أبطال السير الشعبية: لصوص مجرمون وأبطال متمردون
أبطال السير كثيرة في الثقافة العربية، مثّلت شخصياتهم في المخيلة الشعبية دور المقاومة لفساد سلطة غاشمة أو احتلال فاشي، وخلدت بطولاتهم في مواويل وقصص تناقلتها الأجيال، وتغنّت بها في الأفراح والمقاهي والتجمعات العامّة.
وفي مواجهة الروايات الرسمية التي وصمت تحركاتهم بالانتفاضات الغوغائية، كرسّت السير الشعبية مبدأ التمرد في قصصهم، وصوّرتهم كفرسان.
علي الزيبق... الفارس النبيل
هو أحد أشهر الشطار والعيارين في السير الشعبية العربية، وصفه محمد سيد عبد التواب في كتابه "سيرة علي الزيبق" أنه "الفارس النبيل".
هو علي بن حسن رأس الغول، وأمّه فاطمة الزهراء ابنة قاضي قضاة محافظة الفيوم في شرق مصر.
تحدثت كتب التاريخ عن الزيبق، فقالوا إنه كان عضواً في جماعات العيارين في بغداد، بحسب ما ذكره ابن الأثير عنه.
وفي كتابه "سيرة علي الزيبق"، يصف عبد التواب العيارين فيقول: "هي جماعات ذات تكتلات اجتماعية لها تراتيبتها الخاصة، وقواعد سلوكها ومساكنها الجماعية التي احتفظت بسرية كاملة قدر الإمكان: فلقد شكلت هذه الجماعات نوعاً من الميليشيات الشعبية".
ويضيف بأنها "كونت معارضة حقيقية ضد الحكام وطبقة الأثرياء. ومن ثمّ شاركت في 'الحرب الأهلية' التي نشبت بين الأخوين الأمين والمأمون في أوائل القرن التاسع الميلادي". وقال ابن الأثير في حوادث سنة 444هـ أن العيارين قد انتشروا، وراحوا يأخذون الضريبة من التجار، ويتحكمون بأسواقها، وكان على رأسهم الزيبق.
استحضرت سيرة الزيبق في القصص الشعبية المصرية في عصر المماليك، وروت القصص أنه عاش في أزقة الحواري القاهرية.
يصف فاروق خورشيد في كتابه "علي الزيبق" تلك الفترة الزمنية، فيقول: "سيرة علي الزيبق تقدم صورة حية من حياة الناس، وظروف المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، عندما انهارت فيها سلطة الدولة وارتفع إلى مركز السلطان فيها المغامرون، من كل حدب وصوب".
أما عبد التواب، فيضيف أنّ علي الزيبق حارب الولاة الذين كانوا يستفيدون على حساب الناس، فكان كاللص الذي يحارب لصوصاً.
يروي عبد التواب أن القصص الشعبية حوّلت الزيبق إلى ما يشبه "روبن هود" فهو "من العامة يولد بينهم ويتبنى قضاياهم وهمومهم اليومية في معترك الطغاة واللصوص، ليس من أصل ملكي أو فروسي، فهو إنسان عادي يستخدم ذكاءه وقوته وحيله".
أمّا شعاره، فكان: "ما أخذ بالسرقة لا يسترد إلا بالسرقة"، فأصبح مادة مثيرة للقصص. ومن هنا يخلص عبد التوّاب أنه "لم يكن غريباً أن يتحول الزيبق إلى رمز للأمة كلها يحقق أحلامها في الخلاص من الفساد والظلم من خلال فنّ المقاومة بالحيلة".
البهلوان والعيار، أبطال عرب
تعتبر سيرة حمزة البهلوان ونائبه عمر العيار واحدة من أهم السير الشعبية العربية على الإطلاق.
وصفت شخصية عمر العيار بـ"أبو الصعاليك"، وكذلك بـ"أبو العيارين"، إذ يُقال بأنه لم يملك ديناراً، رغم ما عرف عنه وعن أصحابه أنهم كانوا يغيرون على القوافل وينهبون الأغنياء.
إن الذاكرة الشعبية حفظت سيرة هؤلاء المتمردين من الشطار والعيارين، بشكلها الملحميّ البطوليّ، وكرّست من خلال قصصهم فكرة التمرد على الأوضاع السائدة.
أقوال جاهزة
"ما أخذ بالسرقة لا يسترد إلا بالسرقة".. هل تعرفون أن في قصصنا الشعبية سيرة بطل يشبه روبن هود؟
في مواجهة الروايات الرسمية التي اعتبرتهم مجرمين وغوغائيين، صوّرتهم السير الشعبية كفرسان أبطال
أبو جلدة والعرميط، ياما كسّروا برانيط
أبو جلدة (أو أبو جلدة) والعرميط، هما فلسطينيان من أيّام الانتداب الإنجليزي لفلسطين، وكان لهما صورتان: واحدة تحتفل بهما، وأخرى تعتبرهما سارقان من الشطّار.
بداية فصل التمرد كانت مع أبو جلدة. واسمه الحقيقي أحمد المحمود، ولد بقرية طمون في نابلس. اشتغل أبو جلدة عتالاً في ميناء حيفا، وهناك تعرّف على العرميط وباقي رفاقه الذي أسس معهم عصابةً لمقاتلة الإنجليز ورجالهم من الإقطاعيين، أو في رواية أخرى، لينهبوا ويروعوا الناس.
يقول الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد في كتابة المعنون "أبو جلدة والعرميط"، إن "أبو جلدة تأثر بخطب الشيخ عز الدين القسّام في مسجد الاستقلال، وعايش مأساة أهالي قرى مرج بن عامر والأرض التي باعها إقطاعيون من خارج فلسطين، وطرد منها سكّانها"، فكانت عداوة أبو جلدة موجهة لمن أساء لحقوق الناس وبخّاصة حقوق الفلاحين.
