بداية القابضة

رئيس التحرير : عبد الفتاح العوض

رئيس مجلس الإدارة : د. صباح هاشم

من نحن اتصل بنا
أجنحة الشام

حدودها هي حدود العالم.. من أين جاءت اللغة وكيف تطورت؟

الاثنين 02-07-2018 - نشر 6 سنة - 6901 قراءة

هل يمكن تصور شكل حياة الإنسان بدون لغة؟ هل ستكون هناك حياة من الأصل؟ ماذا لو لم يملك الإنسان أداة اتصال وتعبير، تنتقل بها الحضارة من جيل إلى جيل. ما اللغة؟ اللغة البشرية هي بنت التفكير، والتفكير ابن اللغة، وهي ما يفرّق الإنسان عن الحيوان، يعتقد البعض أن سلفنا القديم «الإنسان المنتصب» (Homo-erectus) صنع آلات ليستخدمها في الصيد، وبعدها جاء «الإنسان الحديث»(Homo-sapien) ليصف فعل الصيد في كلماتٍ ورسوم، هذا ما أخبرتنا به رسوم الكهوف. إحساس الإنسان ووعيه بذاته هو ما يجعل منه إنسانًا؛ هذا الوعي قد وُجد بوجود اللغة، التي أمدتنا بصوتنا الداخليّ (inner voice)، الذي نستطيع أن نفكر به، باللغة البشرية يعبر الإنسان عن أفكاره، عن ذاته بعدد لانهائي من الكلمات، للتواصل، للتعلم، للحياة. كل الحيوانات أيضًا تتواصل مع فصائلها نفسها، من النحل والنمل للحيتان والقرود، لكن الإنسان وحده من تطورت لغته إلى شيء أعقد من مجرد رموز منظمة. كما أن لغة البشر تختلف حتى من الناحية الفيزيائية عن لغة الحيوان، لغة الحيوانات هي عبارة عن نداءات في سياقات معينة، للأكل أو للخطر والتهديد. حتى النبات يعتقد الباحثون أنه يتكلم عبر إشارات يرسلها بعضه إلى بعض، لكن لماذا لا يستطيع الحيوان الكلام مثلنا؟ هذا هو السؤال. يرى تيرانس دابليو ديكون في كتاب «الإنسان اللغة الرمز والتطور المشترك للغة والمخ» أن أمخاخ البشر ليست مجرد أمخاخ ضخمة لقردة عليا، وإنما هي أمخاخ قردة عليا مضاف إليها تغيرات مهمة في النسب والعلاقات بين مكونات المخ، ويضيف أنه قد حدثت انحرافات بنيوية جذرية في مقدمة المخ البشري، أدت إلى نشوء قشرة المخ عند مقدمة الجبهة. ومن ثم فقد حدث تحول في شبكة الاتصال، وأثرت الوصلات في المنظومات الأخرى، ويعد تطور القدرات الصوتية نتيجة أكثر منه سببًا لنشأة اللغة وتطورها. بمعنى أن التغيرات الحادثة في تنظيم المخ والمنظومات الحركية لإخراج الصوت هي التي هيأت البشر للكلام.   من أين أتت كل هذه اللغات؟ شَغَل سؤال «هل تؤثر اللغة في تفكير الإنسان؟» الناس مئات السنين، وأولاه علماء اللسانيات اهتمامًا خاصًا منذ عام 1940؛ عندما درس عالِم اللسانيات الأمريكي بنجامين لي وورف لغة الـهوبي، إحدى قبائل السكان الأصليين، في شمال شرق الأريزونا، يقول وورف إن الناطقين بلغة الهوبي يرون العالَم بمنظور مختلف عن الناطقين باللغة الإنجليزية، هذا الاختلاف منبعه اللغة ذاتها، وعُرفت نظريته بنسبية اللغة. لكن الموضوع أعقد من ذلك؛ فالثقافة تتدخل في الكيفية التي نتكلم بها، طريقة الحياة، العادات، وما نلتقطه من الناس الذين نعيش بينهم ونتفاعل معهم. فمثلًا هناك لغة تسمى «Guugu Yimithirr» تتحدث بها طائفة في كوينزلاند في شمال شرق أستراليا، هذه اللغة لا تحتوي على لفظة تشير إلى اليمين واليسار، والأمام والخلف، لذا فإن المتحدثين بهذه اللغة يستخدمون بدلًا منها لفظة شرق، غرب، شمال، جنوب؛ فلا يقولون مثلًا «الولد أمام البيت» بل « الولد شرق البيت» فيعتقد أي متكلم بلغةٍ أخرى أن الولد شرق البيت، وليس أمامه، هذا بالظبط كيفية تأثير اللغة في التفكير، وكيف يجعل اختلاف اللغة الناس يروون الأشياء بمنطق