التكنولوجيا ساعي بريد معاصر بلا نكهة أو حميميّة أو قلق انتظار!
ساعي البريد الذي أعنيه هنا، ليس ساعي بريد «بابلو نيرودا» بطل الرواية التي قرأناها، ودخلنا خباياها، لنحبها في النهاية متقمصين شخصية ما تقول مقولتنا ونكون ملزمين تجاهها.
ما يحدث عادة في أغلب الروايات المشغولة بعناية، حيث يكون الراوي بشخصيتيه كاسم يتموضع على الغلاف، أو كسارد للحكاية، وصائغٍ لفنيّة الروي، والممسك بالأحداث الآخذة شكلها القدري، والأخرى المشكِّلة للمتخيل والفضاء، والمحور، أو المنطقة الرئيسة في بناء المتن الحكائي، والعقد والانفراجات، هذا الحدث يخص الرواية عموماً، إلا أن ما يجمعني هنا مع الرواية هو القسم الأول من العنوان فقط، والساعي هو أيضاً ليس حامل الرسائل التقليدي، وكما هو معروف، تقلص دور هذا الموظف، الذي ارتبط اسمه بشاعرية معينة، أو كان له دور في صناعة الأغنية، أو حتى بعض الأفلام، ما رأيناه كثيراً بالأبيض والأسود، فرغم حدية التنافسية بين اللونين الأبيض كدليل على النقاء والتفاؤل، والأسود التشاؤم والانكسار، فإننا نحنّ إلى تلك المساحات التي نأينا عنها بسرعة هائلة، تحملنا التقنية مسرورين بها، وسرعان ما نكتشف خسارات فادحة في أرواحنا، بسبب إيماننا المطلق بتلك التقنية، ولنصبح في النهاية مقاتلين عُزّلاً، نقاوم لنخفف قليلاً من احتلالاتها واستعمارها الذي مهدنا له وأعطيناه الحق والمشروعية، بل عملنا لنكون جزءاً منه ولا نشعر بتمايزنا عنه، إلا إذا قتل أحدنا أو ألغاه نهائياً من وجوده.. ساعي البريد اليوم قد يكون (مسج) في الموبايل أو على «النت» أو سواهما، وأنت جالس قد تبعث بالرسالة الواحدة إلى أشخاص عديدين.. لكن حميمية الرسالة انتفت، ونكهة رائحة الورق ومتعة الحس بحميمية الورق تلاشت، بعثرها هذا الزمن الرديء. ما من ورقة تزينها بالورود أو تعطرها أو تكتب في زواياها ما فاتتك كتابته، والمعنى أنك لا تعيش القلق هل وصلت الرسالة أم لا؟ هل كان ساعي البريد أميناً فيوصلها للعنوان؟ هل أخطأت في كتابة العنوان؟، هل سيكون من أرسلت له الرسالة موجوداً في البيت فيستلمها بنفسه، ولن يعبث بها أطفاله الصغار، وهل…، وهل؟!. والأدهى في ساعي البريد اليوم (النت) أو (الهاتف النقال) أنه بلا أحاسيس، إذ تكون النغمة راقصة أو كوميدية، ولكن ما إن تفتح حتى يقول لك: «البقية في حياتك، لقد ماتت أمك»، أو يقول لك: صباح هذا اليوم مات أبوك. . والأسوأ للمشتغل في الحقل الإبداعي، هو موت آبائه الروحيين الذين شكلوا بعض صوته وشخصيته الإبداعية، وأراد الواحد منا أن يقتلهم كآباء أدبيين، لكنه كان يريد في الجهة المقابلة أن يطول عمرهم ليقرأهم ويطوّر من تجربته بتجربتهم.
كنت ومازلت أتوق إلى رسائل تأتيني إلى صندوق بريدي المعدني، في تلك المدينة البعيدة والمنسية، وليس الإلكتروني. حتى إن كانت المضامين هي هذيانات أصدقاء شعراء وقصاصين، وجدوا في أنفسهم لفترة طويلة أنهم نموذج حي، وبطل قادر على تغيير الواقع، أو إضافة (منكهات) إليه تخفف من وطأته وقسوته المفرطة.. كلنا بحاجة لأن نصل بالسرعة القصوى إلى ما نريد من الأمكنة التي نحب، ولمن نحب، لكننا في المقابل نطمح لأن نتعب قليلاً، لأن نشعر بلذة التعب ونشوة الوصول، ربما هذه الأشياء لا يشعر بها كثيراً من وُلِدَ الآن في عصر الإنترنت والوجبات السريعة.
ما زلت أحن لرؤية ساعي البريد، راكباً دراجته بقبعته المتميزة، يناولنا مكتوباً من أحد الذين نحبهم. أو أن يدس لي خلسة رسالة ورقية في علبة بريدي المعدنية، وتكون الفرحة أكبر، حين تكون الرسالة من صبية، حتى وان كانت باسم مستعار، وهو ما حدث معي في المرحلة الثانوية، وفيما بعد حولت تلك الحالة إلى قصة قصيرة سميتها: (ساعي بريد القلوب الحزينة).
تشرين