طغيان الفكر العلمي الخاطئ من أرسطو إلى داروين
سوسن صيداوي
من المنظومة الفكرية تُبنى المجتمعات، وبحسب نوعية هذا الفكر ينتعش المجتمع وينمو أو يبقى جاراً لأذناب التخلف، فالفكر غير المبني على أسس غير علمية، يتحول إلى عقيدة استبدادية طاغوتية، تعمل على تفسير الظواهر الطبيعية وفقاً لمنظورها الذاتي، وبالتالي فإن هذا الطغيان الفكري لا يضع العثرات أمام التقدم العلمي، بل يعمل على قمع كل جهد علمي صحيح يجانبه حتى بالعنف أحياناً، وبالتصفية الجسدية لصاحبه في حالات أخرى، وصولاً إلى مرحلة تتحول فيها هذه الأفكار الطغيانية إلى عقائد يُعَرّف عصرها بها بغض النظر عما انطوت عليه من مفارقات تكاد ترقى إلى مستوى التناقضات. وحول طغيان الفكر العلمي الخاطئ وعن عرقلة مفاهيمه اللاواقعية واللاموضوعية للتقدم العلمي أقام مجمع اللغة العربية محاضرة ألقاها الدكتور هاني رزق جاءت بعنوان:طغيان الفكر العلمي الخاطئ «من أرسطو إلى داروين» في قاعة محاضرات المجمع في دمشق.
أمثلة
في سياق الدراسة التي قدمها د. هاني رزق في المحاضرة، استعرض أمثلة موثقة لطغيان الفكر العلمي الخاطئ، ولخصها على الشكل التالي:نظرية مركزية الأرض، والتَوَلّْد العفوي لـ أرسطو، محاكمة غاليليو، ونظرية مركزية الشمس، استبداد «السير إسحق نيوتن» والانتحال العلمي، إبداع «يوهان مندل»، أصل الإنسان، والانتقاء الطبيعي، وتحسين النسل.
أرسطو وكروية الأرض
في كتاب عن السماوات «On The Heavens»، ذكر أرسطو أن الأرض كروية الشكل، وليست قرصاً مسطحاً. بناء على هذه الحقيقة، استنتج ملاحظتين مهمتين تحدث عنهما الدكتور هاني قائلاً: الأولى أن خسوف القمر إنما ينجم عن توضع الأرض بين الشمس، والقمر. فخيال الأرض على القمر كان في جميع الخسوفات، التي لوحظت، مدوراً؛ ولا يصح هذا إلا إذا كان للأرض شكل كروي. أمَّا إذا كان للأرض شكل قرص مسطح؛ فإنَّ خيالها على القمر سيكون إمَّا متطاولاً، أم إهليجياً، إلا إذا كان الخسوف يحدث دائماً، في الوقت الذي تكون فيه الشمس تماماً تحت مركز هذا القرص، وهو أمر لا يمكن أن يتحقق دائماً. أمَّا الملاحظة المهمة الثانية فتتلخص في أن اليونانيين أدركوا نتيجة خبراتهم في الأسفار أن النجم القطبي (نجم القطب الشمالي) يظهر في السماء في موقع منخفض نسبياً عندما ينظر إليه من منطقة في الجنوب مقارنة برصده من منطقة في الشمال. ويرجع ذلك إلى أن النجم القطبي يتوضع فوق القطب الشمالي؛ فيبدو للراصد-الذي ينظر إليه من منطقة قريبة من القطب الشمالي- أنَّه يتوضع فوقه مباشرة، مشيراً إلى فرضية كروية الأرض بملاحظة ثالثة أخرى وهي مهمة أيضاً وتؤيد هذه الفرضية، وهي أن الراصد يرى أولاً شراع مركب آتٍ من الأفق، ثم يظهر فيما بعد المركب نفسه.
وتابع د. رزق إنّ «أرسطو» اعتقد أن الأرض ثابتة في مكانها، وأنَّ الشمس، والقمر، وبقية الكواكب، وكذلك النجوم تدور كلها في فلك دائري حول الأرض. فالأرض إذاً هي مركز الكون، وأنَّ الحركة الدائرية هي الأكثر احتمالاً لأنها الأكثر كمالاً. ولقد تبنى نظرية مركزية الأرض الرياضي والفلكي والجغرافي «بَطْلَيموس» الذي عاش في الإسكندرية، وعمد في ما بعد إلى تطوير هذه النظرية كي تصبح طرازاً فلكياً كاملاً.
غاليليو ومركزية الشمس
لقد اعتقد «غاليليو» منذ البداية أن نظرية «كوبرنيكوس» (التي ترى أن الكواكب تدور حول الشمس)هي نظرية صحيحة، ولكنه لم يتخذ الموقف العلني في تأييدها إلا بعد أن وجد البينة، التي تمكنه من دعم النظرية. وسرعان ما وجدت وجهة نظره تأييداً واسعاً خارج الجامعات؛ فأغضب ذلك أساتذة مدرسة «أرسطو»، الذين توحدوا ضده، وجَدُّوا في حَثِّ الكنيسة على تحريم الكوبرنيكية Copernicanism. لكن في عام1616 أعلنت الكنيسة أن الكوبرنيكية «مُضَلِّلة وخاطئة»، وأمرت «غاليليو» بألا يُدافع عن هذه التعاليم، أو يؤمن بها ثانية وإلى الأبد. ولكن حدث في العام 1623 أن أصبح على رأس الكنيسة الكاثوليكية في «روما» صديق لزمن طويل لـ«غاليليو». فحاول «غاليليو» فوراً أن يبطل قرار العام 1616. ومع أنه أخفق في مسعاه، إلا أنه استطاع أن يتدبر أمر الحصول على إذن يكتب بموجبه كتاباً يناقش فيه نظريتي أرسطو، وكوبرنيكوس إنما بشرطين: ألا ينحاز لأي من النظريتين، وتابع الدكتور هاني رزق قائلاً: أنجز غاليليو الكتاب، الذي وُسم بالعنوان (محاورة تتناول النظامين الرئيسين للعالم) ونُشر الكتاب في العام 1632 مشفوعاً بالدعم الكامل للرقيب. وقوبل الكتاب فوراً باستحسان «أوروبا» كلها كرائعة أدبية وفلسفية. ولكن سرعان ما ندم البابا على منحه الإذن بالنشر، إذا تيقن أن الشعب يرى في الكتاب حجة مقنعة لمصلحة الكوبرنيكية. وعلى الرغم من إقرار البابا بأن الكتاب حاز على المباركة الرسمية؛ فلقد حاول أن يبرهن على أن غاليليو انتهك قرار العام 1616. وبناء على ذلك استُدعيَ للمثول أمام هيئة التحقيق، التي حكمت عليه بالإقامة الجبرية مدى الحياة، وأمرته أن ينكر علناً الكوبرنيكية. وللمرة الثانية لم يكن بإمكان غاليليو إلا أن يذعن. متابعاً في حديثه بأَنَّه وعلى الرغم من أن غاليليو ظل كاثوليكياُ مخلصاً؛ فإنَّ إيمانه باستقلالية العلم لم يتزعزع. وقبل وفاته في العام 1642 بأربع سنوات وهو قيد الإقامة الجبرية في منزله، جرى تهريب مخطوطة كتابه الثاني الرئيسي إلى ناشر في «هولندا». وهذا هو الكتاب، الذي يُشار إليه بالعنوان (عِلمان جديدان) أصبح بمنزلة نشوء الفيزياء الحديثة.
الوطن