مختلف. في أسطورة بابل الخيالية كان الناس جميعهم يتحدثون لغةً واحدة، ويشكلون قوة مشتركة، ثم بَلبَل الله ألسنتهم، وأصبحت كل جماعة تتحدث لغة خاصة بها، وأصبحوا لا يفهمون بعضهم بعضًا، لكن في الحقيقة نحن لا نعرف إذا كانت هناك لغة أصلية بالفعل، انقسمت إلى كل اللغات الحالية أم لا، لكن الأكيد أن آلاف اللغات الموجودة الآن قد جاءت من عدد لغات أقل. في الماضي البعيد، وبسبب هجرة الإنسان البدائي حين كان العالم يحتوي على عدد سكان أقل بكثير منه اليوم، تشظت القبائل التي تمتلك لغة وثقافة واحدة إلى مجموعات أخرى أقل، وأقاموا بعد الهجرة في مناطق أخرى جديدة، ونشأت حواجز اجتماعية، وسلكت كل مجموعة مسلكًا مختلفً، وتطوروا أيضًا بصورة مختلفة، بعضهم عن بعض، وبعد قرون من التوالد والعيش في ظروف مختلفة، في ظل مناخ مختلف، طعام مختلف، وجيران مختلفين؛ أدى ذلك لافتراق لغوي، وتحولت اللهجة المشتركة إلى لهجات أخرى مختلفة جذريًّا. ثم أخذت تنقسم بزيادة عدد السكان، ونموهم وانتشارهم. في حين وصلت اللغات الحالية في العالم إلى خمسة آلاف لغة ثلثهم في قارة أفريقيا، نجد أن الإنسان قد بدأ الكلام المنطوق قبل الفترة من 50- 100 ألف سنة، لكن كيف حدث ذلك، أو ما النقطة التي بدأ عندها الوعي الإنساني، فهذا غير معروف تمامًا، ويرجح الباحثون وجود لغة بدائية (proto -language)، تطورت بعد ذلك لكلمات ذات قواعد نحوية، وهو ما يقارب أسطورة بابل.   كيف أصبحت اللغة ممكنة؟ يقول أوسكار وايلد: «إن التربية شيء جدير بالإعجاب، لكننا يجب أن نتذكر دائمًا أن الأشياء التي تستحق التعلُم كلها لا يمكن أن تُعلَّم»، كيف يتعلم الطفل اللغة؟ اختلف علماء اللسانيات حول كون اللغة فطرية أم مكتسبة، فيرى بعضهم أن الإنسان لديه ميل غريزي للكلام مثلما يثرثر الطفل بلغة غير مفهومة، فيما يرى رافضو هذه الفرضية أن النفس الإنسانية ما هي إلا نتاج للثقافة المحيطة، ويرون فكرة الفطرية فكرة بالية غير علمية. عالم اللسانيات الشهير نعوم تشومسكي يرى أن جميع أشكال التركيبات النحوية ما هي إلا تنويعات لـ«بنية نحوية كلية»، وأكد أن جميع أمخاخ البشر تظهر للوجود وهي مدمج فيها عضو اللغة الذي يشتمل على المخطط أو البرنامج الأساسي لهذه اللغة، فالأطفال في رأيه «يعرفون» مسبقًا مكونات البناء النحوي، بسبب وجود هذا الجهاز أو «عضو اللغة» الفريد المدمج في المخ البشري، ويفسر أيضًا هذا الجهاز فشل الأنواع الحية الأخرى في تعلم اللغة أو النطق بها. ويرى أن فرضية كون اللغة ظاهرة اجتماعية، بمعنى أن الطفل يكتسبها من محيطه «فقط»، بها جانب إشكالي، فكيف يُعقَل أن يفهم الطفل تعقيدات لغته الأم أو لغاته، معرفة تلقائية في حيز عدة سنوات قليلة، إن ما يسمعه الطفل من كلمات أيًّا كان عددها يفشل في تفسير قدرته على فهم وإبداع كلمات جديدة، وعُرفت هذه الجدلية بـ «شح المُحفّز». فيرى تشومسكي أن اللغة موروثة ومكتسبة؛ فالمعرفة النحوية موجودة بالفعل في التركيبة الأحيائية لنا، جزءًا من الذهن«العقل» مصممًا بغرض اكتساب اللغة. فالطفل يولد بقابلية لغوية، أو في ذهنه قواعد نحوية موروثة تصلح لكل اللغات. وبالتالي فلا يمكن للغة – بحسب تشومسكي- أن تكون رصيدًا من الاستجابات. «اللغة منسوجة بإحكام في التجربة الإنسانية، حتى إنه يصعب تخيل الحياة من دونها» هذا ما يراه ستيفن بينكر الذي يرى أن اللغة هي تأقلم تطوري مثلها مثل العين، التي صُممت أجزاؤها لتقوم بوظائف