أحبها العقاد والرافعي وطه حسين.. مي زيادة أسطورة الأدب والحب في القرن العشرين
مي زيادة امرأة قضت حياتها بين القلم والكتب والدراسة، وانصرفت بتفكيرها إلى المثل الأعلى، عاشت حياة مثالية جعلتها تجهل الكثير من خصال البشر، وما تخفيه النفس والقلب، الجميع يظهر أمامها في ثوبٍ من الطيبة والدعة، لكنهم يخبئون الحقد في صدورهم. مي أرادت الحرية ليس فقط للمرأة أو الرجل، بل للأوطان أيضًا، لكن النهاية كانت الحبس بين جدران أربع بما فيهم من قسوة ووحشة، فكيف لإنسانة بمثل هذه الرقة أن تتحمل هذا؟ نبوغ مي زيادة كان في الفرادة في عصرها، بمعنى أنه بين كُلَّ هذه القامات الأدبية الرفيعة (طه حسين، العقاد، الرافعي، أحمد لطفي السيد، أحمد شوقي، حافظ إبراهيم… إلخ) كان هناك مي واحدة بثقافتها الغزيرة، وجودها الفردي أحدث ثورة، سواء كانت في الكتابة بشكلٍ عام أو في أوضاع المرأة بشكلٍ خاص. طفولة مي ماري إلياس زيادة هو اسمها الحقيقي، في مدينة الناصرة بفلسطين عام 1886 ولدت مي لأب لبناني ماروني وأم فلسطينية أرثوذكسية، قضت سنواتها الأولى في مدارس داخلية للراهبات، المدرسة الأولى لها كانت مدرسة اليوسيفيات في الناصرة حيث ولدت، كان عمرها في ذلك الوقت ست سنوات، بعد انتهائها من المرحلة الابتدائية ألحقها والدها بمدرسة الزيارة في عينطورة بلبنان حيث وطنه هو، بعيدًا عن حضن والدتها وعائلتها، وعن دفء الوطن، فنبت داخلها منذ الصغر مشاعر الوحدة والخواء العاطفي. في مدرستها الجديدة أدهشت مي الفتاة الصغيرة كُلَّ من درس لها، أظهرت حبًا شديدًا للشعر وقدرتها على تذوقه ودراسة اللغات وإتقانها، فقد أتقنت خمس لغات (العربية، الفرنسية، الإنجليزية، الإيطالية، الألمانية). عاشت سنوات الطفولة وبداية شبابها في مدرسة الراهبات المعروفة بالشدة والحزم، والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى القسوة، عاشت بعيدًا عن أمها الفلسطينية نزهة المعمر التي ورثت مي منها جزءًا كبيرًا من ثقافتها، فكان يقال عن والدتها أنها كانت تحفظ ديوان ابن الفارض عن ظهر قلب، ومئات من قصائد الشعر العربي، ووالدها اللبناني إلياس زيادة كان رجل تعليم جاء من لبنان إلى الناصرة بطلب من إدارة المعارف العثمانية في الفترة التركية، لكي يعلم اللغة العربية في مدينة الناصرة، وهناك تعرف على والدة مي. اللامنتمية سنوات الطفولة الأولى وبداية الشباب تكوّن وتشكل معظم ملامح الشخصية التي تلازم الإنسان بقية حياته، هكذا يقول علماء النفس. وبُعد مي عن أمها وأبيها، وعن وطنها أوجد داخلها نوعًا من الخواء العاطفي، فحين كانت ترحل آخر الفتيات عن مدرسة الدير (مدرسة عينطورة) ببلدة شحتول بلبنان، متجهين لأهلهم وذويهم، كانت مي تقضي ليلتها وحيدة، سجينة بين الجدران، وتقضي ليلة العيد بعيدًا عن بيتها في مدينة الناصرة بفلسطين. منذ الصغر تعلمت الفتاة -التي لا يراها أحد إلَّا ويقول عنها إنها نابغة- أن تقهر مشاعرها، تحاصرها بكل قوة، رافضة لقلبها أن يتحكم، سامحة لعقلها كل الحرية في أن ينطلق ويفكر ويحلل ويستكشف ما حولها، ومن هنا بدأت المأساة. أوجدت مي فجوة رهيبة بين قلبها وعقلها، كان لديها حصار عنيف لا يستطيع أحد أن يزيله، بين انطلاق عقلها والحرية غير المحدودة للفكر والمحافظة الشديدة وكتمان المشاعر أسفل ناقوس زجاجي، تمرد وتحرر، كل هذا جعلها تجمع بين نقيضين، جعلها لامنتمية. حين كانت تُسأل عن وطنها تقول: «أنا فلسطينية، لبنانية، مصرية، سورية» وداخل مي لم تكن تعرف لأي بلد تنتمي، وهذا بعد فترة تحول من شعور داخلي لا تفصح عنه إلى شعور انسحب على البشر وعلاقتها بالناس. فقدان مي لشقيقها الوحيد في طفولتها، أثر كثيرًا عليها وعلى علاقتها بمن حولها، فقد حُرمت من حنان الأخ مبكرًا، وكانت وحيدة في المدرسة وفي البيت. يوميات فتاة في المحروسة الآن تبلغ الثانية والعشرين من عمرها، ممتلئة بالحماسة والحيوية، قادمة مع والدتها إلى مصر بحثًا عن عمل بالصحافة، ذلك كان عام 1907، الفتاة تعشق الكتابة كثيرًا، وتجيد لغات جمة من بينها الفرنسية إجادة تامة، ذات ثقافة رفيعة، جامعة بين الأوروبية والعربية. في أبريل (نيسان) عام 1913 في بهو الجامعة الأهلية المصرية -حيث احتفال أقامته الدولة برعاية الخديوي عباس تكريمًا للأديب والشاعر خليل مطران، وبعث من أمريكا الأديب المهاجر ورائد مدرسة أدباء المهجر جبران خليل جبران بكلمة ليلقيها نيابة عنه أحد الأدباء-، في هذه المناسبة التي يشهدها قامات أدبية رفيعة، ما كان إلَّا أن قرأت مي زيادة كلمة جبران خليل جبران على الحضور، جاعلة من كل كلمة تنطقها نبضة تطرق قلوب مستمعيها، حتى أنهت الكلمة وبدأت تعلق عليها من ذخيرتها اللغوية وإحساسها ورقتها. كان من بين الحضور عميد الأدب العربي طه حسين، يستمع في إنصات شديد لما تقوله مي الأديبة الشابة، التي لم يكن يعرف عنها شيئًا في ذلك الوقت، ولا غيره، كانت كلمة جبران التي قالتها مي نيابة عنه هي الشهرة الأولى والبداية الحقيقية لها. بعد انتهاء الحفل لم يكن هناك حديث دائر إلَّا وذكر فيه اسم مي، من هي؟ من أين أتت؟ أين تعلمت؟ في ذلك الوقت كانت عائلتها مقربة من عائلة إدريس راغب باشا صاحب جريدة المحروسة، التي منحها لوالدها إلياس بعد فترة، وكانت مي تكتب في هذه الجريدة ولها باب ثابت اختارت له اسم «يوميات فتاة»، كانت تختار الموضوعات الحية والاجتماعية التي يتناقش فيها الناس وتدلي برأيها، إلى أن كونت لنفسها في فترة قصيرة شعبية لا بأس بها، وارتبط القارئ بموضوعاتها. اختارت مي حينها اسمًا أدبيًا لها بدلًا من ماري، فاختارت الحرف الأول والأخير من اسمها ليصبح مي، ومن بعدها عرفت بمي زيادة. صالون مي.. ليالي إيزيس كوبيا أول إنتاج أدبي لمي زيادة كان ديوان شعر كتبته باللغة الفرنسية اسمه «أزاهير حلم» لم يكن موقعًا باسمها بل كان موقعًا باسم إيزيس كوبيا وذلك كان عام 1911، ولم يكن هناك أحد معروفًا بهذا الاسم. اتخذت مي هذا الاسم المستعار لتواجه به الجمهور للمرَّة الأولى فإيزيس مأخوذ من الأسطورة الفرعونية القديمة وكوبيا تعني كلمة زيادة في اللغة اللاتينية، وعدم ظهور مي للمرَّة الأولى باسمها الحقيقي راجع للمثالية التي كانت واقعة فيها، لا تعنيها الشهرة بقدر أن يكون ما تكتبه ينال إعجاب الجمهور. التحقت مي بالجامعة المصرية الأهلية بعد أن أطاعت طلب أستاذها أحمد لطفي السيد، الذي عمل على تنميتها في اللغة العربية وقدم لها القرآن الكريم ومجموعة من الكتب في الأدب العربي، ولمدة ثلاث سنوات من عام 1911 حتى 1914 عكفت مي على دراسة الفلسفة الإسلامية واللغة العربية، أثناء هذه الفترة كتبت في العديد من المجلات المعروفة مثل «المقتطف» و«السياسة الاسبوعية» و«الهلال» و«المرأة الجديدة». في مطلع النهضة الأوروبية تحديدًا في عصر لويس الرابع عشر في فرنسا، حيث اشتهرت الصالونات الأدبية لكبار كُتاب