النساء السوريات مقاتلات مربيات يصنعن النصر وهن مصنع حماة الوطن
شمس الدين العجلاني
لسورية قصص وحكايا، قد تبدأ ولا تنتهي.. وذاكرة الوطن تختزن العديد من هذه القصص، قصص عن بطولة المرأة السورية وموقفها الصلب تجاه الأحداث المهمة التي اجتاحت الوطن. منذ الأزل والمرأة السورية هي مصنع الرجال، والنساء السوريات هن ولادات البطولة والكرامة والشهداء.
وفي العصر الحديث كان جلاء القوات الاستعمار الفرنسي عن سورية حدثاً وطنياً غير عادي جاء يوماً مشهوداً بعد سلسلة من الأحداث الجسام وتضحيات أبناء الوطن رجالاً ونساءً وأطفالاً، يحمل دلالات وطنية عميقة، ولم تستطع العادات والتقاليد التي كانت سائدة آنذاك، أن تقف عائقاً أمام مشاركة المرأة في حماية أرض الوطن.
ظهر العديد من الأسماء النسائية التي ساهمت في مقارعة المستعمر، كنازك العابد وزينب الغزاوي، رشيدة الزيبق، سارة المؤيد العظم ومنيرة المحايري وثريا الحافظ وحبابة ويسرى ظبيان وزهيرة العابد وسنية الأيوبي وفضه أحمد حسين وجيهان موصللي وبلقيس كرد علي والشهيدة سلمى بنت محمد ديب قرقورة وحبابة وزكية هنانو وغيرهن كثيرات.
ضفائر فتيات دمشق في المسجد الأموي
تقول الروايات التاريخية: بعثت فتيات من دمشق بضفائرهن إلى سِبْط ابن الجوزي خطيب المسجد الأموي بدمشق لتكون قيوداً ولجماً لخيول المجاهدين الذين يخرجون لتحرير فلسطين من براثن الصليبيين فخطب الشيخ خطبة حروفها من نار، تلدغ الأكباد وهو يمسك بشعور الفتيات وقال: «يا من أمرهم دينهم بالجهاد حتى يفتحوا العالم، ويهدوا البشر إلى دينهم، فقعدوا حتى فتح العدو بلادهم، وفتنهم عن دينهم، يا من حكم أجدادهم بالحق أقطار الأرض، وحُكموا هم بالباطل في ديارهم وأوطانهم، يا من باع أجدادهم نفوسهم من اللـه بأن لهم الجنة، وباعوهم الجنة بأطماع نفوس صغيرة، ولذائذ حياة ذليلة..
يا أيها الناس.. ما لكم نسيتم دينكم، وتركتم عزتكم، وقعدتم عن نصر اللـه فلم ينصركم، وحسبتم أن العزة للمشركين، وقد جعل اللـه العزة لله ولرسوله وللمؤمنين؟
يا ويحكم.. أما يؤلمكم ويشجى نفوسكم مرأى عدو اللـه وعدوكم يخطو على أرضكم التي سقاها بالدماء آباؤكم ويذلكم ويتعبكم وأنتم كنتم سادة الدنيا؟
أما يهز قلوبكم وينمي حماستكم أن إخواناً لكم قد أحاط بهم العدو وسامهم ألوان الخسف؟ أما في البلد عربي؟ أما في البلد مسلم؟ أما في البلد إنسان؟ العربي ينصر العربي، والمسلم يعين المسلم، والإنسان يرحم الإنسان.. فمن لا يهب لنصرة فلسطين لا يكن عربياً ولا مسلماً ولا إنساناً.
أتأكلون وتشربون وتنعمون وإخوانكم هناك يتسربلون باللهب، ويخوضون النار، وينامون على الجمر؟
يا أيها الناس.. أنها قد دارت رحى الحرب، ونادى منادي الجهاد، وتفتحت أبواب السماء، فإن لم تكونوا من فرسان الحرب، فأفسحوا الطريق للنساء يدرن رحاها، واذهبوا فخذوا المجامر والمكاحل، يا نساء بعمائم ولحى.. أو لا فإلى الخيول وهاكم لجمها وقيودها.
يا ناس أتدرون مما صنعت هذه اللجم والقيود؟
هذه ضفائر المخدرات، التي لم تكن تبصرها عين الشمس، صيانة وحفظاً، قطعنها لأن تاريخ الحب قد انتهى، وابتدأ تاريخ الحرب المقدسة، الحرب في سبيل الله، وفى سبيل الأرض والعرض، فإذا لم تقدروا على الخيل تقيدونها بها، فخذوها فاجعلوها ذوانب لكم وضفائر…
إنها من شعور النساء، ألم يبق في نفوسكم شعور؟».
