بدر شاكر السياب والأسطورة العربية
تعامل الشاعر بدر شاكر السياب مع الأسطورة العربية على أنها من حالات الواقع العربي بتناقضاته وأزماته، كذلك هي تعويضٌ عن فكرٍ إيديولوجيٍّ مفقود، وقد عرف السياب بحسه الإبداعي والثقافي أن لكل أسطورة قيمة ودلالة وجوهر، وهو بحاجة إلى الكثير من التدقيق والتمحيص، والتعمّق لإدراكه وفهمه، فتعامل مع الأسطورة كقيمة ودلالة وجوهر، حيث استطاع أن يوظفها توظيفاً دقيقاً في نصه الشعري وذلك من فهمه وقدرته على متابعة الحالة الأسطورية وخصوصاً الأسطورة العربية. فقد حفظت الأساطير العربية وقائع وأحداث، وذكرت تفاصيل وطقوس، وروت حكاياتٍ عن ملوكٍ عظماء، كما أنها نقلت علوماً ومعارف، وبهذا فقد اعتمد الشاعر على هذا الكم من الأساطير العربية مثل الأساطير السومرية والبابلية والفرعونية، فأسطورة (جلجامش) الملك السومري الذي عاش في مدينة (أورك)، وكذلك (إنانا) السومرية التي هي عشتار البابلية وهي ذاتها (ايزيس) المصرية، وهي (افروديت) اليونانية، استفاد منها الشاعر ووظفها التوظيف الصحيح، وهي مصادر حملت بين طياتها معلومات عن نشأة الكون وبداية الحياة وخلق الإنسان، ولذلك فإن الأساطير هي في ذات الشاعر ليست مصطنعاً أو متخيلاً إنما هي وقائع وأحداث حصلت إما من صنع الإنسان أو من صنع الطبيعة أو من صنع السماء، كما أن كثيراً من الشخصيات الأسطورية التي اعتمد عليها الشاعر هي شخصيات ذات دلالة ووضوح تاريخي وزماني ومكاني، فشخصية الملك (اجينور) أو (اشنار) مثلاً الذي هو ملك صور، انطلق هو وأولاده (فينيق، وقدموس، وكيليك، وجاليان) كما تقول الأسطورة، انطلقوا للبحث عن أختهم (أوروبا) أو (عروبا) الأميرة العربية التي خطفها الثور (زيوس) فاستقر (كيليك) في أرض هي أبعد إلى الشمال وعرفت باسم (كيليكيا) نسبةً إليه، واستقر (فينيق) في الساحل فعرفت البلاد باسم (فينقيا) نسبةً إليه، أما (قدموس) فقد انطلق إلى (كريت ومالطا) ثم انتقل إلى اليونان حيث أسس مدينة (طيبا) (ثيبا) كما تقول الأسطورة، بل إنهم خلقوا اسم (ليبيا) وهي والدة الملك (اجينور) على الشمال الأفريقي كله، أما اسم أختهم (أوروبا) فقد أطلق على الشواطئ الشمالية للمتوسط المعروفة اليوم بالقارة الأوربية.
إن فهم الشاعر للأسطورة بمعناها ومغزاها، حقق له التوافق حيث يقول:
أساطير مثل المدى القاسيات/ تلاوينها من دم البائسين/فكم أومضت في عيون الطغاة
بما حملت من غبار السنين/يقولون: وحي السماء/فلو يسمع الأنبياء/لما قهقهت ظلمة الهاوية/بأسطورة بالية.
لقد استخدم السياب الرموز العربية مثل (إرم ذات العماد) وأسطورة (يأجوج ومأجوج) والأسطورة الوثنية والأسطورة الكونية، وأساطير البطل المؤلمة ونظائره من الكائنات الخارقة في العصور الجاهلية، وأبطال الحكايات الشعبية مثل شهرزاد وكليلة ودمنة وألف ليلة وليلة، والكتب المقدسة، يقول الشاعر:
كي لا يكونوا إِخوةً لي
آنذاك
ولا أكون وريث قابيل اللعين
سيسألون عن القتيل
فلا أقول:
“أنا الموكّل ، ويلكم بأخي
فإن المخبرين
بالآخرين موكّلون!
وفي استفادته من الحكاية الشعبية يستخدم الشاعر شهرزاد كرمزٍ أسطوريٍّ حيث يقول:
في ليالي الخريف/حين أصغي وقد مات/ حتى الحفيف والهواء/تعزف الأمسيات البعاد/في اكتئاب يثير البكاء/شهرزاد/في خيالي فيطغى علي الحنين.
بهذا التصوير يرسم لنا السياب مصدره الأسطوري ليحقق في نصه الشعري حضوراً لافتاً يضع القارئ في تداعيات المشهد الأسطوري ويحيله إلى رؤية التصور المستقبلي من خلال جراحات الواقع، حيث نراه في قصيدته (مدينة بلا مطر) استخدم السياب أسطورة (تموز) البابلية إلهة الخصب التي تخلت عن المدينة، فجف فيها كل شيء، إذ لا مطر، ولا زرع، فانتشر في المدينة الجوع والجفاف، فبدأ أهل القرية التضرع إلى آلهة الخصب، يقول الشاعر:
وتقدم إلى تموز وحبيبته عشتار/وسار صغار بابل/يحملون سلال صبار وفاكهة
قرباناً لعشتار/ويشغل خاطف البرق/يظل من خلال/الماء والخضراء والنار.
كما استخدم الشاعر السياب رمزي المسيح والصليب في أغلب قصائده ولربما تكرر ورودهما في أكثر من قصيدة أو أكثر من مرة في القصيدة الواحدة، وهذا ما نلاحظه في قصائد ديوانه (أنشودة المطر) كذلك نرى الشاعر في قصيدة (المسيح بعد الصلب) التي هي قمة الرمزية للمسيح عند السياب، فنراه يتحدث بلسان المسيح مصوراً بها صورته وكأنه المصلوب الذي أنزل من على الصليب، وروحه الإلهية غير المتهورة تمنح الحياة للطبيعة والناس، يقول:
متّ كي يؤكل الخبز باسمي/لكي يزرعوني/مع الموسم/كم حياة سأحيا: ففي كل حفرة
صرت مستقبلا صرت بذرة/صرت جيلا/صرت جيلاً في الناس/في كل قلب/دمي قطرة منه/وبعض قطرة.
هكذا رأى السياب الأسطورة بمصادرها العربية، تعامل معها بوعيٍ فأبدع وأمتع…
د. رحيم هادي الشمخي
البعث