"تجربتي مع الإيمان" بدل "تجربتي مع الله "
إعداد : لمى خير الله
يروي سماحة الشيخ محمد عدنان الأفيوني مفتي دمشق وريفها.. تجربته مع الله ..فيقول " منذ نعومة الأظفار بدأَتْ في حياتي رحلة الإيمان حينما تعلمت حقائق العلاقة مع الله تعالى من خلال المدرسة الأهم ألا وهي الأسرة ... هناك كنت أرى أمي لا تقوم بعمل إلا وتقول بسم الله الرحمن الرحيم ثم تدعو وتتمتم وكنت أسألها ماذا تقولين ؟ فتجيب في كل مرة : أسأل الله أن يعينني ... أسأل الله أن يتفضل ... أن يحقق .. أن يقضي الحوائج فتعلمت أن الله إله قادر إذا لجأ إليه العبد فإنه لا يخيب ، وكنت ألجأ إليه في لحظات الكرب والخوف والامتحان وعند تعلق أملي بكل مطلب".
وهناك كانت أمي تخوفنا بالله ، تردد على أسماعنا في كل يوم إياك أن تكذب فإن الله سيحاسبك ، إياك أن تؤذي .. الله يعاقبك ، إياك أن تأخذ شيئاً ليس لك فإن الله يراك ويحرقك بالنار فترسخ في عقلي وأنا ابن بضع سنين أن الله عليم وقادر وجبار وسيعاقب من يرتكب الآثام والأوزار واستقر في نفسي عظمة الله والخوف من عقابه.
وهناك كنت أرى أمي في كل يوم وهي تودع أبي تقول له (الله يرزقك) فعلمت أن الله هو الرزاق وكنت أسمعها تقول لنا إذا مرض أحد إخوتي تعالوا نسأل الله أن يشفي أخاكم فعلمت أن الله هو الشافي.
وكنت أسمع والدي عندما يغادر البيت يدعو بصوت مسموع : "يا رب يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم ، توكلت عليك" وكنت أراه وأراها في لحظات الشدة والمصيبة والمحن واثقين بالله وأن الحل والفرج بيده وحده ، ولطالما كنت أسمع في دارنا (الله بيفرج) (الله المعطي) (الله الشافي) (الله يأخذ لنا الحق) وكنت أسمع في كل يوم عبارات (الله يسامحك) (الله يرضى عليك) (الله يهديك) فنبت في قلبي حب الله ، والخوف منه ، والرغبة إليه ، والرهبة منه ، والثقة به ، والتوكل عليه ، وعلمت أنه عظيم وأنه قدير وأنه عليم وأنه سميع وأنه الرزاق وأنه الشافي وأنه المعطي وأنه الغفار وأنه إله الكون العظيم وأن كل شيء في هذا الكون يسير بقدرته وإرادته...
تلك هي العبودية التي عرفتها وتلك هي المعاني التي فهمتها عن الله قبل أن أدرس في الجامعة.
ومنذ أن وعى العقل تدبر الأشياء أدركت أن وراء وجود الإنسان في الحياة هدفاً جليلاً ، فمحال أن يكون هذا الخلق العظيم والبديع عبثاً بلا هدف ولاغاية ، ومرتكز هذا الإدراك قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) } ونظرت في العبادات فوجدت أنها تنفع أهلها وتصوغ أخلاقهم وتهذب نفوسهم وتغذي أرواحهم.
فالصلاة غذاء الروح لأن فيها معنى القرب والوصال ، واستشعار القرب والوصال يعطي مزيداً من الإحساس بالرقابة الإلهية فينتج مزيد من الأدب تعظيماً لله تعالى واستشعاراً لجلاله وجماله جل في علاه.
واستشعار القرب والصلة يولد إحساساً بالقوة والثقة بالله تعالى فيتولد من ذلك الصبر واليقين والثقة والتفاؤل.
ومن يستشعر القرب من الله يخرج من دائرة الخلق وتتلمس روحه شهود الحق فتصفو وتسمو وتطمئن ، والصلاة غذاء للروح لأن فيها تهذيب للنفس وترويض للجوارح وترقية للروح وكبح لجماح الشهوات والغرائز ومعلوم أن الإنسان مزيج من الغريزة والروح فإن كبح جماح الغريزة استعلت روحه وارتقت وظهر أثرها في الجوارح سلوك الصالحين والربانيين مصداق لما قال النبي : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" والوجاء الحماية والوقاية ذلك أن الصوم يكبح جماح الغريزة فيحمي صاحبها من الوقوع في الأخطاء والمعاصي والآثام.
وكذلك الزكاة فإن فيها معنى الاستعلاء على الشح والبخل وأوحال المادية وحب التملك لأن الذي يتدرب على العطاء ويمارسه تعبداً لا يتطلع إلى الحرص على الاستزادة ولو من حرام ، ثم إن الزكاة فيها إسعاد الفقير والمحتاج والمسكين وأعظم السعادة في الحياة أن ترى بسمة على وجه إنسان أنت سببها ، فالزكاة تطهر المؤمن وتسعده وتبلغ به منازل الأبرار في الآخرة كما وصف ذلك ربنا سبحانه فقال : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) } والحج مدرسة الصبر والبذل والتواضع والتساوي بين أبناء البشرية في عبوديتهم لله رب العالمين لا فرق في ذلك الصعيد بين غني ولا فقير ولا كبير ولا صغير ولا مأمور ولا أمير ، لباسهم واحد وصوتهم واحد وسلوكهم واحد وهم أمام الله في العبودية سواء لا ينظر الله إلى صورهم ولا إلى أشكالهم ولا ألوانهم ولكن ينظر إلى قلوبهم ولعل أشعث أغبر لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره.
ورأيت أن الدنيا بكل مباهجها ما أوصلت لأهلها السعادة وما استطاع المال والجاه والسلطة والقوة والعشيرة أن ترفع هماً من قلب صاحبه ولا أن تحول بينه وبين قضاء الله في مرض أو مصيبة أو موت.
ورأيت أن أهل الإيمان البسطاء أكثر سعادة وأكثر ثقة وقوة ورضى في مواجهة الخطوب والمصائب.
فالرضى إكسير السعادة ما حل في قلب ولا بيت ولا مكان إلا وحلت السعادة فيه.
فعلمت أن السعادة في الإيمان وأن قول الله حق عندما قال في القرآن {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ونظرت بعد ذلك في قوله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ }
وقوله تعالى : { فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (41) } فعلمت أن بعد رحلة الحياة مصيرين إما إلى جنة أبداً وإما إلى نار أبداً وكل ذلك مرهون بسعي الإنسان وعمله.
من أجل ذلك ونتيجة لكل ما مضى من الحيثيات والرؤى والقناعات اخترت طريق الإيمان لأنه طريق السعادة في الدنيا وطريق النجاة في الآخرة ، وجهدت أن أمضي حياتي أدُّل الناس عليه وأرشدهم إليه لأن رسول الله قال : "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقال : "يا علي لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت"