نهضة الصحافة المصرية لم تحدث إلا على يد أهل الشام
كانت مصر أول دولة عربية تعرف عالم المطابع والصحافة، في زمن محمد علي باشا خلال القرن التاسع عشر، عقب افتتح مطبعة بولاق عام 1821، وإصدار جريدة الوقائع المصرية. ورغم ذلك فأن النهضة الحقيقية للصحافة المصرية لم تحدث إلا على يد الصحافيين الشوام.
في ذلك الزمن كانت ولايات الشام والعراق أسيرة الجمود الفكري العثماني، فأصبحت مصر المتنفس الإبداعي للولايات العربية العثمانية، لذا جرت الهجرات الإبداعية في مجال الصحافة والأدب والتمثيل والغناء وحتى السياسية في بعض الأحيان.
وأسس الشوام في الفترة ما بين سبعينيات القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية أكثر من 220 صحيفة.
لويس صابونجي... المؤسس
يشير الأب متري هاجي أثناسيو في كتابه "موسوعة بطريركية أنطاكية التاريخية والأثرية" إلى أن القس الدكتور لويس صابونجي (1838 - 1914) رئيس الطائفة السريانية في بيروت وأحد رواد التنوير في العالم العربي كان أول صحافي من أصول شامية يؤسس مطبوعة في مصر، وتم ذلك عام 1871، تحت اسم مجلة النحلة الحرة.
وكان صابونجي قد أصدر مجلة النحلة في بيروت عام 1870، ولكن الوالي العثماني قام بتعطيلها بسبب النقد الساخر، فتوجه إلى مصر في زمن الخديوي إسماعيل.
ورغم عدم تعرضه لمضايقات من السلطات المصرية، إلا أنه بحلول عام 1877 كان صابونجي قد نقل إقامته بشكل نهائي إلى بريطانيا، وأصدر جريدة النحلة في حلتها اللندنية كأول مجلة عربية مصورة تصدر من لندن.
آل تقلا... سلموا الأهرام إلى هيكل
قدم الكاتب الصحافي عزت السعدني نائب رئيس تحرير الأهرام رحلة عبر تاريخ آل تقلا مؤسسي دار الأهرام، في تحقيق مطول بالجريدة (عدد 25 نوفمبر 2006)، وأوضح أن عام 1874 شهد وصول سليم تقلا إلى الإسكندرية قادماً من لبنان، ثم تبعه أخوه بشارة في العام التالي، وأسسا مطبعة ودار الأهرام في الإسكندرية قبل نقلها إلى القاهرة، لتصبح أهم جريدة مصرية منذ أعوامها الأولى.
والأخوان تقلا من لبنان، وينتميان إلى أسرة البردويل قبل أن ينسب والدهم إلى أمه من آل تقلا. وأدى نجاح جريدة الأهرام إلى إصدار جريدة صدى الاهرام ثم جريدة الوقت.
وكان سليم تقلا مقرباً من الخديوي إسماعيل والأسرة الحاكمة، لذا لا عجب في أن تتخذ الجريدة موقفاً مناهضاً من ثورة عرابي، فقام الثوار بحرق مطبعة الأهرام، وعقب وفاة الأخوين أدارت بتسي تقلا، أرملة بشارة، الأهرام مع جبرائيل تقلا (1891 - 1943).
وفي زمن جبرائيل تقلا، كانت رئاسة تحرير الأهرام حكراً على اللبنانيين، سواء الشاعر خليل مطران، أو الصحافي داود بركات وصولاً إلى الأديب أنطون الجميل الذي رفع توزيع الأهرام من دون الخمسين ألف نسخة يومياً إلى ما يفوق المائة ألف نسخة يومياً وهو رقم قياسي ليس بمعايير زمنه فحسب بل بمعايير الصحافة المصرية حتى يومنا هذا.
وأنشأ جبرائيل أكبر مطبعة في الشرق الأوسط باسم مطبعة الأهرام وكان أول من جعل للأهرام مكاتب ومراسلين في معظم عواصم العالم في مطلع القرن العشرين، ونال أوسمة عديدة أهمها وسام الخديوي عباس حلمي الثاني، وشارك في تأسيس نقابة الصحافيين المصريين عام 1941.
وعقب وفاته، تولت أرملته رينيه تقلا إدارة الأهرام مع ابنهما بشارة الصغير تقلا، ثم تعاقدت الأهرام عام 1957 مع محمد حسنين هيكل (1923 - 2016) رئيس تحرير جريدة الأخبار ومجلة آخر ساعة لتولي رئاسة تحرير الأهرام، قبل أن يأتي قطار التأميم عام 1960 ويسافر بشارة الصغير تقلا إلى لبنان دون عودة.
