من قيمة الدعم المقدم في العام 2011 وما قبل.
تستند الحكومة في توجهها، الذي بات معلناً، على حجة ارتفاع تكلفة الدعم إلى مستويات تعجز موازنة الدولة عن تحملها، خاصةً في ضوء التراجع الذي شهدته تلك الإيرادات خلال سنوات الحرب من ناحية، وارتفاع معدل التضخم بشكل كبير من ناحية أخرى.
هذه الحجة هي نفسها التي اعتمدت عليها “حكومة ناجي عطري” قبل 13 عاماً عندما قاربت آلية الدعم بطريقة جديدة أدت إلى حدوث تأثيرات سلبية عميقة على القطاعات الإنتاجية ومستويات معيشة المواطنين، ووفقاً للمؤشرات الأولية فإن نتائج سياسات الحكومة الحالية حيال ملف الدعم لن تكون أفضل، إذ إن الأمور ستزداد سوءاً أكثر مما هي عليه الآن لسببين:
-إن التوجه الحكومي يتركز على تقليص الشريحة الشعبية المستهدفة والمستفيدة من الدعم وفق معايير كان قد طرحها النائب الاقتصادي الأسبق عبد اللـه الدردري ويعيد الفريق الحكومي الحالي طرحها من جديد من قبيل استهلاك الأسر السورية من الكهرباء، الاتصالات، وجود سيارة خاصة، تملك أكثر من منزل وغير ذلك، وكأن الحكومة بذلك تريد فقط استهداف المشردين والمعدومين غذائياً فقط، وليس تعويض شريحة واسعة من السوريين عن سوء توزيع الدخل القومي، وسياسات الإفقار التي مورست بحقهم عبر سنوات وعقود من الزمن، وتالياً فإن احتمال تأثر أسر كثيرة سلبياً سيكون متوقعاً، وعلينا أن نتذكر في هذا المجال تجربة صندوق المعونة الاجتماعية في العام 2010، الذي ما إن فتح باب الاعتراض عليه مع بداية الأزمة حتى تم تسجيل أكثر من 118 ألف اعتراض.
ولا ننسى كذلك أن تقليص الدعم من دون الاهتمام الحكومي بمعالجة مشكلة الفساد المستشري في المؤسسات والجهات العامة، لاسيما تلك المعنية بتقديم الدعم، يعني ببساطة استمرار عملية استنزاف خزينة الدولة حتى لو كان البديل المقترح للدعم تقديم مبلغ مالي معين لكل أسرة تتوفر فيها الشروط والمعايير التي يمكن أن تعتمد.
-إن إعادة النظر بملف الدعم الحكومي يأتي في وقت تستمر فيه الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بالتدهور لأسباب بعضها مرتبط بالعقوبات الخارجية وبعضها الآخر نتيجة السياسات والإجراءات الاقتصادية والإدارية العاجزة. وعليه فإن تحرير أسعار السلع والمواد المدعومة سيؤدي إلى حدوث موجة جديدة من التضخم والغلاء تربك الأسواق والقطاعات الاقتصادية، التي تعاني أصلاً من عدم استقرار دفعت بالكثير من الصناعيين وأصحاب الأعمال إلى تأسيس مشروعات جديدة لهم في بعض دول المنطقة.
وحسب ما خلصت إليه نتائج مسح الأمن الغذائي الذي أجرته هيئة تخطيط الدولة بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي فإن حوالي 39.2% من الأسر معرضة لانعدام أمنها الغذائي، وهذا يعني أن أي خطوة اقتصادية حكومية غير مدروسة بشكل جيد ستكون نتيجتها أن 95% من الأسر السورية ستكون فاقدة لأمنها الغذائي. والمسح أشار بوضوح إلى أن الأسر الآمنة غذائياً لم تتجاوز نسبتها بنهاية العام 2020 عتبة 5.1%.
لكن ما حقيقة حجم الدعم المعلن رسمياً؟ وهل فعلاً ما يقدم حالياً يفوق ما كان يقدم قبل بدء الحرب؟
هناك شكوكاً كثيرة تحيط بأرقام الدعم المعلنة من قبل الوزارات والمؤسسات المعنية، وذلك بسبب عدم دقة عملية احتساب التكاليف، مظاهر الهدر والفساد غير المعلنة، تضخيم الأرقام أحياناً لغايات مرتبطة بمصالح الإدارات المعنية وغير ذلك. ومع غياب أو التأخر الكبير في إعداد قطع حسابات الموازنة العامة للدولة (آخر قطع حسابات كان عن العام 2013) فإن الرقم الإجمالي لحجم الإنفاق الحكومي على الدعم سنوياً لا يزال غامضاً.
وهذا ما يجعل عملية تتبع تطور الإنفاق الفعلي على الدعم تبدو صعبة حالياً، وتالياً فلابد من الاستئناس بحجم الاعتمادات السنوية المخصصة لبند الدعم الاجتماعي، والذي بدأ بالظهور بشكل مستقل في الموازنة العامة للدولة منذ العام 2013. وهنا لابد من الإشارة إلى أربع ملاحظات هامة:
-الأولى، إن العبرة الرئيسية تبقى في نسبة التنفيذ المتحققة، وعليه فإن الاعتمادات السنوية هي مجرد مؤشر لا يجوز البناء عليه في إطلاق أحكام كما تفعل الحكومة في تذكيرها المتكرر بما يقدم للمواطنين.