فرنسا ومثقفيها، كان هناك صالون مدام ريكاميه الذي كان يبدو ذا طابع نخبوي وصالون مدام دوستايل، تأثرت مي زيادة كثيرًا بهذه الفكرة وبدأت تحضر لها كثيرًا، وفي عام 1913 في شارع مظلوم باشا بدأ أشهر صالون أدبي شهده القرن العشرين، «صالون مي»، الثلاثاء من كل أسبوع. دعت مي لهذا الصالون أول مرَّة بعد أن انتهت من إلقاء كلمة جبران خليل جبران بالنيابة عنه في حفل أقيم لتكريم الأديب والشاعر خليل مطران. صالون مي كان فريدًا من نوعه في تلك الحقبة، حتى فيما بعدها، حيث كان كل ثلاثاء يستقطب ذروة الأدباء، ميزة صالون مي أنه كان يجمع بين ثناياه قمة المتناقضات، أصحاب الاتجاهات الفكرية المختلفة، والمتصارعة، وعلى الرغم من هذا الاختلاف والتناقض إلَّا أنه كان أول صالون يجمع كل هؤلاء الأساطين الفكرية، وهذا لم يكن ينجح إلَّا بوجود شخصية مثل مي، فقد كانت قادرة على أن تحتوي الجميع واحتواء كل هذا التناقض والصراع الفكري في غرفة واحدة. الأدباء والشعراء الذين أحبوها كانت تجربة مي في الدير توصف بالتبتل، وهذه التجربة جعلتها لا تتعامل بواقعية مع ما يحيطها، كان تعاملها مثاليًا جدًا، وذكريات مي عن طفولتها كانت تنحصر في النساء وهن يغنين وينشدن الشعر على أوتار العود، حتى ذكرياتها تنحصر في جانب رومانسي ممتلئ بالمثالية. كل الذين التقوا بمي سواء في الواقع مباشرة في صالونها إن كان أو في جريدة، أو عن طريق القلم والأوراق أحبوها، وكان الغالبية العظمى منهم يحبونها من طرفٍ واحد، فهي كانت تمتلك جمال الشكل والروح، والثقافة الرفيعة، امرأة تلتقي بالرجال وتناقشهم وفي أحيان كثيرة تتغلب عليهم، وهذا في مجتمع لا يسمح بتعليم المرأة أو مجالستها للرجال، فمي كانت النموذج المغاير الذي ما إن التقى به هؤلاء المفكرين -في مجتمع لا يتمتع بالقدر الضئيل من الحرية مثل ما تمتعت به مي زيادة، خصوصًا أنها ارتبطت بالثقافة الأوروبية بدرجة كبيرة- جعلهم يقعون في حبها. أما أحمد لطفي السيد فقد كان بالنسبة لمي بمثابة معلمها ومرشدها، فكان يعي من البداية كيف تكون العلاقة مع شخصية مثل مي، أن تكون علاقة تلميذ بأستاذه لا غير. ورواد الصالون لم ينتبهوا لهذه النقطة مثلما فعل أحمد لطفي السيد، فمصطفى صادق الرافعي كان يحب مي حبًا شديدًا لكن هذا الحب وهذه العلاقة كانت من طرف واحد فقط، طرف الرافعي، فقد احترق وهام بمي وتوهم أنها تحبه وتهتم به، فمراسلاته بينه وبينها كان يفهمها على نحو مغاير، لكن هذا الحب الكبير أنتج لنا أدبًا غزيرًا وجميلًا، مجموعة كبيرة من الرسائل والقصائد أدبية الشكل والمضمون قبل أن تكون رسائل رومانسية ذات طابع شخصي. إن كل من حادثها ظن أنها تحبه، وما بها إلَّا أنها تفتنه* الرافعي عن مي زيادة علاقة مي بالعقاد كانت علاقة مضطربة، أحيانًا يبدو أن الاثنين واقعين في غرام بعضهما البعض، وأحيانًا يبدو أنهما لا يطيقان مقابلة بعضهما، العقاد لم ينكر حبه لمي، ولمح كثيرًا له في روايته الوحيدة «سارة» وأعطى مي اسمًا مستعارًا في الرواية هو «هند»، عرف العقاد مي أول الأمر عن طريق مقالاتها وأعجب كثيرًا بها، أحبها حبًا كبيرًا لكنه احترق بحبها في صمت، والدليل قصائده الكثيرة إليها التي تحمل كل مشاعر الحب والتتيم بها، العقاد كان صعيديًا وسبب من أسباب عدم استمرار علاقته بمي ونجاح هذا الحب أنه كان يرفض اجتماع مي بالكتاب ومحادثة هذا وذاك لها والرسائل من المعجبين والكتاب، لذا احترق بحبها في صمت. لو جمعت هذه الأحاديث لتألفت منها مكتبة عصرية تقابل مكتبة العقد الفريد ومكتبة الأغاني في الثقافتين الأندلسية والعباسية* العقاد عن صالون مي الشيخ مصطفى عبد الرازق صاحب كتاب «الإسلام وأصول الحكم» كان من رواد صالون مي زيادة، وأحد المعجبين بها وبمقالاتها، وكان من الذين أحبوا مي لكن في صمت، ولم يفصح عن هذا الحب إلَّا في المراسلات الشخصية. شوقي وحافظ الشاعران الكبيران ، كانا من رواد الصالون باستمرار، لكن مي بالنسبة إليهما كانت تمثل الأديبة والشاعرة التي يحبون مجالستها وسماع عزفها على البيانو وقراءتها للشعر بصوتها الساحر. طه حسين كان من رواد الصالون، أعجب بمي كثيرًا، لكن بمي الأديبة الشابة التي استطاعت أن تجمع كل هؤلاء المفكرين في غرفة واحدة وتحاورهم، وتحتويهم. كل من رأى مي؛ وكل من شهد مجلسها أحبها. أما هي فظلت كسنديانة الكنيسة صامدة وكالجبل ما يهزه ريح * الكاتب مارون عبود جبران الحب الوحيد علاقة مي وجبران علاقة فريدة في تاريخ الأدب العربي، فقد شبهه البعض بالحب السماوي الذي يحلق في فضاء الفكر، ووصفه البعض بأنه لم يكن إلَّا محض خيال، أو وهم جميل عاشه الاثنان، فمي وجبران لم يلتقيا ببعضهما على أرض الواقع ولو لمرَّة واحدة، كل مقابلاتهم كانت عن طريق القلم والأوراق، والبريد كان الوسيط بينهما، مرسال العشاق كان الشاهد على قصة حبهم التي تبدو للناظر إليها من بعيد بالأسطورية. هذه العلاقة تركت لنا وللأدب العربي تراثًا أدبيًا لا مثيل له، كم كبير من النصوص والرسائل كتبها اثنان توهج قلبهم بالحب وأحرقته الغربة والبعد، في هذه الرسائل سوف تجد كثيرًا من الأجوبة عن ماهية مي زيادة. اللقاء الأول بينهم كان عن طريق الورق، حين بدأته مي برسالة من قارئة وأديبة إلى أديب كبير، كانت قد انتهت من قراءة قصة جبران خليل جبران «مرتا البانية» فكتبت إليه خطابًا تعرفه بنفسها أولًا ثم تعلق على هذه القصة، وتلقى جبران رسالة مي الأولى بفرح كبير، وكتب إليها يشجعها أن تستمر في مراسلته، وأهداها روايته الجديدة «الأجنحة المتكسرة». لم تحب مي أحدًا مثل جبران، وهبته كل الحب الذي احتفظت به لسنوات طويلة، وجبران أحبها وأغرم بها، لكنهما لم يتخذا خطوة للأمام لتتويج هذا الحب وهذه القصة الأسطورية بالزواج. كتبت مي في رسالة تعترف فيها بحبها لجبران قائلة: «ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به. ولكنى أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب. إني أنتظر من الحب كثيرًا فأخاف أن لا يأتيني بكل ما أنتظر. أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير. ولكن القليل في الحب لا يرضيني. الجفاف والقحط واللاشيء خير من النزر اليسير». بموت جبران خليل جبران، الحب الوحيد لمي زيادة، أسدل الستار عن قصة حب كانت في القلب قبل أن تكون على الأوراق، قصة حب غريبة وفريدة في آن، لا مثيل لها في التراث العربي، ربما لن نسمع مثلها أبدًا، قصة لا يصدقها الكثير ولا يود أن يتخيلها كيف كانت، قصة حب دامت لأكثر من 19 سنة كلها على الورق. بموت الحب الوحيد في حياة مي تفجرت جراحها كلها دفعة واحدة، القديمة منها والحديثة، وكان المشهد الأخير في حياة مي أسطورة الحب والنبوغ مشهدًا بالغ القسوة، مشهد الموت الذي بدأ بوالدها عام 1929 وجبران عام 1931 ثم والدتها عام 1932، لتحيا مي ما تبقى وحيدة بين أربعة جدران كالسجينة. ساسه بوست