أوارق حبٍّ مسرَّبة
عبدالله حماده
منذ نعومة أظافرنا وتجذبنا مشاعرنا إلى أشخاص قد لا تربطنا بهم أي علاقة اجتماعية مسبقة، ودون سابق إنذار، ولا حلقة مداولة بين قلوبنا وعقولنا، هذا ما يسمونه الحب الذي لا تحكمه قواعد، ولا تضبطه قوانين، هو القلب فقط صاحب القرار في هذه المسألة.
تطور مفهوم الحب معنا بمرور سنوات عمرنا، وحالة النضج التي اكتست بها عقولنا وقلوبنا أيضًا، فبدايته كانت بهذا الشعور الفطري الذي يجمع بيننا وبين أمهاتنا، حب مجرد ليس بحاجة إلى أي مقومات حتى يكتمل بناؤه، حب لم نصنعه بل نستطيع أن نقول إنه هو الذي صنعنا، وهذا الحب الفطري يلازمنا طوال حياتنا حتى بعد الفقدان، تبقى آثاره متجذرة في داخلنا، وتحيا أرواحنا على ما بقي من مشاهد التي استطعت ذاكرتنا حفظها.
بعد ذلك تأخذنا مشاعرنا إلى علاقة جديدة، وفيها لا تحتاج مشاعرنا إلى أي دوافع لكي تتحرك وتنجذب إلى طرف العلاقة الآخر إلا الإحساس بالثقة فقط، حتى يستقيم بنيان تلك العلاقة، أنا هنا أتكلم عن الصداقة تلك العلاقة التي قال عنها الإمام الشافعي:
سلام على الدنيا إذا لم يكن بها
صديق صدوق صادق الوعد منصفًا
هذا الشخص الذي يستقرئ مشاعرك من أول لقاء بينكما، وتشعر معه بحالة من التطابق في اهتماماتكما وشعور بالأنس في ملتقياتكما، لا تجد حرجًا أن تحكي له أدق تفاصيل حياتك دون خوف أو قلق، فعلى العكس تمامًا تشعر بتلك الراحة الغريبة والفريدة التي تكتسي بها نفسك، فهمومكما وأحلامكما و أوجاعكما واحدة، تستشعر دائمًا أنكما معًا في خندق واحد، فإن أصابك مكروه يتألم لك، وإن سعدت بأمر وجدته أسعد منك، فكما قالوا عنها فإن الصداقة هي طاقة لا يمكن للإنسان العيش بدونها، فمن وجد صديقًا يشعر معه بتلك المشاعر الرائعة فلا يفرط فيه.
تنقلنا مشاعرنا بعد ذلك إلى ميدان مستعرة فيه الحرب، والذي تبقى فيه تصارع حتى تصل إلى تلك الجولة، والتي في كل الأحوال أنت فيها مهزوم، ولكن ليست هزيمة عادية بل هزيمة بالضربة القاضية.
هذا هو الحب الذي يأسرك ويقودك إلى جزيرة منعزلة تنتفي فيها عنك صفة الفاعل فأنت فيها دائمًا مفعول به، فبطبيعته يأتي على حين غرة من دون سابق إنذار، فيه تفقد السيطرة على كل شيء حتى جوارحك، فهنا تختل الموازين، وبرغم ذلك كله تحتويك سعادة كبيرة لم تعشها من قبل، هل سمعت من قبل عن أسير ويشعر بالسعادة ؟! لذلك يتهمون أحيانًا أصحاب هذه المشاعر بالجنون، ولكنه جنون ممتع، تعد تلك العلاقة هي الأكثر تأثيرًا في حياتنا، فبناءً على نتائجها إما نستمر في المسير، وإما نقف منكسرين بعد هزيمة موجعة يبقى صداها معنا باقي حياتنا، في هذا الميدان كل ما عليك فعله هو اقتناص الفرصة وعدم التخلي عنها مهما كانت التضحيات.
وفي لحظة معينة حينما ننتبه نجد أن مشاعرنا تشير لنا إلى حب فريد من نوعه، حب نستطيع أن نقول إنه هو المظلة الكبرى لكل ما نعيشه من مشاعر في مختلف مراحل عمرنا، هو حب الله، والذي لا يحتاج منا فقط إلا النظر بعمق حولنا والتأمل في كل شيء يحيط بنا؛ لنعلم أن هناك من يستحق أن نوجه له كل مشاعر الحب، وأن يكون حبه سببًا لوجود تلك المشاعر التي تكلمنا عنها آنفًا، هذا الحب قال عنه الإمام ابن القيم – رحمه الله-: «الشوق إلى الله ولقائه نسيم يهب على القلب ليذهب وهج الدنيا»، فليكن حب الله هو المحرك والدافع لمشاعرنا تجاه الآخرين وعلاقتنا بهم مهما كانت طبيعتها.
وأخيرًا لم تعد مشاعرنا سرًّا نداريه؛ بل أصبحت أوارق حبٍّ مسرَّبة.
ساسه