ما هي قصة المخطوطة التي كتبتها العذراء باللغة العربية؟
في عام 1588، أثناء بناء كاتدرائية مدينة غرناطة التي مازالت قائمة حتى اليوم، والتي تمّ تشيدها مكان المسجد الجامع، وجد البنّائون علبة تحتوي على رقّ وقماش وعظم إصبع وصورة للعذراء.
على الرق نقشت نصوص دينية باللاتينية والعربية والإسبانية، كتب فيها أن القديس سيسيليوس، الذي كان يعتبر حينذاك أول من أدخل المسيحية إلى غرناطة، قد أمر بدفنها هناك في القرن الأول لميلاد المسيح.
استقبلت الكنيسة في إسبانيا وروما الخبر باحتفاء، وأمرت بجمع المتخصيين، ومن بينهم مجموعة من المترجمين الموريسكيين، للتحقق من هذه الآثار، فوجدوا أن الرق الذي زُعِم بأنه جزء من حجاب العذراء، لم يكن أصلياً.
ولكن هذا الاكتشاف كان مقدمة لاكتشاف أهم تمّ عام 1595، في كهف جبلي من المنطقة المعروفة اليوم بالسَكْرُمُوْنتي (Sacromonte)، حيث وُجِدت أربعة ألواح من الرصاص عليها نصوص مكتوبة بلغة شبيهة باللاتينية.
نوّهت هذه النصوص على الألواح إلى العلبة التي تمّ العثور عليها في مسجد غرناطة، كما ذكرت أيضاً أخبار القديس نفسه. كذلك نوّهت إلى وجود نصوص أخرى باللغة العربية في الأماكن المجاورة.
ولسنوات بعد ذلك، كان همّ الناس العثور عليها. وبالفعل وبشكل تدريجي، تم العثور على عدة أقراص رصاصية صغيرة كان بعضها مثقوباً ومجموعاً بسلك معدني. كما تمّ العثور على آثار أخرى تشير أن القديس وأصحابه قضوا في ذلك المكان.
وفي هذه النصوص أيضاً، ورد ذكر كتاب يحتوي على تنزيل إلهي فريد، مكتوب بالعربية بخطّ العذراء مريم، وهذا الادعاء جعل من اللغة العربية، التي كانت مهددة بالضياع في تلك الأرض المسيحية وقتها، الوسيط الوحيد للوصول إلى كتاب الوحي وآثار العذراء.
استُقبلت كل هذه الاكتشافات بشكل إيجابي من قبل المسيحيين والموريسكيين، ولكن كيف يمكن أن نفهمها؟ وكيف يمكن أن نقرأ في سطورها تاريخ آخر أيّام أهل الجزيرة من المسلمين؟
من هم الموريسكيون؟
الموريسكيون هم المسلمون الذين اعتنقوا الدين المسيحي، طوعاً أو عنوةً، بعد سقوط الأندلس على يد الممالك المسيحية في شبه الجزيرة الإيبيرية.
وهم الذين عانوا مأساة محاكم التفتيش التعسفي (Inquisición)، التي راقبت علامات تمسكهم بالدين الإسلامي والثقافة العربية، إلى أن كان نفيهم النهائي بأمر ملكي من الأراضي الإسبانية في بداية القرن السابع عشر الميلادي (1609).
أقوال جاهزة
في النصوص المكتشفة حينها حديث عن كتاب يحتوي على تنزيل إلهي مكتوب بالعربية، بخطّ العذراء مريم. ما حقيقته؟
كتب مسلمو الأندلس علوم دينهم وآدابهم الإبيرية بالأحرف العربية، وهناك أمثلة مشابهة في البلقان وألبانيا
بالرغم من مأساتهم، التي كانت كمأساة أي شعب تقمع حريته تحت حكومة باطشة، نجح الموريسكيون في المحافظة على هويتهم والتعبير عن أنفسهم أمام من أراد طمس وجودهم.
لا بدّ من تأريخ الظلم الذي وقع عليهم من الطبقة الحاكمة، وكذلك من أفراد الشعب الذين أرادوا انتهاز الفرصة لاستغلالهم واستغلال أموالهم.
ولكن لا يمكننا اعتبارهم ضحايا بطش الشعب الإسباني بأجمله فحسب، لأن ذلك لا ينصف ما تركوه من تراث فريد، كما أنه لا ينصف من تعايش معهم بسلم من الشعب الإسباني إلى أن لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً.
لغة عجمية بحروف عربية
رغم نسيان الموريسكيون التدريجي للغتهم العربية لغياب فرصة استخدامها في حياتهم اليومية، فإنهم قد حرصوا على المحافظة على تراثهم الثقافي من الضياع لكونه قوام هويتهم.
