قفزة ممدوح عدوان الأخيرة … ربيت الكلمات لهذا اليوم وستلبيني حتى لو مُزجت بالدم
أعلنت دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع التي يترأسها نجل الشاعر مروان ممدوح عدوان، إصدار مجموعة جديدة له بعنوان «خارجيٌّ قبل الأوان»، العنوان هو لنص شاهق فيه محاكاة تاريخية متميزة وردت في مجموعة ممدوح عدوان الشعرية الثانية «تلويحة الأيدي المتعبة» 1968 وهو تجميع لنصوص من شعر عدوان المنشورة سابقاً، لكن الدار نفسها كانت قد نشرت مجموعة لممدوح عدوان بعد رحيله بعنوان قفزة في الهواء، وهو آخر ما أنجزته زوج الشاعر السيدة إلهام عدوان قبل رحيلها، بأن قامت بتجميع نصوص للشاعر كان قد أعدها لينشرها في ديوان وأضيف إليها بعض النصوص الناقصة تحت هذا التبويب، ليكون لدينا نصوص مكتملة ونصوص غير مكتملة مفتوحة على احتمال الامتلاء، هنا سيكون مفيداً جداً أن نتعرف إلى عدوان بالحرف الأول دون التمحيص و«الشغل» الذي كان يسبغ به شعره. في التقديم يورد هذا المقطع المهم للشاعر كمقدمة للكتاب حيث فيه:
«لن تخذلني الكلمات
لن تعجز عن نضح الهم
أنا ربّيتُ الكلمات لهذا اليوم
وستلبيني
حتى لو مُزجت بالدم»
الشاعر الوفي لقصيدة التفعيلة والذي لم يتأرجح مع قصيدة النثر، كما أنه لم يهاجمها، اعتمد دائماً على قصائد ابتعد فيها عن التغريب، والهمس، والأحاسيس المبهمة، بل اشتغل دائماً على أن تكون قصيدته واضحة، ومصوبة الهدف، توصل ما تريده، وتحرض قارئها على المزيد، ففي قصيدة «الانحناء» يكتب:
«ارفعِ الباب قليلاً سيدي
كي أمرّ الآن من غير انحناء
كلماتي عمرها لم ترني منحنياً
فهي في رأسي وتنداحُ إلى قلبي الهني
وإذا ما طأطأتُ رأسي
قد تتهاوى الكلماتُ
من فمي
وإذا ما رفعت رأسي كي أنطق شعري بعدها
قد لا ألاقي غير أشباح خواء
وكلام من رياء»
وكأن ممدوح عدوان كان عليه أن يصدر مجموعة من القوانين التي يجب أن يعرفها أي شاعر، ويلخّص تجربته، مرتبطاً مع الكلمة، موضحاً أن الشاعر لا يمكن أن يكون منخفض الرأس وذليلاً، كما أنه لا يمكن أن يصاب بالغرور ولا العنجهية الفارغة، وإلا فهو أمام قول الترهات، فهل يسمع شعراء اليوم هذه النصيحة المهمة؟! والشاعر عدوان الذي قال في آخر حياته: إنه ليس خائفاً من الموت لكن المشاريع مزدحمة لديه، وهو الجرم الذي ارتكبه الموت تجاهه إذ إن مرض السرطان لم يمهله ليكمل كل مشاريعه التي لم تكن لتتوقف حتى في أقسى ظروف حياته.
