الجانب المظلم للإبداع.. كيف حوّل فنانون أمراضهم العقلية والنفسية إلى تحف فنية
صورة الفنان في أذهان الكثيرين صورة غامضة وحزينة، الفنان يجب أن يكون لديه خلوة، وأن تكون شخصيَّته معقدة وربما غير محتَمَلة؛ ومقولة إنّ «الفنون جنون» يتم ترديدها في وسيلة إعلامية تحاول عرض قصة عن فنان مميز ومختلف، ولكن مؤخرًا بدأ الأمر يخرج من حيِّز الوصف المجازي، ففي عام 2015 نشرت جريدة الجارديان دراسة وجدت رابطًا بين المرض العقلي/النفسي والقدرة على الإبداع، وقد أوضحت تلك الدراسة أنّ الأشخاص المصابين بالفصام أو الاكتئاب ثنائي القطب؛ لديهم ميولٌ أقوى تجاه الأعمال التي تحتاج إلى إبداع مثل الرسم والكتابة والموسيقى، بينما الأشخاص الأسوياء عقليًا، كانوا يفضِّلون العمل الذي تُجني ثماره بشكلٍ ثابت ومحسوب مثل الزراعة، والمبيعات، والأعمال اليدوية.
وفي تقريرٍ لها عن العلاقة بين المرض العقلي بالإبداع، على موقع البي بي سي، أوضحت الناقدة والأديبة كلوديا هاوند إنه ليس هناك العديد من المعلومات الموثقة حول تلك العلاقة، والدراسات التي أجريت من أجل إثبات هذا الرابط لم تكن كلها دقيقة بخصوص اختيار الحالات التي سيجري عليها الدراسة، وهذا لصعوبة تحديد تعريف واضح ودقيق وعلمي لكلمة «إبداع». ومع ذلك – كما ذكرت في تقريرها- هناك بعض المبدعين والفنانين الذين شاركوا في تلك الدراسات، كانوا مقتنعين تمامًا أنّ مرضهم العقلي هو سبب إبداعهم، وبعضهم كان يرفض تناول العقاقير التي وصفها له الأطباء النفسيين.
سلفادور دالي.. العبقري الذي لقَّب نفسه بذلك
أنا لا أتعاطى المخدرات.. أنا المخدرات. * سلفادور دالي، «يوميات عبقري».
نبدأ هذا التقرير بالمرور على أشهر مبدع ظهرت عليه أعراض الجنون، في حياته اليومية، والهلاوس التي كتب عنها في يومياته، وفي صوره الشخصية أيضًا.
سلفادور دالي. مصدر الصورة موقع إسباسيوس
ظهرت معالم الاعتلال العقلي على سلفادور دالي وسنُّه خمس سنوات؛ وكان شخصية سادية تتمتع بتعذيب الآخرين دون سبب. ويذكر عن مغامرات طفولته أنه كان يسير هو وصديقٍ له فوق جسر، وعندما لاحظ دالي تهدُّم أحد حواجز السلامة للجسر، قامَ بدفع صديقه الذي سقط من فوق الجسر، واصطدم ببعض الصخور ذات البروز، وتعرض للعديد من الجروح المؤلمة، ولم تنتهِ تلك الواقعة باعتذار دالي لوالدة صديقه، بينما جلس يشاهد الموقف ويأكل الفاكهة بهدوء شديد وهو مبتسم.
لوحة استمناء هتلر. مصدر الصورة الموقع الرسمي لسلفادور دالي
تلك السادية – التي ولدت مع دالي – لم تفارقه، ومع صعود النازية في ذاك الوقت، وبينما حاول الكثير من الفنانين الابتعاد قدر الإمكان عن هتلر، كان دالي من أشدّ المعجبين بشخصية هتلر وسياسته، وتجاوز الأمر مرحلة الإعجاب ودخل في حيِّز الهَوَس، حين صرَّح دالي أنه يحلم بهتلر مثلما يحلم الرجال بالنساء، وأعترف بهواجسه الجنسية تجاه هتلر، وعبر دالي عن هذا الشغف الفريد، في لوحة اسماها «استمناء هتلر»، وتلك اللوحة لم تقدِّم فكرة سريالية؛ بل كان المشهد المرسوم يعبر عن اسم اللوحة بالتفصيل. في هذه المرة برزت سادية دالي، والفصام الذي يعاني منه – والذي شخَّصه به العديد من الأطباء النفسيين – على لوحةٍ قد تكون مؤذية نفسيا للبعض، ولكنها أقل وطأة من قسوة دفع طفل صغير من فوق جسر.
