تجربتي مع الله ..
صاحبة الجلالة_ د. صباح هاشم
.." أنا في أحسن حالاتي نبضة من نبضاته الحية الدافقة في فضاء القدرة... إنه خالقي وخالق هذا الكون الذي نحن فيه...."
أرثيك أيها "الحلّاج" ما أنبل موقفك من المال والسلطة والدين، لكنّ تصوفي اهتيامي كتصوف "الرومي" أكثر منه إلى التصوف الفكري والاجتماعي الذي ساد مدارس التصوف الإسلامي آنذاك ...
أحاورك يا خالقي كل يوم دون وسيط لعلّي أصل ذات يوم إلى ضفاف المعرفة وأعرف لماذا أتيت ولماذا أموت...؟
اؤمن بوحدة الوجود، وبتفرق الموجود، الذي يعود إلى المطلق الذي ترجع إليه الأشياء ومنه تبدأ الأشياء... لذلك أدعوك بالخالق او خالق الأكوان ، لا برب يشبه أرباب الجاهلية ولا بإله يشبه آلهة سومر وبابل والاغريق، لأنه لا نظير لك في البدء ولا في المنتهى....
في البدء رضعت الدين من مقولات أبي لا اقتناعاً بل خوفاً من سطوته وسطوتك يا خالقي وطمعاً برضاه وجنتك، فكنت أحاول أن أشبه أبي لكن محاولاتي ذهبت أدراج الرياح، وصرت لا أشبه أبي ، لأنه آمن بالنقل وأنا آمنت بالعقل، هو آمن بالثبات وأنا ركبت أجنحة التغيير، هو آمن بأن اليقين يوصل إلى اليقين، وانا اتبعت منهج الشك "بدينيته" عند الغزالي أو "بعقلانيته" عند ديكارت الذي يوصلني إلى اليقين... وتعلمت أن بين البدايات والنهايات رحلة طويلة وشاقة من البحث والعذاب تعبرها الأجيال لعلهم يصلون إلى إحدى معاني الخلق أو بعضها، وأنا واحد من خلائك الكثر على هذ الدرب أسير، وقد لا أصل، لكني أكون قد استمتعت برحلة البحث الذي هو أجمل من الوصول كما يقول "باولو كويلو" في روايته "الخيميائي"....
لقد كانت رحلتي مع الخالق أشبه بتقرير عن تخطيط القلب بين إيمان وابتعاد وإلحاد ووجودي على نمط "سارتر" أو عبثي على شاكلة "كامو" ومتصوف على خطى "ابو يزيد البسطامي والرومي".. إلى أن استقر بي الحال منذ زمن ليس ببعيد، ورست سفينة العقل عند شاطئ الإيمان بالخالق الذي تعرفت عليه من خلال العقل وليس النقل، ومن خلال آثاره وصنيع مخلوقاته، دون إرهاق هذا العقل بما لا طاقة لي عليه، وإشغاله بأسئلة الوجود الكبرى التي لا قدرة للعلم والعقل والدين معا عن الاجابة عليها، واكتفيت بسؤال "بوذا" الأهم وهو كيف أعيش؟...
وليس لماذا أعيش؟....
أما حالي مع الدين أو الأديان بشكل عام، فلي رأي آخر بها، وهذا الرأي هو خلاصة قراءتي وتجربتي المتواضعة في الحياة ويحتمل الخطأ والصواب، ودون أن أنتقص من احترامي لكل الآراء وفي مقدمها الآراء التي لا تتوافق مع ما أراه صواباً، ولأن أساس الخلق هو في تنوعه وتعدده وليس في تماثله...
من خلال دراستي وقراءاتي البسيطة عن منظومة التصور الديني في الإسلام بتعددية مفرداته من "تشريعات وعقائد وأحكام وعبادات" وجدت في غالبيتها افتقار إلى السند العقلي والمنطقي، ومن الصعوبة إثبات صحتها بدليل عقلي، بل إن تناقضها واضح مع صيرورة العقل، ولا يمكن إرجاع مصدرها إلى الخالق اللامتناهي في العظمة رغم محاولة الدين ربط منظومة تصوراتها بموجود أعلى وخارج حدود التصور الإنساني لتستمد مشروعيتها العقلية منها.. والدين بهذا التصور جعل من الخالق "الله" وسيلة لا غاية بحد ذاتها، أي وسيلة لإضفاء طابع المشروعية على مجمل تصوراتها من عقائد وأحكام وتشريع...الخ
وبهذا المعنى كأن الخالق يؤدي دوراً وظيفياً للدين ، وهو تحصينه من أي نقد أو تشكيك بمشروعيته وعقلانيته....
إن التصورات الدينية مجرد عادات وتقاليد تحولت إلى نصوص بشرية تعبر عن البيئة والحياة الاجتماعية السائدة وقتها، وبمرور الزمن طرأ عليها تغيرات جوهرية ابتعدت عن نسختها الأصلية، حتى أصبح المخدوعون بنسخة من الدين يرتلونها على أنها لسان نبيهم، بينما الحقيقة هي أن النبي ذهب بنسخته وبقيت نسخة رجال الدين وكهنة المعابد وسلاطينهم.
إن العبادات والطقوس الدينية، وما التصق بها من خرافات و أساطير عبر الزمن، قد أطالت الطريق على المخلوق للوصول الى خالقه بل أبعدته أحيانا كثيرة عنه...
إن الدين الواحد تحوّل الى أديان، والأديان انقسمت إلى مذاهب، والمذاهب تفرّعت إلى طوائف، والطوائف تحللت الى نحل وملل، وكلٌّ يحمل كتابه "الذي صنعه كهنته" بيدٍ، شاهراً سيفه بيدٍ أخرى في وجه إخوته الأعداء.
تعلمت من تجربتي أن الخالق يجمع والدين يُفرّق...
الخالق يسامح ويعفو بينما الدين يقسو ويقتل...
الخالق يحترم العلم وعباده العلماء، بينما الدين يطارد ويقتل ويحرق كتبهم...
وقبل أن أختم يؤسفني أن أقول أن الكثيرين يلهثون وراء فقه المساجد والكنائس بعد أن غيبت هذه المعابد عقولهم وسرقت منهم وجودهم، ودون أن يجدوا فيها وجه الخالق أو بيته.....
يقول الكاتب العراقي والباحث الديني "عبد الرزاق جبران" لا تؤثر في الخالق عدد المساجد والكنائس وحجمها، فلديه "غاندي" واحد خيرٌ من ألف مسجد وكنيسة....
"لا يهم الخالق الصلاة في المعبد وإنما إنسان يُحرَّرُ فيه أو انسان يستخلفه".
أخيراً أختم :
أن أموت بغير دين والخالق بداخلي، خير من أن أموت بدون الخالق والدين بداخلي... فالكافر هو من لا يمارس طقوس الخالق الجمالية والإنسانية مهما سجد أو صلى أو صام أو طاف حول الكعبة.