القراءة في صفحات التاريخ الخفي توصلنا لحقيقة أننا أمة تستحق الحياة
غزوات شعوب البحر» كتاب صدر عن وزارة الثقافة الهيئة العامة للكتاب، مؤلفه نزار مصطفى كحلة، جاء الكتاب بواقع ثلاث مئة صفحة، محتويا على سبعة فصول، ويأتي البحث فيه ليسدّ ثغرة كبيرة في المكتبة العربية، الفقيرة أصلا بكتب تاريخ الشرق العربي القديم، وخاصة هذه المرحلة المهمة منه.
تحركات شعوب البحر
قسّم المؤلف الدراسة التي وصفت تحركات شعوب البحر وتحدث عن أسبابها وتاريخ حدوثها وكيف حصلت وكم استمرت والنتائج التي أسفرت عنها من خلال سبعة فصول، راعى فيها التسلسل المنطقي والتاريخي للأحداث، ففي الفصل الأول تناول المؤلف أوضاع المنطقة عشية حدوث المتغيرات، على حين تناول في الفصل الثاني، غزوات شعوب البحر بشكل عام، مع ذكر الأسباب التي أدت إلى حدوثها، وأفرد في الفصل الثالث الحديث عن غزو مصر من شعوب البحر، ومن ثم تحدث في الفصل الرابع عن غزو شعوب البحر لآسيا الصغرى، وسقوط الإمبراطورية الحثية، وكان الفصل الخامس لذكر غزوات هذه الشعوب لبلاد الشام، وخاصة مملكة أوغاريت، أما الفصل السادس فقد كان للحديث عن مواجهة ما تبقّى من هذه الشعوب والأقوام مع الدولة الآشورية الوسطى، في عهد ملكها تجلات بليصر الأول 1117-1077ق. م والقضاء عليهم بشكل شبه تام، وفي الفصل السابع تمّ التوصل إليها، نتيجة حصول هذه التحركات الكبيرة، في عالم شرقي البحر الأبيض المتوسط.
في غزوات شعوب البحر
لطالما مرت عبارة «غزوات شعوب البحر» معنا أثناء دراستنا لكتب التاريخ، خاصة تلك التي تعالج قضايا تتعلق بتاريخ آسيا الصغرى وسواحل بلاد الشام ومصر، أواخر الألف الثاني قبل الميلاد، هذه الشعوب التي انطلقت من السواحل الشرقية لأوروبا وجزر بحر إيجه، نحو 1200ق. م، مدمرة أمامها الإمبراطورية الحثية، ومملكتي أوغاريت وموكيش (آلالاخ)و باقي الساحل السوري، إلى أن استطاع الملك المصري رعمسيس الثالث 1189-1165ق. م إيقافها، حيث تفرق بعضها، وسكن بعضها الآخر فلسطين مندمجين مع سكانها الأصليين (الكنعانيين)، في ظاهرة تشبه إلى حد بعيد ظاهرة حروب الفرنجة (الصليبية) المعروفة. وفي مقدمة البحث تابع المؤلف، يقول الخطيب الروماني الشهير ماركوس شيشرون 106-43ق. م: «من لم يقرأ التاريخ يعش طفلا أبد الدهر» ومن يعتقد أن العلوم السياسية بمفهومها الحديث (دراسات وأبحاثاً) هي من نتاج القرون الأخيرة من الألفية الثانية بعد الميلاد، ويبق في حالة استنكار للدراسات التاريخية الهادفة لاستقراء التاريخ، واستخلاص العبر منه، يبق قاصرا عن استشراف المستقبل والإعداد له، خير إعداد. وحسب المؤلف كحلة، فقد علّمتنا دروس التاريخ، أن الفكر السياسي والدراسات السياسية، ودراسة الواقع الدولي، وقراءة الواقع السياسي لدول الجوار، ومعرفة المتغيرات الدولية، كانت من صلب عمل القادة السياسيين الكبار عبر التاريخ. وانطلاقا مما ذكر، نستطيع أن نفهم الدوافع التي أجبرت أعظم إمبراطوريتين- المصرية والحثية- حكمتا منطقة شرق المتوسط، أو ما يسمى اصطلاحات «المشرق الأدنى القديم» على توقيع معاهدة السلام، التي أعقبت معركة قادش 1985ق. م التي جرت بينهما في سياق الصراع الدولي للسيطرة على سورية (بلاد الشام) ذات الموقع الإستراتيجي المهم. تلك المعاهدة التي وقعت عام 1269ق. م أي بعد انتهاء معركة قادش بنحو ستة عشر عاما، ودخول القوتين العظيمتين «حربا باردة» لم تسفر إلا عن توقيع معاهدة السلام تلك، التي أنهت حالة الصراع بين أقوى قوتين في أواخر عصر البرونز الحديث 1600-1200ق. م.
