«جارات أبي موسى»، عنوان روائي سمعت عنه كثيرًا، لكن لم أهتم بقراءة هذا العمل الروائي إلا قبل أيام قليلة وأنا في إجازتي السنوية. صدرت الرواية سنة 1997، وتبلغ عدد صفحاتها 192 صفحة.
عندما أتم قراءة رواية معينة فذلك يعني شيئين اثنين:
أولًا: أن الروائي نجح في إقناعي بإنهاء روايته حتى آخر حرف فيها.
ثانيًا: أن في العمل الروائي خصيصة معينة لم يسبق لي أن صادفتها في ما قرأته من الأعمال الروائية.
رواية «جارات أبي موسى» للمؤرخ والروائي المغربي ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الحالي أحمد التوفيق، جعلتني أحترم الرجل كروائي متمرس وكمؤرخ خبر خبايا المجتمع الذي ينتمي إليه ونقل لنا من حيث لا يدري أنثروبولوجيا مجتمعات ما قبل عصر التقنية.
تغيرت نظرتي للرجل، بعد قراءتي لروايته «جارات أبي موسى»، وترسخ لدي اعتقاد كبير بأنه يعي ما يفعل سواء في تدبيره للحقل الديني أو في علاقته بالسلطان. وكيف لا يكون على دراية عميقة بسكناته وحركاته، وهو المطلع على صفحات من تاريخ المغرب في عهد القلاقل والأزمات، وفي زمن التمرد والسيبة، وفقه كيف يسوس الساسة، وخبر عبر التنقيب التاريخي أسرار مملكة السلاطين الذين توافدوا على تطويع الرعية وإخضاعهم، كما مكنه علم التاريخ من الاطلاع على دقائق حيوات السلاطين ففقه بذلك علم المعاملة مع الملوك والحكام.
رواية «جارات أبي موسى» لا تخرج عن تخصص الرجل، فهي كما وصفها بعض النقاد تعتبر رواية تاريخية واقعية، تنقلنا للقرن الـ14 زمن الحكم المريني بالمغرب، أوج القلاقل السياسية والاضطرابات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية.
كتبت الرواية بلغة تراثية منتقاة بعناية فائقة، مستمدة من معجم تاريخي أصيل جعل أحداث الرواية منسجمة مع العبارات الموظفة، بشكل يستحيل معه التعبير عن مجريات الأحداث بغير لغة كهذه.
تقتحم الرواية عوالم السلطة والسياسة، وتدخل لعمق الحياة السلطانية، وتنقل لنا تمفصلات الحريم والخدم والعبيد، وتصف بدقة أوجه التسلط والجور الصادر عن ممثلي السلطان.
لا يكتفي أحمد التوفيق بهذا فقط، بل يجعلنا نكتشف دواخل شخصيات الرواية، ونتعاطف مع شخصية دون أخرى ونصبح نحن هي وهي نحن. الرواية تحمل في طياتها شخوصًا من مختلف المشارب الاجتماعية والثقافية والسياسية، بين الحريم، والسلطان، وخدام السلطان وممثليه، والفقهاء، والمفتي، والتاجر، وصولًا لممتهنات العمل الجنسي المأجور في فندق «الزيت» بمدينة سلا الخاضعة لنفوذ عامل السلطان «جرمون».
عوالم الرواية
تدور أحداث الرواية حول شخصية متميزة «شامة»، تلك الغانية التي نشأت في حضن مولاتها الطاهرة زوجة قاضي سلا ابن الحفيد، فشربت من أنفة خاصة الخاصة وأخذت من مناقب علية القوم ما جعلها من الأشراف لا من الخدم، كما كانت مدللة ومحبوبة لدى مولاتها الطاهرة. كانت إلى جانب وجهها الصبوح، وإطلالتها البهية، وإشراقتها المتجددة، على دراية بطرف من علم الشرائع والأدب، وكانت ماهرة في عزف العود والغناء.
ستتغير أحوال الشقراء الجميلة «شامة» بعد الزيارة التي شرف بها أبو سالم الجورائي مستشار السلطان القاضي ابن الحفيد. فبعد أن وصل مستشار السلطان لدار قاضي سلا، وفي انتظار وجبة العشاء التي حضرت على شرف مبعوث السلطان، دخلت خادمة سودانية تحمل الغسيل إلى جانبها شامة تحمل البقراج وعلى كتفها فوط بيضاء، تفاجأ ابن الحفيد، فهو لم يكن يتوقع دخول شامة على مجلس الجورائي، الذي أضحى كل من في حضرته مشدوهًا بهذا الجمال الرباني المهيب، ومسبحًا باسم خالقه.
