المثقف العربي ضحية الإعلام
علي أحمد ناصر
نشأ معظم أبناء الجيل الحالي من غير الشباب في جو من التجاذبات الحزبية العلمانية وغير العلمانية منذ أربعينيات القرن الماضي حتى نهايته، وكان للتيارين القومي والأممي نفوذ ظاهر وكاسح مقارنة بالتيارات الدينية التي تركزت بحزب الإخوان المسلمين والحركة الوهابية والأحزاب السلفية، وكان الصراع على أشده بين مجموع هذه الأحزاب في الخمسينيات من القرن العشرين، حيث خفَّت حدته في الستينيات وما بعدها بسيطرة الفكر القومي وبالتالي الأحزاب القومية على سورية والعراق ومصر والجزائر، على حين سيطرت الحركة الوهابية على السعودية ومن تحت جناحها من دول الخليج ولو بشكل متفاوت جداً حسب الولاءات والضغوط الاقتصادية والسياسية للسعودية. أما الماركسية فقد تركزت في اليمن الديمقراطي حتى وحدة اليمنين الجنوبي والشمالي.
كانت التجربة الماركسية كحاملة للفكر الاشتراكي داعمة لحركات التحرر العالمية عندما نشأ جيل مشبع بأفكار ثورية ونضج سياسي صار سمة مميزة للطبقات المتوسطة والدنيا من الشعوب العربية غير الخليجية.
بدأت شعارات الثورة والتقدم والاشتراكية والوحدة والحرية والمساواة الطبقية وغيرها من شعارات السبعينيات والثمانينيات بقوة تأخذ طريقها للتحقق حتى كارثة انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية، عندئذ مال الخط البياني للتقدمية بشكل حاد نحو الأسفل. في هذه الأثناء تفردت أميركا كقوة وحيدة في العالم فبدأت بمد سيطرتها على كل الدول خاصة ما كان منها تحت المظلة الاشتراكية التي تجلت بالأنظمة الجمهورية العربية عموماً.
فما الأسس التي نهجتها الولايات المتحدة الأميركية والدول الاستعمارية التي تقودها الصهيونية العالمية والماسونية الفكرية أثناء توسعها السريع هذا؟
مع انتهاء الحرب الباردة التي كان الإعلام من أهم وسائطها بدأت الحرب الإعلامية الناعمة تتغلغل في ثنايا الفكر الذي كان ميالا للشيوعية أو للقومية أو بشكل أدق ما كان معادياً للفكر الاستعماري الاستغلالي.
لعل حرب مسح المصطلحات التقدمية كانت من أهم الخطط التي نفذت بحذق وقوة وجاذبية معاً.
أصبحت جميع الأنظمة التقدمية واليسارية تنضوي تحت مصطلح الشمولية الذي تم توصيفه كلعنة للشعوب حسب الإعلام الغربي التوجه. وباتت مفردات مثل الاشتراكية والبعث والقومية والوطنية مجرد عبارات يجب شطبها من الذاكرة وعدم تلقينها للجيل اليافع أو الشاب بذريعة انهيار الأساس الفكري الأقوى الذي كانت تقوم عليه، ألا وهو الفكر الماركسي.
جُعِلَتْ كلمة «المؤامرة» مثيرة للسخرية في الصحافة وفي المقابلات التلفزيونية بل تم اعتبارها غباء سياسياً مع العلم أن جميع المخططات الاستعمارية للسيطرة على مقدرات وثروات العالم كانت ضمن ما يعتبر علميا مؤامرات الدول القوية لتقاسم جغرافيا باقي العالم الذي يعتبر سوقا واسعة يجب السيطرة عليها بشكل أو بآخر.
صارت الثقافة هي كل ما يتعلق بقشور الحضارة من ترف ومظاهر بذخ يتمتع بها الرأسمالي كمثال نقي عن العالم الجديد الذي تقوده أميركا.
بظهور المحطات التلفزيونية الفضائية ثم الإنترنت كوسائل تواصل إلكتروني سريع بين بقاع العالم ثم ظهور وسائل التواصل الاجتماعي صارت الكرة الأرضية فعلا قرية صغيرة يمكنها الدوران بسهولة ويسر حول محور واحد يتحكم بوسائل التواصل الرائعة تلك.
هنا بدأت فعلا الحرب الضروس وبسرعة هائلة باحتلال ما بقي من وعي المثقف العربي الذي سطحته التجارب الفاشلة للعدالة الاجتماعية التي قادتها سلطات جاء أفرادها من عامة الشعب وليس من الطبقات الوسطى أو العليا في المجتمع!
وحدث الانقلاب الثقافي في الشارع العربي عندما قادت مظاهراته محطتا «الجزيرة» و«العربية» الفضائيتان بشكل رئيسي بعد أن جاءتا بحلة مزينة بكل ما يتوق إليه المثقف العربي للوصول إلى العالمية لنقل معاناته من (إسرائيل) والغرب الظالم للشعوب المستضعفة! وهو لا يعرف أو يتجاهل أن هاتين المحطتين تحملان فعلا بذور التغيير ولكن لمصلحة مؤسسهما المستعمر نفسه بمال عربي نقي الرجعية!
المثقف العربي الذي عمل الإعلام الموجه ضده على غسل دماغه لم يستطع فضح سر هاتين المحطتين ومحطات أخرى رديفة أثناء احتلال العراق! بل بدتا كأجمل عروسين تنقلان الخبر الجميل فيطرب العرب له والخبر السيئ فيبكي العرب عليه!
حتى في تونس والجزائر ثم في مصر كانت هوليود بارعة في تقديم مونولوجات هزيمة الدول العلمانية أو شبه العلمانية! على شاشات أقنية هاتين المحطتين – القاعدتين العسكريتين الصهيونيتين- في بيت كل عربي!
لم يُكشف أمر هاتين المحطتين المدمرتين لفكر المثقف العربي إلا بعد تدمير ليبيا والشروع بتدمير سورية، قلب القومية العربية، وهنا كانت الماسأة العربية قد بلغت قمة المفاجأة!
صارت «الجزيرة» خنزيرة برأي رجل الشارع العربي وبدت «العربية» عبرية!
ولكن – سبق السيف العذل- النتيجة بقيت لمصلحتهما غالباً بعد أن استطاعتا مع غيرهما من الفضائيات غسل دماغ نسبة كبيرة من المثقفين العرب.. وصار الضياع عنوان الفكر الطليعي العربي في وقت يعيش المواطن العربي بأمس حاجة لمعرفة الصحيح من الخطأ في السلوك الثقافي والسياسي والاجتماعي اليومي!
الوطن