تحدَّث دالي في يومياته عن الهلاوس التي عاشت معه معظم الوقت، وأصبح لها دور مهم في أعماله الإبداعية، ولوحة «ثبات الذاكرة» هي مثال واضح للمساحة التي تركها دالي لعقله الباطن كي يلهو بين الخطوط الفنية للوحاته السريالية، قال دالي عن تلك اللوحة: إنها «رسمت بيدِ الهلاوس/الحلم»، شارحًا تعمُّقه في حالةٍ عميقة من التأمل، تاركًا لعقله الباطن مهمة رسم لوحة جديدة، والذي كان دالي أول المندهشين من رؤيتها؛ فهو – على حد تعبيره – كان مجرد متلقٍّ لتلك الهلاوس الفنية.
في بداية مشواره الفني، شارك دالي في صناعة فيلم سريالي مع أحد مخرجي إيطاليا المميزين بذاك الوقت، ومنحه هذا الفيلم الشهرة وبعض المعجبين، ولكن البصمة الأصلية للفنان دالي، بدأت مع تلك اللوحة التي رُسمت بأنامل المرض العقلي والهلاوس الذهنية، وعندما عُرضت لوحة «ثبات الذاكرة» بمعرض جوليان ليفي في مدينة نيويورك عام 1923، لاحق دالي الأضواء والصحافة والمعجبون، خاصة بعد أن اشتراها أحد رعاة الفن وتبرع بها لمتحف الفن الحديث بنيويورك.
أكد أحد النقاد التشكيليين بالولايات المتحدة، في أحد مقالاته، أن المعنى وراء لوحة «ثبات الذاكرة» صعب الفهم، لأن البعض يرى السيريالية دربًا من الجنون، بينما ما يريده الفنان السريالي: هو خلق أفضل صورة مرئية لأحلام الفنان وهلاوسه، ولذلك قد يندهش البعض من رؤية الساعات التي تذوب في صحراء لا يوجد بها أي إنسان، ولكن – يوضح الناقد – كل الأحلام التي تراودنا، تحتوي على الكثير من المعطيات التي يُصعب على المنطق شرحها. وفي هلاوس دالي، الزمن ليس له قيمة ولا تأثير في أحلامه، ولذلك تظهر الساعات في اللوحة وهي تذوب، ترمز إلى مفهوم الزمن وهو يتلاشى في العقل الباطن لدالي.
دالي لم يسمح لهلاوسه أن تكون عقبة أمام مشواره الفني، بل طوّعها وجعلها وسيلة للتعبير الإبداعي، وأطلق على تلك الطريقة: «بارانويا التفكير الانتقادي»، وهي عبارة عن تدريبات ذهنية، من أجل التعمُّق في حالة عقلية متأملة واستغلال الهلاوس في إنتاج الأعمال الإبداعية، ومن خلال هذه التدريبات، سعى دالي إلى تشجيع الفنانين لرؤية الأشياء من حولهم من خلال منظورهم الخاص وتجربتهم الفريدة، معتمدًا على قدرة الخيال في تشكيل الأشياء حسب الإطار المعرفي للشخص، وهذا يؤدي إلى مجموعة من الاحتمالات غير المتناهية، والغرض من هذه التجربة – كما أراد دالي – هو خلق صور ذهنية من الهلاوس والأحلام، لا تمت بصلة بقواعد الواقع الذي نعيشه، بل تعبر عن الرموز والدلالات الخاصة بالعقل الباطن لكل شخص على حدى.