أعجب الجورائي بالشقراء شامة، تقدمت نحوه ووضعت أمامه الطست للغسيل، ومد يديه إلى الماء، ليصرخ على حين غرة صائحًا: أحرقتني بنت الخائنة!
لم يكن الماء ساخنًا لدرجة تجعل المبعوث السلطاني يصرخ بهذا الشكل الذي جعل شامة ترتبك وتحمر وجنتاها خجلًا. وما كان من سيدها إلا أن طلب من شامة أن تجلس مكان الجورائي ليصب عليها من ذات ماء البقراج، فكان الأمر كذلك، واسترجعت شامة سكونها وزال اضطرابها، فالماء وإن آلمها قليلًا فإنه لم يكن بتلك الحرارة التي تسلخ الجلود.
طلب المستشار السلطاني يد شامة للزواج، كتعويض له عما حدث، فكان وقع الصدمة على ابن الحفيد كبيرًا فهي في مقام أبنائه، ولا يستطيع أن يرد طلبًا لصديق السلطان ومشاوره. فكان ما كان وعقد القران، ورحلت شامة مع زوجها الجورائي وحملت معها اسمًا جديدًا «ورقاء».
ستعيش ورقاء أو شامة تجربة جديدة في قصر الجورائي، وستكتشف ذاتها كما لم تكتشفها من قبل، وستعرف أناها المعطاءة، ستدبر لها المكائد من طرف حريم مستشار السلطان، وستعيش هناك عيشة الحرمان بمعناه الروحي والعلائقي. حرمان ناتج عن عدم قدرة الجورائي على ربط جسور الألفة مع شامة بالرغم من جمالها الأخاذ، وفتنة جسدها الملائكي.
إن أقصى ما يقوم به الجورائي هو أن يطلب من ورقاء أن تكشف جسدها، وكلما مكنته من ذلك، أجهش بالبكاء، ويسمع له أنين كأنين الطفل، وتحتضنه شامة حتى يسلم نفسه وجسده للنوم، لتبقى ورقاء في حيرة من أمرها.
ستعرف ورقاء حقيقة ما وقع وما يقع وما سيقع، فالجورائي لا يستطيع إلى مفاتنها سبيلًا، ولا سلوان له عدى التأمل في جسدها النوراني. بدأت شامة تحس بضيق شديد لا تقوى على تحمله، فهي تعطي كل ما يمكن لزوجها غير أنها لا تأخذ منه أي شيء. دار حديث ذات مرة بين ورقاء وخادمتها «الخودة» حول أحد العبيد بالقصر وهو «فاتح»، فقالت لها ورقاء لما رأت تأثر الخودة بضخامة حجمه: إنه خصي. لتجيب الخادمة قائلة: «إن الحكام الذين يخصون مساعديهم ليخفوا أن فحولتهم هم ناقصة أو منعدمة». فردت ورقاء: «والكية في القلب لنا نحن النساء».
حرمان في أقصى درجاته تعيشه ورقاء، فلا القصور ولا الخدم ولا حياة الرفاه جعلوها تسعد في حياتها الجديدة. غير أن حياتها ستتغير بعد عزم الجورائي الخروج في حملة سلطانية في أسطول مهيب، وكانت شامة ضمن المرافقات لزوجها إلى جانب جيش من الخدم والحريم. سيلقى الجوارائي حتفه بسبب غرق السفينة التي تقله، وستنتقل شامة من جديد إلى حضن بلاط السلطان الجديد الذي بويع مكان أبيه من طرف عدد من قبائل المغرب لما وقع ما وقع للأسطول السلطاني، وهي الآن تحت إشراف كبريات زوجات السلطان المخلوع التي ستخفف عن شامة وقع ما ألم بها فقالت لها تعليقًا على وفاة زوجها: «أطلق الله سراحك يا ابنتي».
ستتزوج شامة بـ«علي سانشو»، نصراني حديث العهد بالإسلام، ستجد في علي ما لم تجده في مشاور السلطان، بالرغم من عيشهما في غرفة بفندق الزيتون، بغض النظر عن المضايقات التي يتعرضون لها باستمرار من طرف «جرمون» عامل سلا، طمعًا في أن تصير شامة ضمن حريمه بالقصر. ستجد شامة في «أبي موسى» المتصوف الرباني، ذاتها الروحانية وستستطيع عبر كرامات أبي موسى أن تنجو من مكر جرمون، والتخلص من ثقل الحياة المادية وأغلالها المكبلة.
