لماذا يكره المتطرفون الفن؟ الموسيقى نموذجًا
دأب الناس على حصر الفنون في الموسيقى والغناء فقط، لكن الفنون في الحقيقة تنقسم إلى ثلاثة أنوع وهي الفنون التشكيلية مثل الرسم والنحت، والفنون الصوتية مثل الموسيقى والغناء، والفنون الحركية مثل الرقص والباليه وغير ذلك، ولا نستطيع أن ننكر أن الفنون تشكّل جزءًا كبيرًا من حياة الإنسان ولم تدع أي مجال إلا ودخلت فيه سواء كان ماديًا أو روحيًا، والدليل أن هناك من يطلق على الفنون مسمّيات «لغة الروح» ولغة الشعور والباطن و«لغة الحدس»، المهم أن المتطرّف المسلم من جميع المذاهب لا يلتفت لهذه الأمور، لأنه نشأ على الاستخفاف بالحياة الإنسانية وإهمال مشاعر الإنسان، فالخطاب الديني الإسلامي سواء شيعة أم سنّة لا وجود للمسلم فيه أبدًا، إذ يتم فيه قهر خصوصية الفرد وإجباره على الذوبان القسري في الجماعة مثلما بيّنا ذلك في مقال سابق يحمل عنوان «كيف تأثر الفقه الإسلامي بالعقلية العربية البدوية»، العجيب أن حتى المتطرفين أصحاب الأصفار في مجال الفن خطاباتهم التكفيرية الإرهابية تقريرية جوفاء مملة تبعث على التثاؤب وتنقصها البلاغة والجاذبية ومحشوة بالرطانة والسماجة. لو نقرأ تاريخ الفقه الإسلامي نتعجّب من الكم الهائل من التحريمات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والمشكلة أن أغلبيتها جاءت من أهل التقليد، فالقاعدة الفقهية البسيطة تقول إن الأصل في الأشياء الإباحة، فإن لم يرد نص شرعي قطعي الدلالة حول تحريم الشيء فهو ليس بحرام، لكن على ما يبدو أن الكثير لم يعجبهم صرامة القرآن في التحريم ووضوحه واستحالة تأويل آيات التحريم وذهبوا وقالوا إن السنّة هي أيضًا مصدر التشريع، فوضعوا السنّة في صدام مع القرآن عوض أن تكون في وفاق معه، فالمفروض أن السنّة النبوية هي التطبيق العملي للقرآن، والاجتهاد البشري وكلاهما قابلان للنقد لأن التطبيق والاجتهاد هو جهد بشري، وبالتالي السنّة ليست كتابًا تشريعيًا موازيًا للقرآن، فالرسول نفسه ليس مشرّعًا، بل المشرع هو الله والمبلّغ هو الرسول عليه الصلاة والسلام، هذه السنّة وإلا لماذا يكفر البعض بأحاديث رضاعة الكبير وأمرت أن أقاتل الناس ويقول إنها ليست سنّة رغم بذل فقهاء الحديث جهدًا في إثبات صحّتها؟ المهم أن ثقافة التحريم والتكفير تنتشر في المجتمعات المعطّلة والمتخلّفة، مثلما ابتكر الفقهاء أكثر المعايير تشددًا وهي «سد الذرائع» فهذا المعيار يمنع تحرّك المسلم خشية كذا وكذا فيبقى جامدًا دون حركة إلى أن يأتي غيره ويتقدّم، كما أن سيادة ثقافة التحريم في مجتمعاتنا قتلت دون شك ملكة النقد وعقلية الإبداع، فسحقت وجدان الشاب المسلم وشطبت أي إحساس لديه بالفن والجمال والذوق الإبداعي ولهذا أصبح يميل إلى الفكر الظلامي والتكفيري فسهلت المهمّة على التنظيمات الإرهابية في تجنيد الشباب المسلم