-الثانية، إن تخصيص هذه الاعتمادات يجري بمعزل عن الإشارة إلى الخطط الحكومية “المضمرة” لتغيير الواقع السعري للسلع المدعومة وبشكل أصبح دورياً.
-الثالثة، إن تخصيص الاعتمادات يتم بناء على طلب الوزارات والمؤسسات المعنية فقط، وليست هناك دراسات ومسوح دورية يُستند عليها في تحديد الاعتمادات المطلوبة سنوياً.
-الرابعة، ربما يكون وسطي تطور سعر الصرف في السوقين الرسمي والموازي سنوياً هو المؤشر الأدق الذي يمكن الاستعانة به لبيان إن كانت الاعتمادات المخصصة للدعم تتراجع أو تزيد مقارنة بوضع القوة الشرائية لليرة.
يظهر الجدول المرفق الاعتمادات السنوية المخصصة في الموازنة العامة للدولة لبند الدعم الاجتماعي بمؤسساته وقطاعاته المختلفة، نسبة تغيره، ونسبته إلى إجمالي اعتمادات الموازنة. وكما يلاحظ فإن نسبة التغيير في كتلة الاعتمادات بدأت تظهر بشكل واضح في العام 2013، وهو العام الذي شهد بداية التقلبات الحادة في سعر صرف العملة الوطنية والعودة الحكومية إلى رفع أسعار المشتقات النفطية. عاملان ظهر تأثيرهما في اعتمادات الدعم المخصصة في موازنة العام 2014، فمن جهة ارتفعت نسبة تلك الاعتمادات إلى إجمالي اعتمادات الموازنة لتصل إلى 44.2% مقارنة بحوالي 37% في موازنة العام السابق. ومن جهة ثانية فإن مقارنة اعتمادات الدعم في موازنة العام 2014 بنظيرتها في العام 2013 تبين وجود زيادة قدرها 20.11% بينما كانت في السابق حوالي 32.6%.
الملفت في بيانات الجدول أن اعتمادات الدعم في موازنة العام 2016 شهدت تراجعاً بنسبة 1% مقارنة باعتمادات موازنة العام السابق، كما أن نسبة اعتمادات الدعم من إجمالي اعتمادات موازنة ذلك العام شهدت هي الأخرى تراجعاً واضحاً مقارنة بنسبة موازنة العام 2015. تتضح الصورة أكثر مع بيانات موازنة العام 2017، حيث زادت قيمة اعتمادات الدعم بحوالي 92% مقارنة بكتلة العام السابق، كما أنها شكلت ما نسبته 70% من إجمالي اعتمادات الموازنة للعام 2017.
يمكن تبرير هذا التغير المفاجئ والكبير في التعاطي الحكومي مع اعتمادات الدعم الاجتماعي بما يلي:
–في منتصف العام 2016 تم تشكيل حكومة جديدة في أعقاب انتخابات مجلس الشعب، ويبدو أن الحكومة الجديدة نهجت مع تسلمها مهامها إلى إتباع سياسة مختلفة عن الحكومة السابقة قوامها تخصص اعتمادات كافية للقطاعات والمؤسسات المعنية بتقديم السلع والخدمات المدعومة، خاصة في مرحلة كانت فيها الدولة تعول على استعادة السيطرة على جميع المناطق.
–مع نهاية العام 2016 أخذت المساحات العائدة لسيطرة الدولة بالاتساع تدريجياً بما شكله ذلك من زيادة عدد السوريين العائدة إلى مظلة الدعم الاجتماعي، وتوسع دائرة الخدمات التي تقدمها مؤسسات الدولة لتشمل مناطق جغرافية كانت لفترة ما خارج السيطرةـ فمثلاً خلال الفترة الممتدة من منتصف العام 2016 ولغاية العام 2019 زاد عدد المستفيدين من الطاقة الكهربائية من حوالي 2.8 مليون مشترك مستفيد في العام 2016 إلى حوالي 4.2 ملايين مستفيد في العام 2019.
عادت اعتمادات الدعم لتتراجع مرتين في السنوات التالية، ففي العام 2018 تراجعت قيمتها بنسبة تصل إلى حوالي 64% مقارنة باعتمادات العام السابق، مشكلة بذلك حوالي 21% من إجمالي اعتمادات موازنة العام 2018، كما أنها تراجعت في موازنة العام 2020 بنسبة 54% مشكلة النسب الأقل خلال 12 عاماً من إجمالي اعتمادات الموازنة، حيث لم تتجاوز 9.3%.
وللتوضيح فإن الزيادة الكبيرة لاعتمادات الدعم في موازنة العام الحالي كان سببها عدة متغيرات أبرزها: الانخفاض الشديد في سعر صرف العملة الوطنية والذي بدأ في منتصف العام 2019، وإضافة ديون شركة محروقات المقدرة بحوالي 1500 مليار ليرة إلى اعتمادات الدعم بغية تسديدها كما أشاعت الحكومة السابقة والمجددة لها حالياً.
اثر برس