«سأموت
ولن يتعب موتي أحدا
لن يحزن موتي أحدا
لن يفجع موتي أحدا
لن يبكي موتي أحدا
فأنا خالي الذمة نحو الدنيا
والأهل،
وقد بعثرتُ حياتي
وكما يتوقع من متلافٍ مثلي
أتلفتُ جنى عمري بددا»
يبدو أن ممدوح عدوان عاد إلى الغنائية والقافية التي لم يتخلّ عنها يوماً، لكنها ربما في مرحلة ما حاول أن يذهب باتجاهات أخرى ببنية الجملة الشعرية، لكنه عاد إلى الروي والقافية التي تطبعها كلمة ممدوح عدوان المنحوتة وغير المألوفة، فهو شاعر، دائماً يبحث عن إيصال الفكرة بأدق الكلمات، حتى لو بدت هذه الكلمات غريبة على القارئ، فهو يجد في هذه الغرابة دعوة منه للقارئ لكي يبحث أكثر، ويزيد في قاموسه اللغوي:
«آن أن نرجع للبيت
هذا الليل أقبل
كالحاً مثل الطواغيت
وهذا البردُ ينسل إلى نقي العظام
آن لي
فالليلُ نمرودٌ
وإنيَ أعزل»
ممدوح عدوان لا يكتب دون هم سياسي، فهو حتى حين قال «يألفونك فانفر» وتوجه إليهم بتفاصيل حياته في «وهذا أنا أيضاً» لم ينسلخ يوماً عن الهم الاجتماعي والوطني، وبالتأكيد التاريخي، فلقد أبرز مجموعة من القفزات الشعرية القصيرة وهو صاحب النصوص الطويلة في معظم مجموعاته الشعرية لكن يبدو أن النصوص التي جهزها الشاعر بدت قصيرة ومنها «العودة– عزلة– من دون مازه– لوعة– خداع…) باستثناء ظهور نص سمي «قصيدة هناك» احتل نحو 44 صفحة في الكتاب يبدو فيه أن هذا النص هو مشروع نص ضخم كان الشاعر يشتغل عليه، حيث يبدو فيه أن عدوان يثبت فيه أفكاراً وانطباعات، حيث نجد فيه التفعيلة والنثر، والسرد والإنشاء وهو مسجل بتاريخ 1982، وبالتالي يجد الشاعر نفسه فيه مؤرشفاً لحقبة كان يطاردها دائماً تتحدث عن الموت والطغيان، ورحلة الإنسان العربي قبل أن يقتل وبعد أن تحول إلى جثة، والتاريخ الذي سجل به النص يشير إلى مرحلة الاجتياح الإسرائيلي لبيروت وما عناه الأمر له. بعدها ستجد مجموعة من النصوص عنونت «شغل شاعر– نصوص جاهزة» يهدي أحدها إلى صديقه الشاعر نزيه أبو عفش ويتألف من مقطعين أحدهما بالعامية المحكية:
«وجهه بعمر القلعة والقلع
وجهه بعمر الجبل وبعمر الحجار
وجهه مضافة وموقدة بالشتي ونار
وصدره لغربة بتندلع بالقلب أهل ودار»
بعدها تظهر مجموعة «النصوص الناقصة» التي جمعها أهل الشاعر ونشروها، ربما كانت بزهوة كتابتها ولم يعد عدوان إلى كتابتها مرة ثانية أي لم ينقحها فيحذف منها أو يضيف، لكننا سنجد أن مادة الموت مادة دسمة في هذه النصوص، وربما في معظم صفحات الكتاب، وهي سمة امتاز بها عدوان وأبناء جيله فهم خير من فلسفوا الموت وعالجوا تفاصيله:
«كلمات التعازي مع القبل الباردة
كلها أصبحت زائدة
وبلا فائدة
زاد في بيتنا سرير له وخزانة
زادت الغرفة الثانية…
…أحاديث أصحابه كلها أصبحت دونما فائدة
كلها أصبحت زائدة»
هذه النصوص غير المعنونة لم يقل عدوان يوماً عنها إنها قصيدة ومضة أو قفزات شعرية، هي عبارة عن شطحات شعرية يعرفها الشاعر وحده ويعرف كيف يسجلها وكيف يعود إليها، ويتعارك معها.
«بلا شفقة
يطل بهاؤك ليلاً عليّ»
لينتج نصه الشعري الكامل، لكن دار النشر وأسرة الشاعر ستكون مشكورة لأنها استطاعت أن تقدم لنا مادة أشبه بالوثيقة تعرّف أجيالاً من الشعراء عن كيفية الاشتغال على النص، حيث قدمت لنا نصوصاً غير مشتغل عليها تماما، وهي نصوص تمتلك براءة القصيدة وعذريتها، وتمتلك أيضاً اللذة والشغف، وبالتالي لم تقدم لنا نصوصاً بكامل بهائها لنقول إننا أمام نصوص مغلقة بل هي نصوص تعبر حرفياً عن مفهوم النص المفتوح، لأن عدوان رحل ولم يغلق الباب عليها.
أحمد محمد السح
الوطن