بداية القابضة

رئيس التحرير : عبد الفتاح العوض

رئيس مجلس الإدارة : د. صباح هاشم

من نحن اتصل بنا
أجنحة الشام

عندما لبس المصريون الأقنعة وخرجوا في كرنفالات شعبية احتفالاً بالنيروز

الخميس 14-09-2017 - نشر 7 سنة - 5915 قراءة

"النيروز"، اسم اقترن دائماً بالثقافة الإيرانية والكوردية، إذ يعرف بأنه رأس السنة الفارسية الذي يصادف يوم الاعتدال الربيعي، وتتكون كلمة "نوروز" الفارسية، من "نو" والتي تعني جديد و"روز" والتي تعني يوم، ويحتفل الإيرانيون والأكراد والترك به يوم الحادي والعشرين من آذار/مارس. لكن ما لا يعلمه كثيرون، أن للمصريين عيد أيضاً يسمى بـ"النيروز"، وهو رأس السنة القبطية التي يحل موعدها يوم 11 سبتمبر/آيلول من كل عام والموافق ليوم 1 توت من السنة القبطية المصرية، والتي تعد أقدم وأدق تقويم شمسي في التاريخ، والذي تم استيحاء التقويم الجريجورية منه عقب احتلال الرومان لمصر. بحسب كتاب "أبناء الفراعنة المحدثون"، أنّ كلمة "النيروز" أتت من كلمة قبطية هي "ني - يارؤو" والتي تعني الأنهار، وهو "اختصار لـ'ينارو أزمو رووؤو'"، وهو ابتهال للخالق لمباركة الأنهار، وذلك لأن هذا الوقت من العام هو ميعاد اكتمال موسم فيضان النيل، وعندما دخل اليونانيون أبدلوا الراء باللام، ومنها اشتق العرب لفظ النيل العربية. ومن مظاهر الاحتفال عند الأقباط قديماً بعيد النيروز، أن يخرج المسيحيون في هذا التوقيت لزيارة الأماكن التي دفنوا فيها الشهداء الذين سقطوا في "عصر الاستشهاد" على يد الإمبراطور الروماني "دقلديانوس"، الذي أصدر مراسيم باضطهاد المسيحيين في كافة أنحاء الإمبراطورية. وقد احتفظ الأقباط بهذه العادة حتى أيامنا فيما يسمونه بـ"الطلعة"، ويأكل المسيحيون في ذكرى النيروز البلح والجوافة، فالبلح بلونه الأحمر يرمز إلى دماء الشهداء، أما الجوافة فترمز إلى طهارة القلب.

"أبو نيروز" المصري

وبعيداً عن مظاهر الاحتفال العادية هذه، فللمصريين طقوس احتفالية غريبة اختفت تقريباً مع مرور الوقت، إلا أنها ظلّت مستمرة حتى وقتٍ قريب في بعض القرى والمناطق النائية. ومن ضمن هذه الاحتفالات ما يعرف بـ"أمير النيروز" أو "أبو نيروس"، التي ذكرها الكاتب البريطاني س.هـ. ليدر، في كتابه "أبناء الفراعنة المحدثون"، الذي ترجمه أحمد محمود للعربية عام 2008، والذي وصف فيه عادات الأقباط المصريين في أوائل القرن العشرين خلال رحلته في مصر، فكان يقام مهرجان بمناسبة عيد النيروز في القاهرة إلا أنه اندثر مع الوقت. ويبدأ الاحتفال الذي يستمر 3 أيام، بأن يختار الناس من بينهم "حاكماً" فكاهياً يسمونه "أبو نيروز"، ثم يلبسونه ثوباً زاهي اللون ويضعون على رأسه طُرْطُوراً (قلنسوة طويلة دقيقة الرأس)، ويجعلون له لحية من الكتام ويضعون صولجاناً في يده، بينما يتبعه حشد من المحتفلين الذين يرتدون ملابس غريبة. ويصف ليدر بعض المحتفلين بارتدائهم ملابس جلادين وكتبة كأنهم في محكمة، فينحني الجميع بطريقة فكاهية للرجل، ثم يجلس "أبو نيروز" في مشهد تمثيلي على كرسي كأنه حاكم ويمضي بما يقوم به فيعقد جلسة جادة، ويستدعي أمامه على نحو أخص القاضي نفسه وموظفيه جميعاً، ويحكم على الجلاد بالشنق وبإلقاء السجان في أدنى زنزانة، وتقدر ضريبة خرافية على الأغنياء، ويجري كل شيء بمالبغ تبعث على الضحك، فكل حكم يكتب بتفصيل شديد. بعد ذلك ينطلق الموكب من جديد لفرض إرادته، والفرصة الوحيدة للعفو هي تقديم بعض عملات معدنية كبقشيش وبعد انتهاء هذا العمل الفكاهي، توقد نار ويتظاهرون بحرق الطاغية نفسه.