فمثلًا: إذا كان الشيء المطلوب تأمله هو سحابه بيضاء في السماء، والمشتركون في التجربة خمسة أشخاص من ثقافات مختلفة، سيَّر كلٌّ منهم السحابة بشكلٍ مختلف، فقد يراها شخصٌ ريفيّ على شكل حصان، وتراها فتاة صغيرة على شكل شخصيتها الكرتونية المفضلة.
من وجهة نظر دالي: الفترة الأفضل بعمر الإنسان، هي فترة تواجده في رحم أمه، حين يعيش حالة من السلام والتأمل العقلي، دون الحاجة إلى التفكير أو الشعور بشقاء الجسد، ولذلك – يرى دالي – وصول الإنسان إلى الحياة، أمرًا قاس عليه التعامل معه طوال عمره، بعد أن طُرد من المكان الآمن، والدخول في حالة تأملية عميقة، لا يرى المرء فيها سوى الهلاوس والأحلام التي لا تمت بصلة لأرض الواقع، هي الوسيلة التي يمكن من خلالها أن نعود إلى رحم السلام، ومن هُنا بدأ شغف دالي بعالم الحلم.
فان جوخ.. عندما يمنحك المرض العقلي تجربة حسية كاملة
بالنسبة للكثير من الناس؛ الضرر الذي يصيب المخ يعتبر ذا تأثير مدمِّر، ولكن في حالة الرسام فان جوخ، فالضرر العقلي كان الإلهام وإبداعاته. *من تقرير لـ بي بي سي.
الرسام الهولندي فان جوخ؛ حالة واضحة لتجسيد العلاقة بين المرض العقلي والإبداع، وهو أمرٌ اهتمّ به الأطباء النفسيين؛ وكتبوا عنه مقالات ودراسات عديدة بغرض إثبات إصابة فان جوخ بمرض «صرع الفص الصدغي»، ودور هذا المرض في التأثير على رؤية فان جوخ للعالم المحيط به، وهو ما أتاح له الفرصة لرسم لوحات وصلت إلى مكانة مميزة في عالم الفن التشكيلي.
يؤكد علم النفس أن مريض صرع الفص الصدغي؛ يرى الألوان مشرقة والصور أكثر وضوحًا وتفصيلية، ولذلك صاحب هذا المرض يمرُّ بتجربةٍ حسيّة مختلفة، يصعب على البشر الأصحّاء تخيلها، و حين يرسم فان جوخ وهو تحت تأثير هذا المرض، ينقل لنا الجانب الإيجابي من مرضه في لوحة إبداعية تداعب الحواس. ولكنه – للأسف – كان هناك جانب مظلم لهذا المرض؛ وقد كان له تأثيرٌ سلبي على جوخ.
من أهم الأعراض الموثقة طبيًا لمرض صرع الفص الصدغي: العدوانية المفرطة لدى المريض، ولذلك عندما تملَّك المرض من فان جوخ، وتفاقمت معاناته النفسية، قطع أذنه اليسرى بالموسى، ورسم لوحته الشهيرة لنفسه وأذنه مضمدة.
في مقال نقدي له نشر في الجارديان، شرح أحد النقاد الفنيين السبب وراء رسم فان جوخ هذه اللوحة التي يظهر فيها جرح أذنه، وشبّه فان جوخ بالقديس الذي يعرض ندباته للعالم، معبرًا عن تصالحه مع تلك الجروح، طالبًا المغفرة، والانطباع الذي رسمه جوخ – على حد تعبير الناقد – في عينيه بتلك اللوحة، هو انطباع عميق وثاقب يجسد اعترافه الخطي بالتشوهات النفسية التي حدثت في روحه، والتي تمثلت في تشوه أذنه، راضيًا بهذا المصير المرعب من أجل منفعة الفن.