وخداعه بالجنّة عوض أن يبني جنّته على هذه الأرض. مسألة الفنون أخذت شوطًا كبيرًا في مجال الفقه الإسلامي، وبالخصوص قضية الموسيقى، فتضاربت الآراء الفقهية بين المسلمين طوال القرون الخمسة الأولى، وأزعم أن التحريمات أتت لأسباب اجتماعية وثقافية أكثر منها دينية، لأن ظهور مسألة تحريم الموسيقى تزامنت مع توسّع الإمبراطورية الإسلامية ودخول الكثير من غير العرب إلى الإسلام فحملوا معهم ثقافاتهم، فعندما دخل الهنود في الإسلام أتوا بلعبة الشطرنج التي لم يعرفها العرب وأصبحوا من المولعين بهذه اللعبة، كما ساهم احتكاك العرب بالفرس بتأثر العرب بطريقة لباس الفرس وأصبحوا يقلّدونهم، وهذه الأمور بطبيعة الحال لم تكن خافية على الفقهاء المسلمين والمحافظين خاصة، فخافوا على الإسلام من الضياع والانقراض، وهذا خطأ كبير، فلم يسبق في التاريخ البشري أن تسبّبت ثقافة مجتمع بانقراض ديانة ما، لقد كان الأصل التركيز على تعزيز أسس الإسلام الصحيحة وتكييف الإسلام مع تلك الثقافة، وليس بالتضييق على المسلمين وفصلهم عن الواقع. المهم أن التطرّف الفقهي والسلفي بالتحديد، استخدم نفس أساليب المتصوّفة في الترغيب والترهيب وهي اختراع الأحاديث ونسبتها للرسول من أجل تخويف الناس، لذلك يتجاهل الكثير من الناس أن من الأسباب التي أكثرت من الوضع والكذب على الرسول، انتشار الزهد والتصوّف والتقليد بين المسلمين، بحيث كان المتصوّفة والزاهدون يضعون الأحاديث في الترغيب والترهيب، حتى أصبح الإسلام دينًا إرهابيًا دون منازع، وزعموا أن هذه الأحاديث تحض الناس على الابتعاد عن المعاصي والمنكرات، وكانوا يضعون هذه الأحاديث احتسابًا للأجر عند الله! ففي كتاب (معرفة أنواع الحديث) لابن الصلاح يقول: «والواضعون للحديث أصناف، وأعظمهم ضررًا: قوم من المنسوبين إلى الزهد، وضعوا الحديث احتسابًا في ما زعموا، فتقبّل الناس موضوعاتهم، ثقة منهم بهم، وركونًا إليهم». فلا يختلف المحسوبون على الزهد والتصوف هنا، عن الذين اخترعوا الحديث لنصرة فقهائهم، أو نصرة السلاطين أو لتغليب آراء فقهية سواء كانت آراؤهم أم تعصّبًا لآراء شيوخهم، الكل في سلّة واحدة، فالكل يكذب على الرسول، ويقوّله ما لم يقل. لن أناقش قضية الفنون من جهة شرعية لأنه سيتّهمني البعض بالتحيّز للآراء الفقهية المتضاربة في ما بينها أصلًا، لأن الفن في الحقيقة ليس له أي وجه شرعي، لكن بما أن الأدلّة العقلية تحتل حيّزًا من الشريعة وأن العقل هو مناط التكليف، فسنناقش القضيّة من وجهة نظر عقلية، فلنأخذ على سبيل المثال الموسيقى، نحن نعلم أن الموسيقى مصدرها الإنسان فهو الذي يصنعها بآلاته، فهي أثر لحني من التفاعل بين الإنسان والآلة، ونفس الشيء ينطبق على الإنسان فكلامه العادي يمكن أن يحمل لحنًا، فإذا حرّم الله الموسيقى فلماذا لم يحرّم أيضًا الكلام بما أنّهما من مصدر واحد؟ لقد تكلّم القرآن حول الصوت وضرب المثل بصوت الحمير واستقبحه فلماذا لم يستقبح أيضًا الموسيقى؟ لماذا عندما يحرّم الله شيئًا فإنه يسد جميع الطرق المؤدّية إليه، فلماذا لم يفصّل الله تحريمه للموسيقى؟ واكتفى باستنكار بعض الأصوات مع عدم تحريمها، إن وجود الاستقباح يعني تواجد الاستحسان أيضًا ومنه نفهم أن الله أراد بمثله حول صوت الحمار أن يقول لنا إن في الطبيعة توجد الكثير من الأصوات الحسنة ومنها الأصوات الموسيقية. ويمكن أن نسجّل ضحكة صفراء حول بعض ما يزعمونه وينسبون للرسول الحديث الذي يقول إن الرسول لم يحرّم كل الآلات الموسيقية، بل سمح بالدف، فكيف يعقل أن يسمح الرسول بالدف ويرفض الآلات الأخرى؟ وما حكم سماع الموسيقى التي يتم صناعتها بالحاسوب دون اللجوء إلى الآلات بواسطة الكثير من البرامج المتخصصة في ذلك؟ هل يوجد الذوق في التحريم أم التحريم هو من أجل مصلحة البشر؟ وهناك سبب مشهور عند الفقهاء جعلهم يحرّمون الموسيقى وهو قولهم إنها تلهي عن ذكر الله، فخرج علينا من يقول إن الموسيقى والقرآن لا يلتقيان في قلب واحد، وهذا قياس فاسد، فمنذ متى كان ضد القرآن هو الموسيقى؟ إن ضد القرآن هو اللاقرآن، وأزعم أنه هو المقصود بوصفه من طرف الله بلهو الحديث، ولهو الحديث هذا هو الذي يلهي عن القرآن ويدّعي الوحي والعصمة والقداسة والذي يبعد الناس عن اتباع القرآن ويجعله مهجورًا. وفي الأخير الفنون والموسيقى كنموذج، تحريمها جاء لسبب اجتماعي ثقافي أكثر منه دينيًا فلو نعالج قضية الفنون بواسطة ما يسمّى فقه المقاصد الذي يقوم على حفظ المال والنفس والعرض فأين ضرر الموسيقى على العوامل الثلاثة السابقة؟ فإن قالوا إن الموسيقى تسهّل في نشر الفواحش والأعراض نقول إن لكل أمر مباح حدّه، فإذا زاد الشيء عن حدّه انقلب إلى ضدّه، وليست القاعدة صالحة على الموسيقى فقط، كما أن البحث العلمي يؤكّد أن ما من تحريم موجود في القرآن إلا وله سبب وجيه، فتحريم الخمر له سبب علمي، ولحم الخنزير كذلك وسائر التحريمات الأخرى، أما العرب في وقت الرسول فلم يكونوا على مستوى يسمح لهم بفهم أسلوب البحث العلمي لكي يفهموا علل التحريم، ولم يسمح لهم مستواهم العقلي بفهم علم البيولوجيا والطب وهندسة الجينات والقنابل النووية، وإلا لكانوا سبقونا إليها، فليأتِ المتطرّف والمتأسلم الذي يزايد على الناس في دينهم، وليعطنا سببًا علميًا على تحريمه للموسيقى والتي بيّن علم النفس الحديث تأثيرها الإيجابي على الإنسان، وقبل ذلك نريد القول الفصل في مسألة الحلال والحرام، فإذا كانت أحاديث تحريم الموسيقى صحيحة، فهل الرسول مشرّع إلى جانب الله؟ ألم يقل القرآن إن الرسول هو مبشّر ونذير؟ فمن سنصدّق؟ هل نكذّب القرآن ونصدّق الأحاديث المدوّنة بعد الرسول بمئتي سنة؟ نحن نفضل تصديق القرآن على أيّة حال فهو الحكم في كل شيء. ساسه بوست