فقاموا بتدوينه بلغتهم الإسبانية المتداولة بين الشعب حينذاك مستخدمين الحروف العربية الباقية من ماضيهم الأندلسي لإخفاء المضامين الدينية الممنوعة عن محاكم التفتيش، وهناك من يعتقد أنهم استخدموا هذه الحروف لشعورهم بقداستها فقد كانت كل ما تبقى لهم من لغة القرآن الكريم، وسميت هذه اللغة بـ"اللغة العجمية" (Aljamía).
من التراث الموريسكي المكتوب، وصلتنا نصوص أدبية ودينية وعلمية، تمت إعادة كتابتها ونقلها من اللغة العربية إلى اللغة العجمية، ولكن كان لها طابع خاص.
اختلفت هذه الأعمال عن المصادر العربية الأصلية التي حاولت توثيقها، لأنها كانت محظورة، ولأنها كانت أساسية في تكوين هويتهم من خلال ما تبقى لهم من تراث أجدادهم.
كما أنهم قاموا أيضاً بتبسيط محتوياتها لأن قارئيها لم يكن بمقدورهم استيعاب صيغها المعقدة، بسبب قلة المتخصصين بها، فلم تعد هناك مدارس رسمية تعتني بتلك العلوم الدينية واللغوية.
إذاً فقد هُمِّش كيانهم العربي والإسلامي إلى درجة أن كلمة "Morisco" (موريسكي) نفسها كانت نوعاً من التقليل من شأنهم، وأصلها من كلمة "Moro" (مورو) التي ما زالت تستخدم اليوم في إسبانيا ضمن سياق عاميّ محدد لتمييز المهاجرين الآتين من شمال إفريقية.
كان الموريسكيون يتعلمون في السر مقابلة الأبجدية العربية بالإسبانية، للإبقاء على إسلامهم وإن كانوا مسيحيين علانيةً.
ومع ذلك فإن ما كانوا يعرفونه عن دينهم كان ضئيلاً، ولذلك نجد أنّ الكثير ممن هاجر إلى بلاد الإسلام بعد نفيهم الجماعي، وجد مسافةً شاسعةً بين تدينه المبسّط، والتعمق الديني الذي وجده عند الناس في تلك البلاد.
فكان المورسكيون مختلفين حتى بين أبناء ملتهم، وحملوا هويتهم الإسبانية والأندلسية معهم وتابعوا كتابة نصوصهم في شتى المواضيع.
محاولة غرناطية لمزج الدين الإسلامي والمسيحي
اختلف وضع الموريسكيين الغرناطيين عن سواهم، لأن المملكة النصرية في غرناطة كانت آخر أرض إيبيرية تحت حكم إسلامي في الأندلس، وفيها كان حرق المخطوطات العربية بعد سقوط المدينة.
وكان سكانها متمسكين بشدة بدينهم، ولذلك وقع عليهم أقسى قمع من جهة محاكم التفتيش، فثاروا على السلطة الحاكمة من موقهم في منطقة الألبوخَرَّس (Alpujarras).
ردت السلطات بنفي معظمهم مبكراً عام 1570، كما أن الكثيرين من بينهم انتقلوا إلى مناطق أخرى في شبه الجزيرة قبل النفي النهائي.
بالرغم من ذلك، أو ربما بسبب كل ذلك، كانت في مدينة غرناطة آخر محاولة موريسكية لتأكيد شرعية وجودهم في هذه الأرض، ففيها كانت هذه الاكتشافات.
من تحليل هذه الآثار من الرقّ والقماش والنصوص وغيرها، تبيّن فيما بعد أنها كانت كلها من عمل الموريسكيين، الذين حاولوا تعزيز مكانة اللغة العربية كجزء من تاريخ المدينة القديم.
ولكنها تدلّ أيضاً، كما تشير الدراسات الثقافية للأندلس دائماً، إلى أن الشعب يتطلع غالباً إلى التعايش والسلم، وفي بعض الأحيان يوظف الاختلافات العقائدية في سبيل ذلك.
وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من المسيحيين حاولوا الدفاع عن النظرية الدينية المطروحة في هذه النصوص العربية المخترعة، لأنها كانت تقدم تاريخاً قديماً لاعتناق مدينة غرناطة الدين المسيحي.
ما يطرحه علينا هذا التاريخ المشترك للثقافتين في هوية الموريسكيين هو أنّ محاولتهم الوصول إلى حل للأزمة التاريخية التي مروا بها، جعل من الدين المسيحي والإسلامي ديني أخوة لا عداوة في شبه الجزيرة الإيبيرية.
وتاريخ الجزيرة ليس المكان الوحيد الذي تمّ فيه هذا النوع من التفاعل الثقافي، ومع أنه في كثير من الأحيان، أدى إلى العنف والنفي، ولكنه أيضاً، في نفس الوقت، خلق ظروفاً تشجع أشكالاً متعددة للتعايش والسلم.
فنتساءل اليوم: من هم موريسكيو القرن الحادي والعشرين الذين يحملون في قلوبهم الشرق والغرب معاً؟
رصيف 22