رأي نقدي آخر، يؤكد أن الأمراض النفسية التي أصابت فان جوخ إلى جانب إفراطه في التدخين وشرب الكحول، كان لها تأثيرٌ واضح في اللوحات التي قدمها جوخ للعالم؛ لأنه عاش حياة بائسة، فشل خلالها من تكوين علاقات أسرية أو إنسانية سليمة، بسبب الخلل العقلي الذي سيطر على أعماقه في ذاك الوقت، وشغل عقله الباطن بالصراع الذي يعيشه الإنسان مع الطبيعة، ومع الآخرين، وعبر جوخ عن هذا الهاجس حين قال: «إننا نعيش حالة دائمة من تمرينات عميقة اللاشعور لدينا، من أجل الوصول إلى كلمات نشرح بها ما يدور بداخلنا».
قطع جوخ لأذنه، كان بداية لنوباتٍ متكررة من الهياج والعصبية والإرهاق، استمرَّت لما يقرب من عامٍ كامل، حتى تخلص فان جوخ من حياته، حين عثر على جثته أحد أقاربه عام 1890، مُلقاه في أحد الحقول القريبة من المنزل، وقد استقرت رصاصة في قلبه. فهل انتحر فان جوخ أم قام أحد بقتله؟ هذا لغز مازال الكثير من المهتمين بجوخ وحياته ومرضه يتساءلون عنه.
لوحة رسم ذاتي للفنان فان جوخ
ولكن ما هو جدير بالذكر، أن لوحات فان جوخ أثناء حياته، لم تلقّ الاهتمام والإعجاب الذي تحظى به الآن، ولم يكن لها مبيعاتٌ تجارية، ولكن بعد وفاته، وبعد رسمه لتلك اللوحة الفريدة من نوعها، والتي أظهرت معاناة حياته كاملة في مشهد واحد بسيط، وصفه العديد من النقاد بأنه من أكثر المشاهد مأساوية، وبدأ المهتمون بالفنون الإعتراف بفان جوخ، وأعماله.
من أكثر المعالم التي تميز أعمال جوخ، هو طغيان اللون الأصفر في جميع لوحاته، بالنصف الآخر من حياته الفنية، وهذا أمرٌ شغل تفكير النقاد، لظنهم أن اهتمام فان جوخ المفاجئ باللون الأصفر لم يكن وليد الصدفة، أو حبّه اللحظي للون، بل كان بسبب بعض الأمراض التي يعاني منها جوخ.
وفي تقرير طبي له، أشار أحد الأطباء النفسيين، إلى التواجد الطاغي باللون الأصفر في لوحات فان جوخ، وأوضح أنّ الأمر لن يخرج عن احتمالين – من وجهة نظره – وهما إصابة فان جوخ بمرض الرؤية الصفراء أو تعاطي جوخ نوعًا من المخدر، انتشر في ذاك الوقت، وكانت رؤية البقع الصفراء من أهم أعراضه الجانبية، وأي كان السبب الحقيقي، فالنتيجة هي الهالات الصفراء التي تتجلى في سماء لوحته الشهيرة «ليلة مرصعة بالنجوم».
قام الأطباء النفسيون بتشخيص الفنان النرويجي إدوارد مونش بمرض الاضطراب ثنائى القطب، وذلك بسبب الهلاوس البصرية والسمعية، والتي تجلت بوضوح من بين سطور مذكراته الشخصية، بجانب التصرفات المخبولة التي ارتكبها مثل إطلاق الرصاص على يده اليسرى. وفي عام 1908، وبعد الهجوم الطاغي لتلك الهلاوس على عقله، تم احتجازه في إحدى مستشفيات الأمراض العقلية والعصبية.
الفنان النرويجي إدوارد مونش
كانت الهلاوس التي هاجمت إدوارد مونش هي صاحبة الفضل في لوحته الشهيرة الصرخة، هذا الإلهام الذي أذهل به العالم، وما ورد في يومياته عن أسباب رسم هذه اللوحة، هو الدليل على ذلك:
«كنت أسير مع أصدقائي في الطريق، وفجأة؛ عند غروب الشمس؛ رأيت السماء تتحول إلى بحر من الدماء، وشعرت بالحزن تسلَّل إلى أعماقي، وقفت وانحنيت على السور الحديد؛ منهك من التعب القاتل؛ فوق المضيق البحري الأزرق الملطخ بالسواد، والغيوم معلقة في البحر الدامي؛ ذهب أصدقائي وظللت واقفًا في مكاني، خائفًا؛ بجرح مفتوح بصدري».