ومن يدرس الواقع السياسي والرؤية السياسية، التي حدت بملوك وأباطرة تلك الدول، لتوقيع تلك المعاهدة، يجزم بأن ثمة «دراسات» واستشارات سياسية، قد تمت من الجانبين، فقد أدرك كل من إمبراطور الحثيين خاتوشيلي الثالث 1275-1250ق. م، وملك مصر رعمسيس الثاني1290 -1224ق. م أن ثمة متغيرات دولية قادمة، ليست في مصلحة الطرفين، لو استمرا في حالة العداء، ويأتي على رأس هذه المتغيرات:
1- حالة الضعف، التي كانت تعانيها الدولة البابلية في ظل الحكم الكاشي 1595-1157ق. م.
2- نهوض قوة آشور (الدولة الوسطى) بشكل ينبئ عن قيام دولة قوية، قد تنافس كلتا الدولتين (الحثية والمصرية).
3- والأهم من ذلك، الأحداث التي كانت تجري في شبه جزيرة البلقان، والتحول في مسيرة واتجاه الحكم في مملكة مسيني (ميكيني) نحو العسكرة، الذي أدى بدوره إلى تحركات هائجة، عمت معظم جزر بحر إيجه، وبعض جزر البحر المتوسط، إضافة إلى تحرك شعوب وقبائل آسيا الصغرى المجاورة لحاتوشا عاصمة الحثيين من جهة، وبعض قبائل منطقة ليبيا غرب مصر من جهة أخرى، هذه التحركات التي وصفت في نصوص مصر القديمة بأنها «تحركات الشماليين في جزرهم» (سكان الجزر الشمالية) التي باتت تُعرف اليوم بغزوات شعوب البحر.
كل هذه المتغيرات كانت قد رُصدت من قادة وملوك الدول الكبرى، فسعى كل طرف منها لتحسين مواقعه في انتظار القادم، بكل ما ينبئ من مخاوف وصدامات، قد تؤدي إلى كوارث تزيل دولا وإمبراطوريات من الوجود، وتنشئ أخرى.
صعوبات البحث
ذكر المؤلف نزار مصطفى كحلة الصعوبات التي واجهته خلال إعداد دراسته هذه، حتى إنه أفرد لها عنوانا خاصا، موضحاً أنها تجلت بنقص المصادر التاريخية، لطالما أعاقت بحثه خلال متابعة الدراسات والأبحاث، في الفترة التاريخية الفقيرة بالمصادر والنقوش والكتابات، وذكر أيضاً أن من المشاكل التي واجهته وكانت من المشاكل الأكثر صعوبة، هي تضارب فترة حكم ملوك وقادة تلك الفترة الزمنية بين مصدر وآخر، ما صعّب عليه إجراء المقارنات اللازمة، بغية الوصول إلى صورة أقرب ما تكون إلى الحقيقة، مشيراً إلى أن هذه التناقضات حالت دون ذلك، فقد بدا البحث، وفي بعض الأماكن، وكأنما فقد بعضا من منطقية الحدث، لكنه حاول قدر المستطاع أن يصل إلى أقرب تصوّر ممكن لما حدث في تلك الفترة الزمنية، من حيث دراستها بشكل واضح وجلي، فهي ترتقي بصعوبتها إلى تصنيفها من أصعب إشكاليات التاريخ دراسة وبحثا.
الغاية من البحث
الغاية الحقيقية من هذا البحث، مقاربة فترة زمنية غائمة في أذهان الكثيرين ممن تصادفهم هذه العبارة الدائمة (دمّرت على يد شعوب البحر)، وغالبا ما يأتي الشرح مقتضبا في أسفل حواشي صفحات تلك الكتب التي تتطرق لذكرها، ويبقى ما قدمه المؤلف كحلة: «محاولة، تأتي في سياق محاولاتي الكثيرة والمتشابهة في البحث عما خفي عنا في التاريخ، وخاصة القديم منه، بغية إدراك حقيقة ما حدث لنا، وما يحدث الآن، أو ما قد يحدث لاحقا، إذا أدركنا جيداً قراءة صفحات هذا التاريخ، وخاصة ما خفي منه، لعلنا نصل إلى حقيقة ما وصلنا إليه من تراجع، قارب حد التشكيك بأنفسنا وشكّك بقدرتنا على تصنيف بعضنا لبعضنا الآخر، على أننا أمة تستحق الحياة».
كما اعتبر أن الغاية الأهم من البحث هي الارتقاء بعقل القارئ نحو معرفة ما خفي من تاريخه وخاصة في المراحل المفصلية منه، التي ضنّت علينا معظم كتب التاريخ، في تقديم إيضاحات عنها، إضافة إلى استقراء العبر، وفهم الحاضر واستشراف أفضل للمستقبل.
سوسن صيداوي
"الوطن"