محددة. في كتاب «اللغة الغريزية» يقول بينكر إن اللغة جزء من تصميم أدمغتنا، فاللغة عنده أداة معقدة متخصصة تتطور لدى الطفل تطورًا فوريًّا مُباغِتًا من غير أي جهد واضح أو تعليم محدد، وتُستعمَل من غير وعي بمنطقها الخفيّ، كما يتماثل فيها الناس جميعهم، من حيث الكيف. ووصفها بينكر بأنها غريزة. فالناس يعرفون كيف يتكلمون بالكيفية نفسها التي يعرف بها العنكبوت كيف ينسج خيوط بيته. لكنها ليست غريزة حقيقية، بمعنى أن الإنسان لا بد في النهاية أن يتعلم اللغة. افتراضية فطرية اللغة، ووجود لغة عالمية تبدو معقولة لولا اكتشاف لغات لا ينطبق عليها فرضية تشومسكي، مثلما اكتشف دانيال إيفريت لغة شعب البيراها الذي يعيش في غابات الأمازون في البرازيل، مكث إيفريت 30 عامًا في دراسة لغته، التي لا توجد بها لفظة تدل على اليمين واليسار، بل يستعيضون عنها بكلمة أزرق وأخضر، ولا تملك لغة البيراها أسماء محددة للألوان، إنما يشيرون إليها بالتشابهات، ولا نظامًا عدديًّا، وبجانب الكلمات يتواصل شعب البيراها أيضًا بالهمهمة والصراخ والصفير، ما استخلصه إيفريت من شعب البيراها المعزول والفريد، أن اللغة ما هي إلا نتيجة للإدراك والثقافة والتواصل. على الجانب الآخر يرى منتقدو نظرية «النحو الكلي» لتشومسكي أنها تمثل افتراضات غير صحيحة عن سياق تعلم اللغة، فمفهومها عن التعلم ضيق كاستقراء، وتتناسى أن خبرة اللغة هي تغذية مرتدة، لأن الأطفال يتغذون من مدخلات كلام، ويكتشفون القواعد المجردة أيضًا لما ينتجونه، فضلًا عن أن تفاعلات اللغة يشارك فيها صغار الأطفال كثيرًا ما يبسطها لهم الكبار. تتغير اللغة من جيلٍ إلى جيل، تظهر مفردات جديدة، تتطور طريقة النطق، حتى المعنى يختلف عن المعنى القديم، في العالم المعاصر تتغير اللغة غالبًا بسبب الاختلافات الاجتماعية، والهجرة، وأثناء تعلم اللغة نفسها كل جيل لا بد أن يعيد خلق كلمات خاصة به، وبصورة طبيعية مثل أن ينطق أحد الكلمة بسرعة أو بتأنٍ، فيسمعها الآخر بطريقة خاطئة، وينقلها كما سمعها؛ فيتغير نطق الكلمة بالتبعية. أما تشومسكي فيقول إن مفهوم اللغة الموحدة، أو اللغة الوطنية مفهوم حديث، ارتبط بصعود الوطنية والتواصل وغيرها، فحتى بداية القرن العشرين كان هناك أناس حول قرى فرنسا لا يستطيعون فهم بعضهم بعضًا، فعليك أن تتعلم في المدرسة اللغة الوطنية، التي تختلف بالضرورة عن اللغة التي تتحدث بها في المنزل. يواصل تشومسكي أننا حين نتكلم عن تغير اللغة، إنما نتحدث عن تغير الكائنات، يوجد لدينا خليط من اللهجات، وهذه الخلطة تتغير مع مرور الزمن، سواء بسبب الاحتلال أو بسبب تغيرات سياسية، أو لإعادة رسم الحدود في أماكن مختلفة. يقول تشومسكي إن اللغة تتغير عبر الأجيال هيكليًّا ودراماتيكيًّا، كذلك بتطور التكنولوجيا نحصل على مفردات جديدة، بالنظر إلى اللغة الإنجليزية نجد أنه قبل الاستعمار كانت توجد مئات، وربما الآلاف من اللغات المتداولة، فيما يسمى الآن الولايات المتحدة. قبل إبادة السكان الأصليين، وذلك لأن الغزو والاستيلاء جرى بيد متحدثين من فئة واحدة، والذي أدى بدوره لوجود لغة واحدة متجانسة.   ساسه بوست


أخبار ذات صلة

تأثير التعليم على الفيزيولوجيا

تأثير التعليم على الفيزيولوجيا

إشراف.. الأستاذ الدكتور رشاد محمد ثابت مراد

المايسترو ميساك باغبودريان:

المايسترو ميساك باغبودريان:

من المحزن عدم وجود أي برنامج يتحدث عن الموسيقا في قنواتنا التلفزيونية