التقلُّب الجذري بالمزاج، من الأعراض التي تصاحب الاكتئاب ثنائي القطب، ولترَ «كواليس» رسم لوحة الصرخة، عليك أن تتخيل مونش وهو يسير فوق هذا الجسر مع أصدقائه مرحًا وسعيدًا، حين أتت له تلك النوبة من المرض العقلي، انقلب المشهد من حوله للوحةٍ حزينة تصرخ من الألم، ونقل لنا هذه الصرخة من خلال لوحة فنية، لازلت – حتى الآن – إحدى أيقونات الفن التشكيلي في العالم.
كان مونش مدركًا للدور المهم الذي لعبه المرض النفسي في حسه الإبداعي، ولذلك كان يصف نفسه بدون أمراضه النفسية بالسفينة التي تسبح بلا هدىً في بحر الحياة، و كان مرض القلق المزمن/Anxiety هو الذراع الأيمن للفنان، لكونه العامل الفعال الذي يثير الجانب المظلم بالاضطراب ثنائي القطب، ومن بين طيات هذا العالم المظلم الحزين، تنبت أفكار اللوحات التي تعكس الاضطراب العقلي الذي عاشه مونش، وتأكيد مونش على أهمية المرض النفسي له، لم يكن من خلال تصريحاته الشفوية فقط، بل إنه رسم لوحة بعنوان القلق المزمن أو Anxiety.
تصالح مونش مع أمراضه النفسية، كان له أكثر من تجلي في لوحاته الفنية، فلم يحاول مونش كبت هذا المرض العقلي، بقدر ما تركه يتسلل إلى أنامله ويعبر عن نفسه ويفرض وجوده، ولذلك كان اختيار مونش لأسماء لوحاته لم يكن بها أي تورية مثلما كان يتوارى المرض في أعمال دالي خلف ستار السريالية.
في لوحة Melancholy أو سوداوية، جسد مونش الإستسلام الداخلي بروحه تجاه المرض العقلي، من خلال الألوان القاتمة، ومعالم الحزن المستكينة على وجه الرجل الظاهر باللوحة، والذي لا يجد في الوحدة سوى الشجن والتأمل، ولا يبدو عليه أنه ينوي تحريك أي ساكن في هذا المشهد السوداوي. وفي حديث مونش عن هذه اللوحة قال: إنها «الحياة الحديثة للروح»، وأكد النقاد على محاولة مونش المستمرة تجسيد الدراما النفسية التي يمكن لروح الإنسان أن تعيشها في ظل الألم النفسي المتواصل، ولكن مع تحويل تلك الدراما إلى دراما تأملية، ينتج عنها تلك اللوحات التي خاطبت المشاعر الحزينة لدى البشر في العالم كله.
فيرجينيا وولف.. و«ضربات كارثية وعنيفة من مطرقة»
«ما يدور في رأسي ليس واضحًا بما يكفي، وكل ما أشعر به هو الغضب الممل وسهام من الحزن» فيرجينيا وولف
في اللحظة التي اختارت فيها فيرجينيا وولف الموت، كان الإكتئاب قد تملك من روحها، ولكنه لم يرحل قبل أن يضع بصمته في التاريخ الأدبي لفيرجينيا. كان للأديبة الإنجليزية فرجينيا وولف، إسهاماتٌ كثيرة في أدب الخطابات، خاصة الخطابات التي تبادلتها مع الشاعرة الإنجليزية فيتا ساكفيل، والتي جمعتهما علاقة صداقة ممزوجة بقصة حب رومانسية، ولكنّ الخطاب الأكثر شهرة وتأثيرًا لفيرجينيا، هو الخطاب الذي تركته لزوجها قبل انتحارها، والذي تم وصفه بالقطعة الأدبية المؤثرة، والمؤلمة.
