متاحف الشارع .. هل نلحظهـــا فـي قــادم الأيـام!؟
يَعيش أغلبية الناس في بلادنا، حياتهم ويغادرونها، من دون أن يُتاح لهم دخول متحفٍ، أو زيارة مدينة أثريّة، أو معلم حضاري قديم، أو صالة عرض أعمال فنيّة، وذلك لأسباب كثيرة، ذاتيّة وموضوعيّة، الأمر الذي يجعل من فكرة إنشاء (متاحف الشارع) حاضرة بقوة، في عملية إعادة الإعمار في سوريّة.
فهي في بعدها الشكلي والفكري والدلالي، حاجة وطنيّة وحضاريّة ملحّة، وضروريّة، ومهمّة، ولاسيّما في هذه المرحلة المفصليّة من تاريخنا المعاصر، كما أن عملية إعادة الإعمار، تجعل من تنفيذها بالشكل اللائق والصحيح والمؤثر، سهلاً وميسوراً، وما نعنيه هنا بمصطلح (متاحف الشارع) اختيار أعمال فنيّة أثريّة بارزة، من متاحفنا السوريّة، تحتوي على قيم تشكيليّة رفيعة، وتحمل دلالات، على عظمة حضارتنا وتاريخها العريق والأصيل، وذلك بنسخها إذا كانت بالحجم المناسب، أو القيام بتكبيرها، بشكل وثائقي دقيق، ثم البحث عن مكان مناسب لها، في مداخل وساحات وشوارع مدننا وبلداتنا، والأماكن التي يرتادها الناس بكثرة، وبشكل يومي، مع ربط هذا الأثر، بمعلومة توضح ماهيته، والحقبة التاريخيّة التي يعود إليها. من هنا يجب توجيه من يعنيه الأمر، في مجالس المدن والبلدات السوريّة، بضرورة أن يلحظ كل مخطط تنظيمي جديد، يتصدى لإعادة الإعمار، أو يُنشئ تجمعاً سكنياً أو خدمياً جديداً (كتجمع خلف الرازي في دمشق) ترك مساحة في جدار، أو فضاء في شارع، أو ساحة، أو سوق، أو حي، أو حديقة، لاستقبال أثر فني معاصر، أو نسخة مُكبّرة لمعلم حضاري قديم، قادر على أن يقدم معرفة مقرونة بالجمال، للعابرين به، أو الجالسين في مواجهته، أو الساكنين إلى جواره. وهكذا تتحوّل شوارعنا بالتدريج، إلى متاحف مفتوحة لكل الناس، تضم فنوننا القديمة والمعاصرة.
فن الناس
هاجس نشر الفن بين الناس، وتحويل الشوارع إلى متاحف في الهواء الطلق، تملكني منذ تعرفت إلى فن النحت، وتخصصت أكاديمياً بدراسته وتدريسه وإنتاجه. فمنذ أواخر ستينيات القرن الماضي، وأنا أحلم بأن أرى نسخاً مُكبّرة بدقة وأمانة توثيقيّة، للمنحوتات المهمة والبارزة التي تضمها متاحفنا، والتي أبدعتها أنامل فنانينا القدماء، منتشرة في مرافق حياة الناس اليوميّة، بحيث تتمرأى يومياً في عيونهم، مانحةً إياها المتعة البصريّة الجماليّة، ومقدمة لبصائرهم المعلومة عن ماهيتها، والحقبة التاريخيّة المنتمية إليها، وبالتدريج، تتكون لديهم، معارف ومعلومات عن حضارتهم السوريّة، وعما تحمله من قيم فنيّة وجماليّة وفكريّة ودلاليّة، وبذلك نحقق هدفين اثنين في وقت واحد: الأول تعريف الناس بحضارة بلادهم، والثاني النهوض بذائقتهم البصريّة الجمالية وتطويرها.
دور متعاظم
ولأن دور «المركز الوطني للفنون البصريّة» بجامعة دمشق، أخذ يتبلور، ويتضح، ويتعاظم يوماً بعد يوم، إن لناحية تنوّع وغنى الفن المركّب الذي يشتغل عليه، أو يتبناه، والحاضن لرؤى ثقافة فكريّة وبصريّة، جديدة ونوعيّة، تمتلك مشروعها المستقبلي الخاص، أو لناحية استقطابه لجمهور واسع، يتسم بالوعي، ويمتلك قناعة راسخة، بالدور المهم الذي يمكن للثقافة الجادة والعصريّة أن تلعبه، في عملية نهوض الوطن من رماده، ومن ثم مساهمتها بتطويره وتحصينه، ضد الاختراقات المحتملة، يمكنه أن يساهم بقوة وفعاليّة كبيرتين، في عملية إنشاء متاحف الشارع، وتعميمها في المدن والبلدات السوريّة كلها.
إن ما أضافه المركز للثقافة الوطنيّة (نوعاً وكماً)، وما حظيت به عروضه التشكيليّة، أو البصريّة المركّبة، من إقبال الجمهور عليها، وبشكل فاق المتوقع، وهو جمهور ينتمي إلى شرائح اجتماعيّة متنوعة ثقافةً وعمراً. وما أنتجته ورشات العمل التي أقامها، من أعمال فنيّة ذات قيم فنيّة رفيعة: شكّل في مجمله، رافعة جديدة ومهمة، للثقافة البصريّة السوريّة المعاصرة. رافعة جاءت في وقت صعب تعيشه سوريّة، وتحتاج بإلحاح، لمثل هذه الرافعات، لتحصين ثقافتها، وصون مستقبلها، من خروقات جديدة.
وإذا ما علمنا أن كل هذه الانجازات، حققها المركز، خلال عام واحد من انطلاقته، ندرك مدى أهمية وحساسيّة الدور الذي يؤديه للثقافة الوطنيّة المعاصرة.
«نحن» و«هم»
من جانب آخر، ظل الفنان الأوروبي شغوفاً ومأخوذاً بالفن الروماني-اليوناني، ردحاً طويلاً من الزمن، إلى أن قرر مغادرة هذه المنصات التي راوح وتكرر فنه فوقها، في بداية تحوله نحو الحداثة، بتأثير خروجه من أوروبيته الضيقة، إلى رحاب الحضارة العالميّة الواسعة، واحتكاكه بفنون الشعوب الأخرى، التي كان ينظر إليها بنوع من الدونيّة والاستخفاف، ومنها حضارة منطقتنا التي قام بسرقة قسم كبير من معالمها وإيداعها متاحفه، بعد أن تبين له ما تكتنز عليه من قيم فنيّة وفكريّة إنسانيّة رفيعة.. بتأثير من هذه الفنون الجديدة والمدهشة التي واجهها الفنان الأوروبي المعاصر، ولج إلى الحداثة التي تعيشها ثقافة عالمنا المعاصر. بالمقابل، ما زلنا نحن العرب، مأخوذين بما تخلى عنه الفنان الأوروبي، نجتره ونكرره ونمرره إلى عقول شبابنا، عبر أكاديميات وكليات ومعاهد الفنون الجميلة، التي ما زالت تعتمد نماذجه في العملية الدرسيّة لطلابها، غافلين عما لدينا من كنوز، تعانقت فيها جملة من القيم الفكريّة والفنيّة والبصريّة والجماليّة، المحليّة والعالميّة، التي أسس عليها الفنان الأوروبي حداثته، ومن المفروض علينا، أن نلتفت إليها، وبناء فنوننا المعاصرة، على ما تكتنز عليه، من قيم فنيّة شكليّة وتعبيريّة وفكريّة!.