لأبي موسى كرامات عديدة، كانت محط عجب القوم، واستنفار السلطة، فبعد عودة وفد الحجاج لمدينة سلا، صرح بعضهم قائلًا إنه رأى في الطواف وأثناء قضاء مناسك أخرى أبا موسى، غير أن من يعرفون أبا موسى ويجاورونه أنكروا الخبر، وأكدوا أنه لم يغادر مدينة سلا ولا خرج إلا لمامًا من غرفته.
استنفر العامل مخبريه للتأكد من صحة ما قيل، وتأكد له أن المعني لم يغادر المدينة قط، واجتهدت شرطة العامل في إحضار ثلاثة من الحجاج الذين نشروا الخبر، فأكد واحد منهم صحة ما قيل، بينما نفى الآخرون الأمر وقالوا بجواز وجود شبه بينه وبين شخص آخر، وتم تسريح الشاكان على غرامة لأنهما ساهما في نشر الإشاعة، بينما جلد الثالث ثلاثين جلدة تأديبًا له.
ولكي يقوي العامل حكمه أمر برأي كبير المفتين بالمدينة، غير أن الفتوى لم ترق لجرمون فقد جاءت كالآتي:
اعلم، حفظ الله خدام سيدنا، أن الأحكام لا يمكن أن تمضي على أساس الإقرار بإمكان وجود شخص واحد في مكانين متباعدين في آن واحد. أما السفر طيًا بالطيران أو غيره فقد يكون بالروح وقد يكون حتى بالجسد على ما عرف للصالحين وتواتر في أخبارهم قبل هذا الزمن الذي تفشى فيه المنكر وشوهد فيه الجهر بالموبقات.
قرئت للعامل فتوى المفتي، وأظهر له مستشاروه ما فيها من خطر سياسي، فغضب جرمون، وأرسل في طلب المفتي.
وبعد أن أذن له العامل بالجلوس، باغته قائلًا: «لقد ورطتنا يا «قولان» إذ أحسنا بك الظن واستفتيناك، وورطت نفسك أيها المفتي، وأنكرت الرعاية ولم تشكر الجميل، وخالفت ما كان عليه السلف (…)، فما الذي حملك على الغواية حتى شططت في مكتوبك الركيك وأخذت تشتم عهد سيدنا المعظم وتضعه دون عهد من سبقه حيث وصفته بزمن تفشي المنكر والجهر بالموبقات؟».
ارتعدت فرائص المفتي وامتقع لونه وأصابه الأفكل، فقال بعد أن هدأت أنفاسه وانتظمت: «يا سيدي، حاشا أن يكون قصدي بتلك العبارة لمز عهد سيدنا المجيد، وإنما قصدت بالزمن زمن الذين يجحدون نصيحة سيدنا ويكفرون بنعمته من عصاة أمره ولم أقصد الواقفين عند حدود الله من خيرة رعيته».
لم تشفع للمفتي كلماته، فأصدر العامل قراره قائلًا: «أعفيناك من الإفتاء حفظًا لك وحفظًا لرعية سيدنا من سقطاتك، فالزم دارك من الآن».
إن هذا المقطع القصير المقتبس من الرواية، ليؤكد بشكل جلي أن توظيف الدين خدمة للسياسة كان دائمًا حاضرًا في تاريخ المغرب، بل وما زلنا نشهد ذلك ليس في المغرب فقط، بل في جل البلدان ذات الأنظمة الكليانية التي تستمد أسسها من الموروث الثيولوجي الإسلامي. ويطرح في وضع كهذا خياران أمام رجل الدين إما مطاوعة «الإمام» وتوظيف الحيل الشرعية لنصرة سياسة «الإمام» ونهجه في تدبير الدولة حتى وإن كانت فيه مظلمة للمحكومين، وإما أن يكون معرضًا عن سياسة «الإمام» وهؤلاء قلة قليلة. سيشيع خبر عزل المفتي، وستتعمق حقيقة العامل الجائر في نفوس أهل سلا، كما ستزداد كرامات أبي موسى، يومًا عن يوم.
ستعرف الدولة سنوات عجافًا، انقطع فيها المطر، واشتد فيها الجوع، وانتشرت الأوبئة والأمراض، وأكل الآدمي أخاه، وانعدم الأمن، واسودت الوجوه، فأكلت الجيف وخشاش الأرض.
وفي عز السنوات العجاف، كان أبو موسى يضع أمام غرفة جاراته بالفندق سمكتين كل أسبوع، ومدًا من دقيق عروق برية تصلح لصنع خبز لا أطعم منه ولا ألذ، فعجبن لكرامات هذا الرجل، واستغربن لجوده في أوج المجاعات القاتلة!
أمر العامل بصلاة الاستسقاء، واختلف الأئمة والوعاظ على إمامة الناس مرات ومرات، غير أن الغيث لم ينزل بل هبت ريح عاتية سقطت على إثرها ضفادع وحجارة من السماء.
أحس العامل جرمون أن هيبته ومكانته بدأت في التراجع بين الرعية، مقابل ازدياد مكانة العارف بالله أبي موسى، فاقترح عليه أحد مستشاريه أن يأمر أبا موسى بإمامة الناس، وقال صاحب الفكرة: «إذا كان له من كرامة فليظهرها في رفع ما نزل بالناس وإلا فلينف من هذا البلد».
لم يعر أبو موسى أدنى اهتمام لطلب العامل، فسجن وكان مبتسمًا، فدعاه الناس لإمامتهم والاستجابة لدعوة العامل المستبد، فاستجاب صاحب الكرامات لطلبهم، لكنه خرج قبل الموعد الذي حدده العامل، فطرق باب جاراته ومن بينهن شامة، وقد كانت جاراته ممن جار عليهن الدهر، فولجن عالم من لا عمل له، علم العارف بالله بما في قلوبهن، وتأكد بأن دعواتهن لن تردها السماء، فكن بمعيته في طلب الغيث، فرفعت الأدعية للسماء وامتزج الدعاء بالبكاء، والخشوع بالحلول.
وفي تلك الليلة، تلبدت السماء بالغيوم، وجاء الفرج ببركة دعاء النساء وكرامات العارف بالله، ليسلم الأخير روحه لمولاه بعد هذا الفرج العظيم، وتخاصم القوم حول مكان دفنه، غير أنهم احتكموا للمرأة التي كانت عن يمينه حين التضرع والطواف، فقالت شامة: لا تدفنوه بأي من المقبرتين، ادفنوه في مكان يطل على البحر.
لتنتهي الرواية بهذه العبارة.
على سبيل الختم
هي إذن رواية تاريخية، سياسية، صوفية، أبدع عبرها ومن خلالها أحمد التوفيق ونجح في نقل جزء من تاريخ المغرب في قالب أدبي مشوق. ويمكن أن نستنتج أن تاريخ المغرب القديم لا يختلف كثيرًا عن حاضره، وربما عن مستقبله كذلك، فنفس البنيات التقليدية لا تزال تشتغل داخل النسق السياسي، كما أن دار السلطان لا تزال تحتفظ بالعبيد والخدم وتعمل على تأبيد طقوس الماضي.
وكما أشرت سابقًا، فإن موقع أحمد التوفيق وزيرًا للأوقاف والشؤون الإسلامية منذ سنة 2002، جعله يدرك جيدًا ضرورة استحضار علم المعاملة مع السلطان فكسب بذلك ثقة «الإمام»، فقد أبان التوفيق منذ توليه المنصب الوزاري عن حنكته السياسية ضمن مجال حساس يشكل قطب رحى النظام السياسي. لكن التوفيق المؤرخ، استطاع تدبير الحقل الديني وفق ما يريده «الإمام»، وكأن التوفيق شخص من شخوص روايات «جارات أبي موسى» فلنقل إنه مفتي جرمون، غير أن أحمد نجح في كسب ثقة «الإمام» في حين عزل المفتي وأمر بلزوم داره.
تدبير الحقل الديني بالمغرب، تعزز بوجود التوفيق في وزارة حساسة كوزارة الشؤون الإسلامية، لما للرجل من اطلاع على دروس تاريخ المغرب، ولقدرته العجيبة على تطويع الخطاب الديني لصالح التوجه السياسي للدولة، وهذا ما يلحظه المستمع البسيط سواء لخطب الجمعة الموحدة التي تتكلف الوزارة المذكورة بكتابتها وطباعتها وتعميمها على أئمة المساجد، أو في الدروس الحسنية التي تلقى على السلطان في شهر رمضان.
وتبقى رواية «جارات أبي موسى» عملًا روائيًا قابلًا للتحليل والقراءة من زوايا عديدة، ومدخلًا لفهم حاضر المغرب من خلال تاريخه القديم.