جذور قديمة

وللاحتفال هذا جذور قديمة، ذكرها عدد من المؤرخين على أنها كانت سائدة في العصرين الفاطمي والمملوكي. في كتابه، "متنزهات القاهرة في العصرين المملوكي والعثماني"، يقول د. محمد الششتاوي، أن عيد النيروز كان يتم الاحتفال به في الدولة الفاطمية والمملوكية على حدٍ سواء، ويذكر بأن المسلمين كانوا يحرصون على مشاركة الأقباط خلال الاحتفالات بهذا العيد. ومن ضمن التقاليد المتوارثة التي كان يتم إحياؤها في هذا اليوم: تعطيل الأسواق، وإعداد الأطعمة والحلوى (كالزلابية والهريسة)، وإيقاد النار والتراشق بالماء في الشوارع والطرقات. وكان من ضمن التقاليد الغريبة المتوارثة أيضاً والذي يشبه ما ذكره ليدر، هو إقامة مهرجان يقوم فيه بعض العامة بتولية عليهم شخصاً يسمونه بـ"أمير النيروز"، له صفات جسمانية معينة، مثل القوة، ثم يقومون بتغيير صوته وخلقته ودهان وجهه بالجير والدقيق، وضع لحية مستعارة من فروة أو غيرها، بل ووضع طرطور طويل من الخوص ويركبونه حماراً وهو شبه عارٍ، يستر بعض جسمه بثوب أحمر أو أصفر. وخلال تجوله في الشوارع، يمسك أمير النيروز، دفتراً كأنه يحاسب الناس، ثم يطوف أزقة المدينة وشوارعها، وعلى البيوت والأسواق، يقف على باب كل فرد سواء من الأكابر أو غير الأكابر، ويكتب عليه إيصالاً، ثم يستقر الناس أمام الدار حتى يأخذوا منه مالاً. ويذكر المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار" بعض تفاصيل ذلك اليوم الذي عدّ من أبرز الأعياد عند الأقباط في ذلك الوقت، حيث تتعطل فيه الأسواق، وتقلّ فيه حركة الناس في الطرقات، وتفرق فيه الكسوة لرجال أهل الدولة، وأولادهم ونسائهم. ويذكر المقريزي ما قاله مؤرخ عصري الدولتين الأخشيدية والفاطمية، ابن زولاق، عن حوادث ذلك اليوم في عام 363هـ، أن الخليفة الفاطمي المعز لدين الله، منع الناس من وقود النيران وصب الماء في السكك ليلة النوروز. لكن في عام 364هـ، أضاف الناس في احتفالاتهم ممارسات جديدة، مثل التنكر ولبس الأقنعة، حيث قام شخص بالتشبه على شكل فيل، ليخرج إلى شوارع القاهرة ويطوف مع حشد من الناس لمدة 3 أيام، لكن أمر المعز بحبس بعضهم وأمر بأن يطاف بهم على الجمال كعقاب لهم. ويرجح أنّ استخدام الفيل في هذه الممارسة الجديدة، كان يقصد بها السخرية من الخليفة المعز، والذي رافقه فيلين خلال موكب له في عام 362هـ.