وألقاها من فوق المنبر على رؤوس الناس، وصرخ: تصدعي أيتها القبة، ميدي يا عمد المسجد، انقضي يا رجوم، لقد أضاع الرجال رجولتهم.
فصاح الناس صيحة ما سمع مثلها، ووثبوا يطلبون الموت.
النساء في ثورة الشيخ صالح العلي
كانت ثورة الشيخ صالح العلي أول مقاومة للمستعمر الفرنسي، الذي أنزل قواته في الساحل السوري في 8 تشرين الأول عام 1918م، وفي 15 كانون الأول 1918، عقد الشيخ صالح العلي مؤتمراً، ضم عدداً من شيوخ الجبل وزعمائه وتقرر عدم الاستسلام للفرنسيين والدفاع عن الوطن وحريته، ومبايعة صالح العلي بالقيادة.
تميزت ثورة الشيخ صالح ضد الانتداب الفرنسي بمشاركة النساء بشكل كبير، فكن يقدمن الماء والمؤن للمجاهدين والقيام بالأمور الطبية والإسعافية وحلت النساء محل الرجال في العمل في الحقول، وقمن بالعمليات العسكرية وأسرن وسقط منهن شهيدات.
ومن أبرز من شاركن الشيخ صالح العلي بالجهاد: زوجته «فضة أحمد حسين» التي شاركت في كثير من المعارك في جنوب الجبل وشماله ومما يذكر عنها أنها كانت تقوم بمهام حمل البريد بين قيادات قطاعات الثورة، إلى مناطق أخرى، وأنها أثناء احتلال قرية الشيخ بدر وحرقها من قبل المستعمر الفرنسي، عمدت إلى اللحاق بالشيخ صالح فلاحقتها الطائرات الفرنسية وبدأت تطلق قذائفها عليها وهي في الأحراش والغابات المحيطة بالقرية إلى أن تمكنت من تضليل الطائرات ووصلت إلى مكان الشيخ صالح وهذه الحادثة من حوادث ومعارك أدت إلى شيب مبكر لكامل شعر رأسها وهي شابة لم تكمل من العمر خمسة وعشرين عاماً حينها.
ويذكر أيضاً أن زوجته الأخرى (حبابة) كانت ترافقه في المعارك. وكانت تلقم له البارودة الفارغة، لأن الشيخ كان يقاتل ببارودتين، وكانت تتفقد الحرس ليلاً، ومن وجدته نائماً، أخذت بارودته ووقفت مكانه.
الحرية حليب سنرضعه لأطفالنا
حين تكالبت قوى الشر والعدوان للنيل من بلادنا عقب خروج المحتل العثماني، وقفت نساء دمشق بجانب رجالها للدفاع وحماية البلاد من نير الاستعمار، ويروى أن أول تظاهرة نسائية عرفتها دمشق كانت في السادس من شهر نيسان عام 1922 عندما اضطر المستر كراين (رئيس اللجنة الأميركية التي زارت دمشق لاستطلاع رأي أهلها في الانتداب الفرنسي) لمغادرة دمشق من الفندق الذي كان يقيم فيه، فتجمهر أمام الفندق وفي داخله عدد غفير من رجال ونساء دمشق، وعرف من نساء دمشق اللاتي تجمهرن: منيرة العسلي– بهيرة العسلي– نجلاء الشهبندر (شقيقة الزعيم عبد الرحمن الشهبندر)– وزوجة الزعيم الشهبندر.
وأمام هذا الحشد الجماهيري وقف الزعيم الشهبندر وألقى كلمة ارتجالية حماسية طالب فيها باستقلال البلاد السورية وخروج المستعمر الفرنسي منها، ثم قامت إحدى السيدات وسط هذه الجموع وخطبت بها خطاباً مثيراً، ثم وجهت كلامها للمستر كراين قائلة: إن الحرية حليب سنرضعه لأطفالنا مادامت الأرض أرضا والسماء سماء، فهاجت جموع المحتشدين بالتصفيق والهتاف باستقلال البلاد والتنديد بالانتداب الفرنسي. وهنا أجابهم كراين بالقول: طالبوا باستقلالكم على الطريقة العصرية الحديثة تصلوا إليه وجماجمكم العربية على أجسامكم.
وبعد ذلك خرج كراين من الفندق وركب سيارته فخرجت الجماهير المحتشدة وراءه بتظاهرة طافت شوارع دمشق، وكانت النساء تشكل جزءاً مهماً من هذه الجماهير.