أقوال جاهزة
كانت مصر أول دولة عربية تعرف المطابع والصحافة، ولكن النهضة الحقيقية للصحافة المصرية كانت على يد الشوام
شوام الصحافة المصرية... من الأهرام والهلال إلى التمصير والتأميم
الهلال... وريادة صحافة الطفل
عام 1890، أسس نجيب متري وجرجي زيدان (1861 - 1914) مطبعة ودار المعارف التي ساهمت في نهضة الرواية المصرية في القرن العشرين. ولكن زيدان اختلف مع متري وانفصل عنه ليؤسس مطبعة ودار الهلال عام 1892، بحسب موسوعة أعلام الفكر العربي للكاتب سعيد جودة السحار.
ويضيف السحار أن كلاهما أتى من لبنان، ولكن زيدان كان مؤرخاً نشر أعماله الهامة عبر الهلال ما أعطى للدار ثقلاً أدبياً. ولا تزال أعمال زيدان تمثل مرجعاً هاماً للمؤرخين حتى اليوم.
وعقب وفاته، طوّر إميل وشكري زيدان الدار بإصدار مجلة المصور التي تعتبر أعرق مجلة سياسية في الشرق الأوسط وأسندوا إدارتها إلى فكري أباظة.
وإلى جانب مجلة المصور، أصدر آل زيدان مجلة سمير التي تعتبر رائدة صحافة الطفل في العالم العربي، بالإضافة إلى النسخة العربية من المنتجات الأدبية لعالم ديزني مثل مجلة ميكي وسوبر ميكي وميكي جيب.
وصل أباظة إلى منصب نقيب الصحافيين أربع دورات وهو على رأس المصور، ولم يكن يتلقى راتباً بل يحول أرباحه إلى أسهم بالدار، ولما أتى قرار التأميم عام 1960 خسر آل زيدان وفكري أباظة "شقى العمر" على حد قول الأخير.
يعقوب صروف... رائد الصحافة المتخصصة
عام 1888، وصل اللبناني يعقوب صروف (1852 - 1927) إلى القاهرة، ونقل معه مجلة المقتطف التي أسسها في بيروت منذ عام 1876.
يمكن القول إن مجلة المقتطف علامة فريدة لصحافة متخصصة بشكل مبكر، إذ تميزت بمواضيع ومقالات علمية وفلسفية وفنية بعيداً عن أسلوب النشرات الصامت وقتذاك، خاصة في مجالات الجبر والحساب والهندسة والفلك والطبيعة والكيماء والفلسفة والتاريخ، وكان صروف يبحر بين كافة تلك العوالم دون أن يشعر القارئ بالملل.
وإلى جانب مجلة المقتطف، شارك صروف في تأسيس جريدة المقطم بالقاهرة وجريدة الخرطوم بالسودان، ما يجعله واحداً من أهم رجالات تجارة الصحف في زمنه.
المقطم... رائدة الصحافة المسائية
لم يكن صروف المؤسس الأول لجريدتي المقطم والخرطوم، ولكن كان للأديب اللبناني فارس نمر (1856-1951) الفضل في هذه الصحف، والفضل الأول في إنشاء صحافة مسائية حقيقية في مصر، وفقاً للمؤرخ مسعود ضاهر في كتابه "هجرة الشوام: الهجرة اللبنانية إلى مصر".
وعلى عكس غالبية الصحافيين الشوام الذين تقربوا من حاكم قصر عابدين فأن فارس نمر تقرب من المعتمد البريطاني اللورد كرومر من أجل الظفر بأخبار حصرية تكفل للجريدة الرواج اللازم والتفرد عما هو موجود على الساحة الصحافية، وهو ما نجح فيه.
كريم ثابت... مستشار الملك فاروق
ومن ضمن فريق العمل بجريدة المقطم كان اللبناني خليل ثابت (1871 – 1864)، إذ لحق بخاله فارس نمر إلى القاهرة وعمل رئيساً لتحرير المقطم لفترة ثم كلف بإدارة مطبعة وجريدة الخرطوم في السودان.
أسس الشوام ما بين سبعينيات القرن التاسع عشر ونهاية الحرب العالمية الثانية أكثر من 220 صحيفة
ابنه كريم ثابت، أسس جريدة المصري مع محمود أبو الفتح ومحمد التابعي، ثم باع نصيبه حينما تولى منصب المستشار الصحافي للملك فاروق عام 1942.
