المؤلف تفضحه كلماته: تحليل النصوص يكشف مرض «الآلزهايمر»
هل يمكن أن تتصور أن إصابة أحدهم بالآلزهايمر يمكن أن تقود إلى منهج طبي جديد؟ في مقالها المنشور على موقع «Nautil»، تتبَّعت الكاتبة «أدريني داي»، رحلة الآلزهايمر مع الكاتبة المشهورة «آيريس مردوك»، وكيف ساعدت رواياتها الأطباء على استنباط طريقة للكشف عن علامات مبكرة للآلزهايمر. قفلة الكاتب: كيف بدأ المرض؟ في أوائل تسعينيات القرن العشرين، كانت آيريس مردوك تكتب رواية جديدة كما فعلت من قبل لـ25 مرة في حياتها، لكن هذه المرة حدث شيء غريب. كان «جاكسون» (الشخصية الرئيسية في الرواية) رجلًا إنجليزيًّا له تأثير غامض في دائرة أصدقائه، لكن بمجرد أن تبلورت الشخصية في عقلها، نسيت آيريس تفاصيلها، وأخبرت صحفي «الغارديان» عن الواقعة قائلة إنها كانت تعاني من «Writer's Block» (قفلة الكاتب). بدأ الأمر مع شخصية جاكسون، ثم طغى على حياتها. كان الكتاب سقطة عظيمة. قال عنه النقاد إن شخصياته دون ذوات، ويشبه عملًا أدبيًّا كتبته طفلة في الثالثة عشر من عمرها. مقارنة بأعمالها السابقة التي ظهر فيها ثراء المفردات، ومعرفة قوية بقواعد اللغة، كانت هذه الرواية التي تُسمى «Jackson's Dilemma» مليئة بالأحداث التي تستمر من دون مبرر، وينقصها نقلات منطقية في بنية الأشخاص والأحداث، وتفتقر إلى اللغة القوية المعهودة من مردوك. بعد عامين من نشر الكتاب، قابلت آيريس طبيب أعصاب شخَّصَها بمرض الآلزهايمر، ما جلب اهتمامًا إعلاميًّا بالموضوع، وجذب الانتباه لكتاب «Iris: A Memoir of Iris Murdoch» الذي كتبه زوجها «جون بايلاي» عن حياتها، ثم تحوَّل إلى فيلم سينمائي من بطولة «كيت وينسلت» و«جودي دينش». في عام 2003، أبدى «بيتر جارارد»، أستاذ علم الأعصاب المختص في مرض الخرف، اهتمامًا استثنائيًّا بأعمال آيريس، ودرسها بشكل مكثف في أثناء إعداده رسالة الدكتوراه تحت إشراف الطبيب «جون هودجيز» الذي شخَّص آيريس بالآلزهايمر. بدأت القصة حين أهدت زوجة بيتر إليه نسخة من كتاب «معضلة جاكسون»، واقترحت عليه أن يحللها، بعدها قرر بيتر أن يخطو خطوة أبعد، وشرع في تحليل لغة آيريس في كتبها للبحث عن الآثار الانتكاسية للآلزهايمر. شغف قديم تتأثر اللغة عندما تتأثر منطقتا «فيرنيك» و«بركا» في المخ بانتشار الآلزهايمر. وبالتالي تصبح اللغة نافذة يمكن من خلالها ملاحظة تطور الأمراض. اهتمام بيتر جارارد بالمسألة ليس من قبيل المصادفة، فقد درس الأدب القديم في جامعة أكسفورد، قبل اهتمامه بالطب، في نفس الوقت الذي كان فيه بعض مهووسي الأدب، في نفس القسم الذي يعمل فيه، قد طوروا برنامجًا للكمبيوتر يدعى «Oxford Concordance Program»، وهو برنامج يُعِد قوائم لكل أنواع الكلمات ورموزها في أي نص. تشير أنواع الكلمات إلى عدد المفردات المختلفة التي ظهرت في النص، وتشير الرموز إلى العدد