«ضربات كارثية وعنيفة من مطرقة» هكذا وصف أحد الأطباء النفسيين الأحداث القاسية التي مرت بها فيرجينيا طوال حياتها، والتي بدأت بموت والدتها وهي في عمر الثالثة عشر، حين أصيبت بانهيار عصبي وحُجزت بمستشفى الأمراض العقلية والعصبية، وقبل أن تتعافى من تلك الصدمة، توفي والدها، وبدأت سلسلة من الصدمات النفسية، التي لم تتعافَ منها فيرجينيا، وسببت لها الهلاوس السمعية، التي ذكرتها في بداية خطاب إنتحارها حين كتبت «لقد بدأت أسمع الأصوات مرة أخرى».
وكـ«ميكانيزم دفاعي نفسي»، أختارت فيرجينيا أن تكون كاتبة، في تلك المرحلة الحرجة من طفولتها، وكتبت مقالاتٍ نقدية لبعض الجرائد الأدبية الإنجليزية، وقد أوضحت باحثة بعلم النفس، في كتابها الذي كان يناقش علاقة المرض العقلي وإبداع فيرجينيا وولف الأدبي، إن فيرجينيا وولف كانت تستخدم الكتابة درعًا لصد هجمات الاكتئاب والذكريات الحزينة.
ومن الأعراض البارزة لمرض الاكتئاب ثنائي القطبين، الذي كانت تعاني منه فيرجينيا، هي حالة اليوفوريا والحماسة الشديدة التي تجتاح المريض، والتي يعقبها مباشرة نوبات حزن ويأس، وفسر الطبيب النفسي سكليشر في دراسته، «فيرجينيا وولف.. المرض العقلي وعلاقته بالعملية الإبداعية»، أنّ حالات اليوفوريا هي التي ساعدت فرجينيا وولف على الكتابة الأدبية، وقدمت بسببها مجموعة من أعظم النصوص الأدبية في بداية العصر الحديث بإنجلترا، وحين حاول الأطباء شفاء هذا المرض، فقدت وولف الوقود الأساسي لابداعها وهو: مرضها النفسي.
وبرهن الطبيب في دراسته على أنّ فترة العلاج التي فُرضت على فيرجينيا وولف حين منعها الأطباء من الكتابة، نظرًا لما تعانيه من نوبات اكتئابية، هي السبب الرئيس في تدهور حالتها العقلية.
لوحة مرسومة بالزيت للأديبة الإنجليزية فيرجينيا وولف بريشة الرسام CHRISTIAAN TONNIS
كانت فيرجينيا تعاني صدمات نفسية منذ الطفولة، وفتورًا جنسيًا تجاه زوجها، وعلاقة مثلية رومانسية، يمكن تحويلها إلى دراما لها طابع «فرويدي»، هكذا وصف الكاتب بيتر دالي الحالة النفسية لفيرجينيا وولف في كتابه «هوس الاكتئاب وفيرجينيا وولف»، وشرح بيتر أن فيرجينيا كانت تهرب من خلال خلق عوالم جديدة أكثر آمانًا، من خلال أبطال رواياتها والحياة التي يعيشونها.
أحد اغلفة الرواية.
بطلة الرواية الأشهر عالميًا لفيرجينيا Mrs Dalloway، جسدت حالة الكآبة التي عاشتها فيرجينيا، وهذا من خلال النظرة التشاؤمية التي ترى من خلالها العالم، والآخرين من حولها، والأزمة الفكرية الدينية التي عاشتها البطلة بعد وفاة شقيقها الأصغر، حين صبت غضبها على القدر، ووقعت في أزمة إيمانية متسائلة عن سبب الموت وغرضه، ونجد أن فيرجينيا جسدت ألمها النفسي الذي بدأ مع موت أمها، متجسدًا في وفاة شقيق بطلة روايتها. بينما كان الجو العام في الرواية، وجميع أبطالها ناجحًا في تجسيد الجانب المظلم من عقل فيرجينيا، والذي يرى البشر لا يهتمون إلا لمصلحتهم الشخصية، بالإضافة إلى النظرة الدونية التي ترى بها الرجال.
مواقع