كيف كتب عنه وزير صلاح الدين الأيوبي؟

يذكر المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار"، أن القاضي الفاضل، وزير صلاح الدين الأيوبي، قد ذكر في حوادث سنة 584هـ، بعض مظاهر هذا اليوم والتي قد بحسب زعمه، كانت استمراراً لاحتفالات سمح بها الخلفاء الفاطميون، وهو ما يتعارض مع ما نقله ابن زولاق. يقول القاضي: "ويوم النوروز القبطي، وهو مستهل توت، وتوت أول سنتهم، وقد كان بمصر في الأيام الماضية، والدولة الخالية، يعني دولة الخلفاء الفاطميين، من مواسم بطالاتهم، ومواقيت ضلالاتهم، فكانت المنكرات ظاهرة فيه، والفواحش صريحة في يومه... ويتجمع المؤنثون، والفاسقات تحت قصر اللؤلؤة بحيث يشاهدهم الخليفة، وبأيديهم الملاهي، ويتراش الناس بالماء والخمر، وبالماء ممزوجاً بالأقدار". ويحكي القاضي، أنه عندما يخرج شخص من منزله في ذلك اليوم، فربما لقيه من يرشه، ويفسد ثيابه. بل وفي سنة 593 هـ، يحكي أن ممارسات أخرى استجدت في ذلك اليوم، مثل التراجم بالبيض، وتصافع الناس ببعضهم في الشوارع من باب المرح. ولكن يجب ألا نغفل عند قراءة هذه الأخبار بأنّ القاضي الفاضل، الذي علت مكانته أيّام الأيوبيين، كان ينظر بعين ناقدة للفترة الفاطمية، خاصة أنّ هوية الأيوبيين تشكلت بإلغاء ومعاداة كل ما هو فاطمي. على أيّ حال، يبدو أن الأقباط لاحقاً قد اكتفوا في سنة 791هـ، بمجرد رش المياه والتصافع، وعدم إيقاد نيران إلا من يفعل ذلك منهم داخل بيته، بحسب ما أورده القلقشندي في كتابه "صبح الأعشى".

ما أصل هذا العيد؟

يرجح العديد من أساتذة التاريخ أن النيروز المصري هو أحد مظاهر التأثيرات الثقافية الفارسية على مصر، خلال فترة احتلال الدولة الإخمينية، والتي بدأت عام 525 قبل الميلاد واستمرت 200 عام. فهناك العديد من المظاهر الاحتفالية المشتركة بين الثقافة الإيرانية القديمة ومظاهر العيد المصري في العصور الوسطى، مثل ارتداء الملابس الجديدة، وتقديم الطعام، وتبادل الهدايا وإشعال النيران. بدأ عيد النيروز كمناسبة لإحياء ذكرى شهداء عصر اضطهاد المسيحيين، وتطور ليصبح أداء مسرحياً شعبياً عن العدل يحاكي تحصيل الضرائب بطابع فكاهي أما فيما يخص "أمير النيروز"، فقد كان هناك احتفال شبيه في إيران يقام من أجل توديع الشتاء واستقبال الربيع، فيقومون بوضع شخص نحيل على حمار يمسك في يده الأولى غراب وفي الأخرى مروحة يهوي بها نفسه، بينما يقوم الناس برميه بالثلج، في إشارة إلى توديع الشتاء، ثم يقف هذا الشخص عند أبواب الأغنياء ويسألهم المال، وهذا ما كان يحدث بالفعل في عيد النيروز المصري. ويبدو أن هذا التقليد قد انتقل للعرب لاحقاً، خصوصاً في بغداد خلال الدولة العباسية، تحت اسم "ركــوب الكوســج"، تحدّث عنه مصطفى الصوفي كعيد فارسي في كتابه "طقوس احتفالات المواسم والأعياد الربيعية". كما يحكي الزمخشري في كتابه "ربيع الأبرار"، أنه عند دخول شهر آذرماه الفارسي، كان يطلى شخص بالألوان ويخرج شبه عار في الشارع. وقد قال شاعر يدعى المرادي البيتين التاليين في وصف "ركوب الكوسج": قد ركب الكوسج يا صاح .. فانزل على المزمر والراح وانعم بآذرماه عيناً وخذ .. من لذة العيش بمفتاح   رصيف 22


أخبار ذات صلة

تأثير التعليم على الفيزيولوجيا

تأثير التعليم على الفيزيولوجيا

إشراف.. الأستاذ الدكتور رشاد محمد ثابت مراد

المايسترو ميساك باغبودريان:

المايسترو ميساك باغبودريان:

من المحزن عدم وجود أي برنامج يتحدث عن الموسيقا في قنواتنا التلفزيونية