واسيني الاعرح يكتب عن روائية وصحفية سورية
لم أقل لريمة راعي وأنا أتسلّم روايتها الجديدة (بائعة الكلمات)، في القاهرة، من ناشرها المصري «المكتبة العربية»، إني سبق أن قرأت روايتها الأولى (أحضان مالحة). فقد شدتني يومها شخصية سوار وهي تخرج منهكة من فرع الأمن بعد استجواب قتل طفولتها وسرق سكينتها الحالمة. من خلال زجاج الباص ورائحة شال حبيبها الذي يلف عنقها، تعيد سوار تشكيل وتركيب قطع حياتها الحميمية الممزقة، تعيد اكتشاف الحياة والطبيعة والحلم الذي يجب أن يظل قائماً. الحياة قبل أن تصنّعنا نحن الذين نصنع تفاصيلها الصغيرة التي تشبه قطع الساعة الدقيقة. يرفض صديقها الفنان ميرابو أن يرسم سوار كاملة حتى لا يحولها إلى صورة جامدة وميتة كما فعل مع نسائه الأخريات. ميرابو يوقظ إنسانيتها، هي الجريحة مرتين؛ جرح موت أبيها، وكراهية المتمركزة حول سلطان الذات القاسية. كيف يمكنها أن ترمم هذه القسوة المزدوجة بالحب؟ وهي في هذا ليست أفضل من صديقتها الطبيبة جفرا التي درست وأحبت في الخارج لتعود إلى دمشق وتدفع ثمن حريتها. على العكس من صديقتها جليلة التي اختارت مصيرها كما اشتهته في سن الأربعين. ومثلما كان الشال الذي على عنقها لحظة تفجر الذاكرة في رواية (أحضان مالحة)، كان الاسم الجريح-كما يسميه الباحث عبد الكبير الخطيبي.. أفروديت-هو لحظة التشظي السردية التي وجهت مسار رواية ريمة راعي الثانية (بائعة الكلمات). فجأة نكتشف من الأسطر الأولى أن هذه الرواية ذات الاقتصاد اللغوي الواضح، هي عبارة عن «لغز»، كل قطعة فيه لها مكانها المحدد، وكل خطأ في المكان يربك نظام الـ «پوزل» الكلي. كل تفصيلات العتبات التي افترضتها الكاتبة واقترحتها على قارئها ستتجسد لاحقاً في النص. من خلال ثلاثة عشر فصلاً، وفصل ختامي، تضعنا ريمة الراعي أمام تراجيدية المأساة الإنسانية، ليصبح فعل الحياة ممارسة شديدة الثقل والقسوة والانتظار داخل عالم حربي يصنع ثم ينفرط ككرة حرير. أشركتْ ريمة في مشروعها الروائي كتّاباً كثيرين من العالم: نيتشه، وكوان ماكلو، وجورج برنارد شو، وباولو كويلو الذي يتكرر، وفارغاس يوسا، وممدوح عدوان، ومارك توين، ورامبو، ومحمود درويش، وآن فرانك، ونيرو دا، وبودلير. كل افتتاحيات الفصول لو جمعت سيميائياً لجعلت من الخوف موضوعة جوهرية في هذه الرواية. لكل إنسان حكايته أو أسطورته كما يقول كويلو، هذه اللازمة تستثمرها ريمة في نصها بشكل محكم من خلال أسطورة أفروديت، إلهة الحب في الميثولوجيا الإغريقية، التي تحيط بها الأخطار من كل الجهات. الخوف من عالم مثل السراب، فكلما اقتربنا من مائه الوهمي اتضح في النهاية أنه لا شيء. وهذا ما يجعل هذه الرواية تستبطن القبح كوجه آخر من جمال ليس في النهاية إلا لحظة عابرة في عالم غلافه الدم والرماد والتكرار. لكل إنسان حكايته أو أسطورته كما يقول كويلو، هذه اللازمة تستثمرها ريمة في نصها بشكل محكم من خلال أسطورة أفروديت، إلهة الحب في الميثولوجيا الإغريقية، التي تحيط بها الأخطار من كل الجهات. الخوف