بعد أن ودّعها النازحون.. حمّامات السوق الدمشقية تنتظر اليوم عودة السيّاح والزوار
بعكس كل أوجه الحياة في سورية، مرّت الأزمة على الحمّامات الدمشقية بأقل الخسائر وعاد الاهتمام بزيارة الحمّامات خلال أزمة شحّ المياه وانقطاعها عن دمشق، وراح السوريون يقصدون الحمّامات لأسباب اضطرارية أكثر ماهي رفاهية، فازداد نشاط الحمّامات بعد أن اعتزله رواده في بداية الأزمة ليعود كجزء من الحياة عند الكثير من الأشخاص. لكن مع انحسار الحرب وتحسن الوضع المائي والكهربائي في البلاد وإلغاء التقنين ووصول المياه بشكل طبيعي إلى المنازل قلّ الاعتماد على حمّامات السوق، وعاد مستوى نشاطها، حيث قلّ الزوار مع غياب تامّ للسياح والأجانب. «أكثر ما يقصد الحمّام في فصل الشتاء»، حيث تقول ريم لـ «الأيام» إنها كانت تزور حمّام السوق مرتين في الأسبوع خلال الأزمة ولاسيما مع زيادة ساعات تقنين الكهرباء وقلة توافر المياه في دمشق، وتضيف: «كنت أرى حمّام السوق هو الحل الوحيد لمشكلتي حيث تأتي الكهرباء لساعتين والتقنين لمدة أربع ساعات وبهذا الوقت القصير لا يمكن للمياه أن تسخن على الكهرباء، لهذا السبب كنت أزور حمّام السوق كل خميس واثنين وأستمتع بالاستحمّام بالماء الساخن وبانتشار البخار في مختلف أروقة الحمّام، لكن اليوم مع انحسار آثار الأزمة في دمشق قلّما أزوره ونادرا ما أذهب اليه. أما «فرح. ف»، فتختلف أسباب زيارتها لحمّام السوق عن ريم؛ فهي عروس جديدة تقطن بسبب الأحداث مع عائلة زوجها المؤلفة من أكثر من 15 شخصاً، ولأنها لا تملك الوقت الكافي للاستمتاع في الحمّام بسبب كثرة قاطني البيت، لم تر حلاً إلا الذهاب إلى حمّام السوق ثلاث مرات في الأسبوع والاستمتاع بحمّام دافئ يتخلله الكثير من الرفاهية والتسلية مع الصبايا المتواجدات في الحمّام، لاسيما أن تكلفته المنخفضة تشجّع على زيارته. بدل السيران أم سامي تأتي هي وبناتها وجارتها إلى حمّام السوق كل يوم خميس ويحضرن معهن الطعام. تقول أم سامي اعتدنا أنا وجيراني قبل الأزمة أن نخرج كل يوم خميس إلى الغوطة كرحلة ترفيهية نسائية، وبعد الأزمة توقفنا عن هذه الرحلة الترفيهية بسبب الظروف الأمنية الصعبة، ولم نجد حلاً لنا إلا أن نجتمع كل يوم خميس في حمّام السوق، لنضرب عصفورين بحجر واحد، حيث نستحم بحمّام ساخن وبخار ونجتمع ونقضي وقتاً جميلاً بعيدا عن الهموم من جهة أخرى، وحتى بعد عودة الأمان ما زلنا نزور الحمّام ولكن في فترات متباعدة. ومن جهته أكدّ السيد فراس قويس صاحب حمّام الورد الدمشقي أن نسبة المهجرين والنازحين هي الأكبر من رواد الحمّامات، مضيفاً أنه قبل الأزمة كان رواد الحمّامات الدمشقية هم من السيّاح، وبعد الأزمة وبسبب عدم توافر الكهرباء والمازوت ازداد عديد رواد الحمّامات، ما لم يجعلنا نفقد الزبائن على عكس كثير من المهن الأخرى، مبيناً أن أسعار الحمّامات لم ترتفع إلا بشكل بسيط وهذا الارتفاع يعود إلى ارتفاع سعر المازوت. لكن مع عودة جزء كبير من النازحين اليوم إلى مدنهم وقراهم، عاد الحال إلى ما كان عليه، ولكن مع ذلك لا يخلو الأمر من عدد جيد من الزبائن الذين ما زالوا يحافظون على طقس الحمّام العربي، في الحرب والسلم، وهؤلاء هم روادنا الدائمين، مضيفاً: ننتظر اليوم وفود السياح والزوار لتعود الحياة إلى حمّاماتنا من جديد. دمشق والحمّامات دمشق هي إحدى أمهات المدن العربية التي عُرفت بحمّاماتها العامة والخاصة في الدور والقصور، وكان أهل دمشق يفخرون بحمّاماتهم إبان عهد الأمويين. وذُكر أن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك عندما بنى مسجد دمشق الكبير الأموي تحدّث إلى أهل دمشق بقوله: «تفخرون على الناس بأربع خصال، تفخرون بمائكم وهوائكم وفاكهتكم وحمّاماتكم فأحببت أن يكون مسجدكم الخامسة». وأثارت هذه الحمّامات الدمشقية اهتمام المؤرخين، وكان أول من بحث فيها الحافظ بن عساكر 571 هـ في تاريخه الكبير، وأفرد لها جانباً من بحثه عن التعريف بأقنية المياه التي في دمشق، فذكر 57 حمّاماً. وفي القرن الثامن الهجري أتى أبو علي الحسن بن أحمد الشافعي، فعدّد ما كان في أيامه من الحمّامات الذي بلغ 137 حمّاماً، منها 74 داخل دمشق. أما يوسف عبد الهادي 909هـ، فقد قدّم كتاباً مهماً في الحمّامات عنوانه «آداب الحمّام وأحكامه»، ويمكن اعتباره صورة صادقة للتراث الشعبي في الحمّامات إبان القرن العاشر الهجري، اذ تحدث عن شروط بناء الحمّام، ودخول الرجال والنساء إليه ونفعه ومضرته، والأوقات التي يُدخَل اليه فيها، وكذلك حكم مائه وبيعه وشرائه وأرضه وبلاطه، وحكم العورة فيه، ومن مدحه من السلف ومن ذمّه. وفي العصر الحديث، كان كتاب المهندسين الفرنسيين إيكوشار ECOCHARD ، ولوكور LECOEUR 1942 عن الحمّامات الدمشقية من أحدث وأشمل الكتب في هذا المجال، إذ بحثا في تطور حمّامات دمشق حتى القرن التاسع عشر. وأوجزا الحديث عن مياه دمشق، ووصفا الحمّام وبحثا في الحياة الاجتماعية فيه. وجاء كتابهما في مجلدين وعنوانه «حمّامات دمشق» Les Bains De Damas وعددا فيه حمّامات دمشق في تلك الفترة وكانت تبلغ 60 حمّاماً، وبيّنا أوقات عمل الحمّام نهاراً أو ليل – نهار. أقسام الحمّام الدمشقي حمّام السوق يتألف من ثلاثة أقسام: «البراني» و»الوسطاني» و»الجواني». عند دخولك من الباب الرئيسي تطالعك بحرة ماء مزخرفة ونافورة، وعلى اليسار مصطبة مفروشة بالسجاد تصعد إليها بثلاث درجات، وفي هذه الفسحة يخلع المغتسلون ثيابهم ويزودون بالمناشف والقباقيب، وبعد خلع الملابس يدخل المستحمون إلى الجواني، الذي تنتشر فيه الأجران الحجرية والطاسات النحاسية وتبدأ عملية «جلد الأوصال»، في جو غائم من البخار فيما تنشر أشعة الشمس دفئها من القباب المغطاة بالزجاج المقفى والملون، رائحة صابون الغار الحلبي تفوح في أرجاء وردهات الحمّام، والصغار يتزحلقون على ألواح الرخام وتعلو ضحكاتهم، لكن صراخهم يعلو عندما يمددهم «المصوين» المتخصص بفرك الجسم بكيس الحمّام الحلبي السميك والمخربش، وبعد أن يغتسلوا يعودون إلى الوسطاني وهو عبارة عن ردهات تستعمل لفرك الجسم وتستمد غرف الجواني المياه الباردة والساخنة من حوض الماء الحجري من خلال أنابيب قرميدية تمتد داخل جدران الحمّام، ليعم الدفء كل الأرجاء. بعد انتهاء الحمّام يرجع المستحمون إلى البراني للجلوس في المصطبة اليمينية ويشربون الشاي والزهورات، ومن ثم يتناولون مختلف أنواع الأطعمة التي أحضروها معهم في هذه الرحلة الصحية. الجدير بالذكر أن الحمّامات الشعبية في سورية لم تكن مقتصرة على الاستحمّام فقط، بل كان لها الكثير من الفوائد وخاصة تجاه معالجة بعض الأمراض الجلدية والعصبية. ومن أشهر هذه الحمّامات التي لاتزال قائمة إلى الآن، حمّام نور الدين في دمشق القديمة «البزورية»، وحمّام الورد في سوق ساروجة، وحمّام الشيخ رسلان في باب توما جودي دوبا الايام