وكان اختيار ثابت مفاجئاً للوسط الصحافي، فمن جهة لم يكن المنصب موجوداً قبل ذلك، ومن جهة أخرى لم يكن كريم ثابت أكثر الصحافيين قرباً لفاروق.
وعقب قيام ثورة 23 يوليو 1952، سُجن كريم ثابت لفترة وأسقطت عنه الجنسية المصرية، وفقاً لشيخ الصحافيين حافظ محمود في كتابه عمالقة الصحافة.
القاهرة... أول صحيفة مسائية بعد ثورة يوليو
وإلى جانب ملاك الصحف ورؤساء تحريرها، كان للشوام مكانة مميزة في رئاسة الأقسام والإدارات المختلفة داخل الصحف المصرية، مثل السوري أسعد داغر في جريدة الأهرام خلال الأربعينيات.
استطاع داغر عقب ثورة 23 يوليو 1952 أن يصدر جريدة القاهرة، أول جريدة مسائية بعد ثورة يوليو، واستمرت الجريدة بين عامي 1953 و1959، وقد تميزت بعلاقاتها المميزة مع الأمير السعودي فيصل بن عبد العزيز.
وصدرت نسخة سورية مستقلة في دمشق بنفس الاسم، وانفردت الجريدة بنبأ قرب قيام ثورة يوليو العراقية عام 1958، وبعض كواليس الوحدة المصرية السورية عام 1958.
والملاحظ أن أغلب الصحافيين الشوام أطلقوا أسماء مصرية لا عربية على الصحف مثل القاهرة والأهرام والمقطم، فكانوا من دعاة القومية المصرية لا العربية وهو ما ظهر جلياً في كتاباتهم.
روز اليوسف... أشهر صحافية في الشرق
وُلدت فاطمة يوسف في لبنان عام 1898، وعاشت طفولة صعبة قبل أن تهرب إلى مصر. اتجهت إلى عالم التمثيل في بادئ الأمر وأطلق عليها لقب "سارة برنار الشرق" وفنانة المسرح الأولى.
وفي عام 1925 أصدرت مجلة روز اليوسف، وعلى ضوء الصدى الصحافي والجماهيري الطيب، أصدرت جريدة يومية بنفس الاسم.
يقول مصطفى أمين في كتابه مسائل شخصية "إن أغرب ما في قصة هذه المعجزة أنها وهي صاحبة أكبر مجلة سياسية في البلاد العربية لم تكن تعرف كيف تكتب وكان خطها أشبه بخط طفل صغير ومع ذلك كانت قارئة ممتازة وذواقة رائعة للأدب والشعر".
وفي 12 أبريل 1958، رحَلت السيدة فاطمة اليوسف عن الحياة، وترأس مجلس إدارة وتحرير روز اليوسف ابنها الأديب الكبير إحسان عبد القدوس حتى تأميم المؤسسة عام 1960.
التمصير والتأميم
بدأ التمصير ناعماً، إذ سعى الصحافيون المصريون إلى تملك أسهم في الشركات الصحافية التي يعملون بها مثلما فعل فكري أباظة مع الهلال، كما أن تقدم عمر الأسر الصحافية الشامية وعدم وجود وريث أو رغبة الورثة في العودة إلى لبنان عقب الجلاء الفرنسي كلها عوامل شاركت في غروب شمس الشوام عن وجه الصحافة المصرية.
كما جرت عمليات نقل ملكية بشكل آخر، فالصحافية اللبنانية فاطمة اليوسف ورثت روز اليوسف إلى ابنها المصري إحسان عبد القدوس.
ثم أتت ثورة 23 يوليو 1952 وظهرت النزعة إلى تمصير الاقتصاد برمته ورفض تملك الأجانب لرؤوس الأموال حتى لو كانوا عرباً، فسارع البعض إلى بيع أملاكه ومغادرة مصر جنباً إلى جنب مع الجاليات الإيطالية واليونانية واليهود والأرمن والشوام، ما جعل مصر تخسر تنوعاً اجتماعياً وثقافياً وفر لها أجواء حضارية بطابع لم يتكرر في دولة أخرى.
وأتى قرار الرئيس جمال عبد الناصر بالتأميم عام 1960 ليخرج الشوام من بلاط صاحبة الجلالة المصرية بعد سنوات من التميز والتأسيس لدور صحافية لا تزال تعمل تحت مظلة الحكومة المصرية حتى اليوم.
إيهاب عمر
رصيف 22