من الحاضر، من الآتي، من الموت، من الحياة، في واقع يومي يشبه بركاناً بصدد الانفجار. لم تكن الأم تدرك في إحدى قرى ريف اللاذقية الغربي، قبل استشهادها على أيدي التكفيريين، أنها عندما أسمت ابنتها أفروديت على سيدة فرنسية نبيلة، إبان الاحتلال الفرنسي، أنها كانت تحمِّل ابنتها تاريخاً وليس اسماً فقط، جراحات متأتية من أزمنة بعيدة. كانت تتمنى، وفق المعتقد القروي العام، أن يكون الاسم طريقاً للحظ والشهرة والانتصار على البنات الأخريات. أفروديت ولدت تحمل قدر الفقر، وجسداً هشاً يمكن أن ينكسر في أية لحظة. سمراء بشعر أشعث لا يمشط إلا بصعوبة. كانت مثار سخرية صديقاتها. لا شبه بينها وبين اسمها. مفارقة عظمى. لكن في مسارها الصعب كانت أفروديت تبتعد عن شخصية الميثولوجيا الإغريقية، وتصنع أفروديت سورية مصرة على الحياة على الرغم من الخيبات والحروب والأحلام التي تكسر ولا تموت. في كل تجاربها الحياتية كانت أفروديت تصنع حكايتها وتؤسس لأسطورتها، وتكاد تكون شبيهة لحي بن يقظان؛ إذ تكتشف حقيقة الحياة وجوهرها بوسائطها الخاصة وحساسياتها الباطنية وعلاقاتها مع محيط ليس دائماً كما كانت تريده، لكنها تتحمله وتتخطاه. على العكس من أخيها فتحي، ذي السبع سنوات، الذي كبر بسرعة وأصبح خوفه من وصول التكفيريين إلى القرية حقيقياً لأنهم سيمنعونه من تربية الحمام. لقاؤها بالأستاذ سعد، خريج جامعة باريس والشاعر، شكل لها مرتبة من مراتب الصوفية وتنشيط الحلم، قبل أن تصبح صانعة الحلم للآخرين. تبيع كلماتها للعاشقات من صديقاتها. كيف امتلكت أفروديت كل تلك القوة الخلاقة لتصل إلى أعماق الآخرين؟ موهبتها، وربما أيضاً إصرارها على أن الحياة ممكنة حتى داخل اليتم ووجع الحروب. تتملكها روح بائعة كلمات لإيزابيل الليندي، منذ اللحظة التي اكتشفت فيها أنها تملك مفردات كثيرة، تجعل من يسمعها يفتح عينيه باندهاش، فقد جمعت مادتها اللغوية العشقية من الكتب التي كانت تستعيرها من الأستاذ سعد، لدرجة أن أستاذ العربية أصبح يشك في إنشاء فتاة لم تتجاوز أربع عشرة سنة، من أم فلاحة أمية؟ فكانت تكتب رسائل عشقية لصديقاتها الميسورات مقابل عشرين ليرة تخبأ في قن الدجاج، مكانها السري. شيئاً فشيئاً تصل أفروديت في رحلتها القاسية إلى حالة سلام مع الذات، في عالم الحروب والرماد والتقتيل، حيث القاتل والمقتول لا يعرفان بالضبط لماذا قتلا؟ وهذا يحول رواية (بائعة الكلمات) في النهاية إلى لحظة إصغاء إلى أعماق الإنسان، خارج أصوات المدافع وصرخات الاستغاثة. قد يكون ذلك مثالية أو حلماً ميتافيزيقياً هارباً، لكن من يستطيع أن يقول اليوم إن الحياة في كل قسوتها ليست إلا حلماً تقتله الحروب والكراهيات العرقية والطائفية المستعادة باستمرار، ويعاد ابتكاره بشكل جديد في كل ثانية من أجل استمرار الحياة؟ جميلة اليوم ليست مطالبة بحب الوحش، ولكن بالتدرب على تحمل بشاعته ووخز مخالبه الحادة. يحتاج الإنسان إلى عدم الاكتفاء بالنظر بعيونه فقط، ليجعل هذا العالم أقل عنفاً ووحشية. القدس العربي