الإجمالي للمفردات. كان جارارد مفتونًا بهذه القوائم، ورأى أنها يمكن أن تساعد باحثي الأدب القديم في تحديد هوية النصوص التي لا يُعرَف كاتبها، أو تكون هويته محل نزاع، تمامًا كما يفعل خبير اللوحات حين يقرر ما إذا كانت اللوحة أصلية أو مقلدة، لذا فكَّر في استخدام تقنية حاسوبية مشابهه في تحليل كتب آيريس. يعتقد الباحثون المختصون في مرض الآلزهايمر أن الإعاقة الإدراكية تبدأ قبل ظهور علامات الخرف بوقت طويل. وظن جارارد أن فحص ثلاث روايات لآيريس، مكتوبة في أوقات مختلفة من حياتها، يمكن أن يساعده في رؤية أي علامات على الخرف بين السطور. تأثير الآلزهايمر في اللغة يعتقد العلماء أن الآلزهايمر يحدث بسبب موت الخلايا وفقدان الأنسجة الناتج عن تراكم غير طبيعي لألواح وتشابكات من البروتين في المخ. تتأثر اللغة عندما تتأثر منطقتا «فيرنيك» و«بركا» المسؤولتان عن اللغة في المخ بانتشار المرض. وبالتالي تصبح اللغة نافذة استثنائية يمكن من خلالها ملاحظة ظهور الأمراض وتطورها، وفي حالة آيريس، فإنها بخيالها الخصب ولغتها الثرية مادة غنية لدراسة كهذه. تفسر الطبيبة «باربرا لاست»، أستاذة اللسانيات والعلوم المعرفية بجامعة كورنيل في نيويورك، والتي تبحث في موضوعات اللغة والآلزهايمر المبكر، أهمية ارتباط اللغة بالمرض، إذ تقول إن فهم التغيرات في أنماط اللغة يمكن أن يكون هبه في رحلة البحث عن علاج الآلزهايمر، وإنه أمر بالغ الأهمية في ما يتعلق بالتشخيص المبكر للمرض، أو البحث فيه. قبل أن ينشر جارارد وزملاؤه بحثهم عن آيريس، وضع الباحثون اللغة ضمن السمات الأساسية التي يلاحَظ خلالها الآلزهايمر. ويقول جارارد إن كلمات المريض تصبح مقيدة، ويستخدم الكلمات العامة، ويقل استخدامه للكلمات الخاصة أو الدقيقة، فمثلًا بدلًا من قول «كلب ذو لون ذهبي كالمسطردة»، يمكن أن يستخدم كلمة «كلب» فقط، أو «حيوان». يشير جارارد وزملاؤه إلى أن تقييم التغييرات اللغوية عند المرضى كان يعتمد على مهمات أساسية وعامة، مثل طلاقة النطق، وتسمية الصور، وهو ما وجه إليه نقدًا عن افتقاره إلى إمكانية التطبيق في العالم الحقيقي. لكن كتابة الروايات نشاط طبيعي يؤديه صاحبه دون معرفة المرض، وفي هذه الحالة تختفي أي استجابة سلبية يقع فيها المريض خلال الاختبار، وهكذا استطاع هو وفريقه تحليل لغة آيريس طوال حياتها الأدبية التي امتدت من الثلاثينيات إلى السبعينيات. حلل جارارد ثلاث عينات من أعمالها: رواية «Under the Net»، و«The Sea, The Sea» التي فازت بالبوكر عام 1978، وراويتها الأخيرة «The jackson's dilemma» (معضلة جاكسون). كانت نتيجة البحث أن مفرداتها تقلصت كثيرًا في كتابها الأخير، وأصبحت كلماتها عامة مقارنة بكتابيها السابقين. فريق «تورنتو» يواصل البحث الآلزهايمر يدمر قدرتنا على رؤية هويتنا الشخصية وهويات الآخرين، حتى لو كانوا أفرادًا