وهتف جموع المتظاهرين رجالاً ونساء:
نحن لا نرضى الحماية
لا ولا نرضى الوصاية
واستمرت هذه التظاهرة تجوب شوارع دمشق حتى وصلت إلى دائرة الشرطة.
ويعتقد أن هذه هي المرة الأولى التي تخرج بها نساء دمشق متظاهرات ضد الاستعمار منادين بالاستقلال السوري وكان ذلك يوم السادس من شهر نيسان عام 1922 م.
ليحيا الوطن
ومن أروع مظاهر مقاومة نساء دمشق للمستعمر الفرنسي، حين تنادين للخروج بمظاهره تنادي بالاستقلال، وتندد بالمستعمر، وتدعو لعودة الحياة البرلمانية التي عطلتها قوات الانتداب، (نحن فتيات العرب، ليحيا الوطن، ليحيا الوطن) هكذا هتفت سيدات دمشق بتظاهرة انطلقت من مسجد الأقصاب وجابت شوارع دمشق الرئيسية في السابع عشر من تشرين الثاني 1943، ونددن بالانتداب الفرنسي، وطالبن بخروج المستعمر من سورية فكانت قوات الاحتلال وأزلامه بالمرصاد لهن، فتصدت لهن قوات الدرك والشرطة واعتقلوا 12 سيدة دمشقية، وفي اليوم التالي بدأت محاكمة فتيات دمشق أمام المحكمة الفرنسية المؤلفة من المسيو ليغ رئيساً، وقسطنطين منسي والمسيو انورة أعضاء، ومثل النيابة العامة المسيو موغان، وتداعى محامو دمشق للدفاع عن السيدات المعتقلات.
ومن الجدير ذكره حسبما يقول نزيه مؤيد العظم: «إن بعض النساء كن يشتركن في أعمال المقاومة السرية، ومن بينهن والدة المجاهد المعروف أبي عبده العشي السيدة خديجة العمري، التي تطوعت مراراً للخروج إلى الغوطة رسولة من رجال المقاومة السرية لتوصل أخبار تنقلات الجيش الفرنسي وحركاته إلى الثوار».
محاكمة فتيات دمشق
انعقدت محكمة الانتداب الفرنسي يوم 18 تشرين الثاني 1943، ومثلت فتيات دمشق الواحدة تلو الأخرى أمام المحكمة بتهمة الاشتراك في تظاهرة غير مسموح بها، وإقلاق الراحة العامة وشتم الشرطة (السيدات هن: بدرية محاسن، نديدة الطرابيشي، حياة الفوال، زينب الكردي، نعمت ارضروملي، جويدة اسما، علية موسى، فريدة قبرصلي، ميمونة الصرماياتي، فاطمة ارضروملي، فوزية الفاكياني، حياة السمان) ودافعت فتيات دمشق عن أنفسهن، كما ترافع عنهن محامو دمشق وفي مقدمتهم الدكتور منير العجلاني والدكتور سيف الدين المأمون، ومما قاله العجلاني والمأمون أمام المحكمة الفرنسية: «إن السوريين يفتخرون إذ يرون نساءهم يشاركنهم في العاطفة الوطنية، ويفهمن معنى الحياة والوطن والوطنية، وليس في هذا شيء من العار لأن الأمم الأخرى الراقية تباهي أن نساءها قد وصلن إلى درجة من الرقي أصبحن معها يضاهين الرجل ويضارعنه في كل شيء، إن هؤلاء السيدات حالة خاصة، إن نداء السيدات ليحيا الوطن) ليس فيه خطر على الدولة، لا أرى ما يؤخذ على امرأة تقول في تظاهرة هادئة: ليحيا الوطن، وطالبن بعودة الحياة البرلمانية، كما يطلبها كل إنسان في يوم إغلاق المجلس النيابي».
وبعد المرافعات اختلت المحكمة للتداول ونطقت بالأحكام التي تراوحت بين البراءة والسجن 8 أيام بحق فتيات دمشق اللواتي وقفن كالزرافات شامخات في وجه جبروت المستعمر، وطالبن بعودة الحياة البرلمانية، وخروج قوات الانتداب ليحيا الوطن حراً كريماً…
و لم تزل المرأة السورية حتى الآن تعمل على صيانة عزة الوطن وشرفه مدافعه عنه بكل غال وثمين فهن مقاتلات مربيات يصنعن النصر وهن مصنع حماة الوطن..
الوطن