لأن أبو جلدة والعرميط كانا من أبناء الفلاحين، ومثّل الفلاحون عماد تشكيل عصابتهما، واتخذوا من الجبال مأواً لهم، وتميزوا بالضربات السريعة الموجعة، كانوا يختفون بعدها، ولا يتركون أثراً كأشباح الليل، وكانوا بدأوا نشاطهم عقب ثورة 1930.
لم يكن الإنجليز وحدهم هم المستهدفون من قبل عصابة أبو جلدة، إذ ضمّ لقوائمهم أيضاً الإقطاعيين الذين أحنوا ظهور الفلاحين وهجّروهم من أراضيهم، والجواسيس المتعاونين مع الإنجليز وكذلك من اغتنى في وقت الحكم العثماني.
ويبدو أن سمعة أبو جلدة والعرميط انتشرت على أنهما قطّاع طرق، ونعرف ذلك لأنهما حاولا تفاديها أو التقليل من حدتها بارتداء زي عسكري يبعد عنهما وعن رجالهما تهمة الشقاوة، وكان الزي العسكري يتزيّن كتفيه بسيفين وثلاثة نجوم.
لكن نهاية عصابة أبو جلدة كانت الإعدام شنقاً، وقد كتب الكاتب الفلسطيني نجاتي صدقي في مذكراته، أن العرميط طلب من أمّه أن تحضر معها خنجراً في زيارتها له بالسجن لأنه سيضعه معه في قبره، وسيذبح به الخائن الذي وشى به.
وبحسب القصة، كما أوردها رشاد أبو شاور، في مقالته: "أبو جلدة والعرميط: سيرة بطلين شعبيين"، أن آخر كلمات أبو جلدة قبل إعدامه كانت: "بخاطركم يا شباب. فلسطين أمانة في أعناقكم، إيّاكم أن تفرطوا في حبّة رمل من أرض فلسطين".
وفي التراث الفلسطيني خلدهم الشعب بأغنيات كانت النسوة تغنيها في الأفراح ومنها جاءت المقولة "أبو جلدة والعرميط... ياما كسروا برانيط".
أدهم الشرقاوي
كغيره من أبطال السير الشعبية، يحتار المتلقي إن كان أدهم الشرقاوي، لصاً مجرماً أو بِلُغة عصره أحد "الشطّار"، أم أنه كان بطلاً قاوم المحتل الإنجليزي ونهب ثروات الإقطاعيين من أجل الفقراء.
وأدهم شاب مصري ليس فيه ما يلفت الأنظار، فلا هو ضخم الجثة ولا مفتول العضلات، ولكنه كان يملك جرأة، شهد له بها أعداءه من قبل أصدقائه، جرأة ألهمت شعراء شعبيين صاغوا الحكاية في مواويل، ونسجت لها أفلام سينمائية وأحياها الشعب المصري لأزمان طويلة.
تبدأ الحكاية الشعبية عندما كان أدهم صبياً يدرس في المدرسة، حين بلغه نبأ مقتل عمّه فبكاه وقرر الانتقام له.
وتكمل القصة، بأنه أهمل دراسته وقتل نفراً من الناس اشتبه في ضلوعهم بمقتل عمه. فقبضت الشرطة عليه، وكانت المفاجأة تنتظره بالسجن حيث اعترف له أحد المسجونين بقتله عمّه فقام الشرقاوي بقتله. لا تعترض السيرة الشعبية على أفعاله، خاصة في ضوء سمعته اللاحقة كبطل مقاوم.
ومع انطلاق ثورة 1919 تمكن الشرقاوي ـ وفق الرواية الشعبية ـ من الهروب من سجنه بصحبة عدد من المساجين الذين نجح بإقناعهم بضرورة الانضمام للثورة ومقاتلة الإنجليز، وذلك بعد أن ارتدى زيّ ضابط شرطة.
لا تتحدث الرواية الشعبية عن باقي تفاصيل أحداث ما بعد "الهروب الكبير"، سوى في ذكر مقتله بعد وشاية أحد المقربين.
لكن الرواية الرسمية التي أصدرتها الصحف في تلك الفترة ومنها جريدتي "اللطائف المصورة" و"الأهرام"، أن الشرقاوي مارس أعمال الإجرام والسرقة والقتل وأشاع الرعب في أنحاء "إيتاي البارود"، في محافظة البحيرة، شرق مصر.
وفي يوم مقتل الشرقاوي احتفت الدولة المصرية احتفاءً كبيراً بالحدث في الصحف الرسمية، التي قالت أنه كان سبب الفوضى في مصر وأن المصريين سينعمون بالأمن من بعده.
وصوّرت الملحمة الشعبية الأهم في مصر في موّال ربما هو الأشهر والأكثر شعبية عبر تاريخ المواويل الشعبية، ومثّلت مشهد موته بدراما مهيبة. يبدأ الموال بقول الشاعر: "منين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه؟".
والأغرب أن مطلع ذلك الموال أصبح مطلعاً شعرياً لكثير من المواويل المصرية، حتى أنّ الشاعر المصري نجيب سرور اسخدمه في إحدى قصائده.
ويصوّر الموّال الذي تغنى به أشهر المطربين المصريين ومنهم عبدالحليم حافظ ومحمد رشدي، حالة الشجاعة التي كان عليها الشرقاوي في نزاله مع قتلة عمه خارج السجن وداخله.
أحمد درويش
رصيف 22