خياليين. في كندا، كان «إيان لانكشاير»، أستاذ اللغة في جامعة تورنتو، يدير نسخته الخاصة من التحليل النصي، ورغم دراسته الطويلة لدراما عصر النهضة، فقد استلهم كثيرًا من ظهور حقل دراسي يُدعى «علم اللغويات النصية»، والذي يتضمن دراسة اللغة عن طريق برنامج «حوسبي» مختص. وفي عام 1985 أسس مركزًا للحوسبة في العلوم الإنسانية بجامعة تورنتو. وفي محاولة للوصول لنظرية عامة عن نشأة الإبداع، أدار لانكشاير تطوير برنامج حوسبي بهدف دراسة اللغة عن طريق تحليل النص. سُمي البرنامج «TACT»، وحقق توافقًا تفاعليًّا بين النصوص، وسمح للانكشاير أن يعد أنواع الكلمات ورموزها في كتبه المفضلة. ولأنه كان مغرمًا بـ«أجاثا كريستي» في شبابه، قرر تطبيق النظرية على اثنين من كتبها القديمة، إضافة إلى رواية «Elephants Can Remember»، وهي من أواخر أعمالها. ما اكتشفه كان صدمه تمامًا، إذ كان من الواضح أن استخدام أجاثا للمفردات تهاوى تمامًا في نهاية مسيرتها، ورغم توافق طول الرواية مع طول أعمالها السابقة، لاحظ انخفاضًا ملحوظًا في تنوع الكلمات المستخدَمة فيها، ووجود قدر كبير من التكرار، كأنها توقفت عن إيجاد الكلمة المناسبة. كان من ضمن النتائج كذلك، أن كل نوع من الخرف له نمط لغوي خاص به، ويتسلل الخرف إلى كل الأساليب. لذلك إن كان هناك إنسان يعاني في التعبير عن نفسه، سيواجه المشكلة كتابيًّا وشفهيًّا. وبالنسبة إليهم، ظهرت أدلة تَراجُع آيريس، لأن كتاب «The sea, The sea» وضَّح لغتها الغنية، أما في «The Jackson's Dilemma»، فقد كانت مفرداتها قليلة وضعيفة، وبدا أنها عجزت عن رسم أبعاد الشخصية بعد تصوُّرها، فظهر هذا كعلامة مبكرة على الخرف. وقال لانكشاير، في وقت لاحق، إن الآلزهايمر يدمر قدرتنا على رؤية هويتنا الشخصية وهويات الآخرين، حتى لو كانوا أفرادًا خياليين، وإن الكتَّاب المحترفين قد ينسون شخصياتهم، وما فعلته هذه الشخصيات، والصفات التي تتسم بها. بفضل هذا النوع من الدراسات الأدبية، استمرت نظرية استخدام اللغة كأداة للكشف عن الآلزهايمر في كسب المصداقية والتأييد. إذ كلف «المعهد الوطني للشيخوخة»، و«جمعية الآلزهايمر» مجموعة من أطباء الأعصاب البارزين، بمراجعة معايير مرض الآلزهايمر التي تعرضت للتحديث سابقًا عام 1984، كما تذكر أدريني داي، كاتبة المقال. سعى الفريق البحثي الذي تولى مهمة تحليل النصوص، إلى تضمين معايير تُمَكِّن مقدمي الرعاية الذين لا يملكون الوصول إلى أدوات تشخيص، مثل الفحوص العصبية، والأشعة المتطورة، من تشخيص الخرف. وضمت هذه المعايير ضعف المهارات اللغوية في الكلام والقراءة والكتابة. على الرغم من اتفاق عدد كبير من الباحثين على استخدام اللغة كمؤشر إلى وجود مرض الآلزهايمر، فإنهم ما زالوا مقتنعين بأنها في مراحلها الأولى. فنحن ما زلنا في حاجة إلى أداة منخفضة التكلفة وسهلة الاستخدام. منشور