كيف يصنع الإعلام رئيساً؟ الانتخابات الفرنسية إنموذجاً
مها محفوض محمد
يمتلك الاقتصاد الغربي معظم وسائل الإعلام الكبرى وبالتالي فإن الشركات التي تسيطر على الأوساط الإعلامية لها نفوذها الهائل على تلك الوسائل التي تؤدي دورها دائماً في خدمة السياسة حيث تعمل ماكينتها بطريقة ممنهجة ومدروسة.
في فرنسا عشرة أشخاص من أصحاب المليارات يمتلكون وسائل الإعلام والصحافة الفرنسية التي ساهمت في معظمها اليوم بإيصال إيمانويل ماكرون إلى ما وصل إليه فقد تم ترتيب كل شيء لإعداده كمرشح للرئاسة فكانت الحملة الإعلامية الضخمة المذهلة بدعم من طبقات المال أي نستطيع القول: إن ماكرون منتج صاف لوسائل الإعلام كما جاء في بعض العناوين الفرنسية «ماكرون مرشح وسائل الإعلام» وهذا انتصار إعلامي لخبراء الكذب والتضليل كما سماه باسكال بونيفاس في كتابه «المثقفون المزيفون» الذي تحدى فيه منظومة التضليل الإعلامي الفرنسي.
في أيار العام الماضي تم طرد الصحفية أود لانسلان من عملها وكانت معاونة مدير مجلة «نوفل أوبسيرفاتور» لأنها كتبت مقالا بعنوان «انقلاب CAC40 CAC» هو أهم مؤشر للأسهم الفرنسية في بورصة باريس يعكس نشاط أكبر 40 شركة من الشركات الاستثمارية الضخمة في فرنسا تتساءل فيه أود كيف يمكن لمرشح أن يبدأ مسيرته بصناعة إعلامية تقول: كيف لوسائل الإعلام أن تصنع بشكل كامل مرشحا للرئاسة وتظهره كملاك أو طفل جميل ذكي وسوف يكون متفهما لتظلم رأس المال « فتم طرد الصحفية بأمر من فرنسوا هولاند.
منذ العام 2014 وبعد بضعة أشهر على دخوله وزارة الاقتصاد بدأت عملية سبر أصوات لمعرفة نسبة الذين يرغبون رؤيته في الحياة السياسية ولم يكن ماكرون معروفا إلا على مستوى ضيق جداً من عامة الناس حين كان يعمل في مصرف روتشلد وحتى آذار العام الماضي فقط 5بالمئة من العمال ميزوا فيه شخصاً ليبراليا اقتصادياً فما الذي حصل خلال هذه الفترة القصيرة ليصل إلى نسبة 24بالمئة في الدورة الأولى من الانتخابات وأي دور كان لوسائل الإعلام في التأثير على الرأي العام؟
لقد بدأت الصحافة ومعها الكثير من النخب الفكرية بتعهده تماما إلى أن أصبح موضوع الأخبار المفضل في كبريات الصحف وهكذا على مدى العامين الماضيين كان الشخصية السياسية التي تصدرت وسائل الإعلام بأنواعها.
و بحسب عدة مواقع فرنسية أن ثمانية آلاف مقال نشرت عنه فقط في صحف «ليبراسيون، لوموند، إكسبرس، نوفل أوبسرفاتور» خلال عامي 2015 والعام الماضي تحت عناوين تروج له مثل «ماكرون يجسد الحداثة والتجديد»، «ماكرون عدو التقاليد» الخ.. وحماسة منقطعة النظير للصحفيين ورؤساء التحرير لدرجة أنه حركت لدى بعضهم قريحة الشعر عند لوران جوفران ونيكولا بيتو رئيسي تحرير ليبراسيون والرأي حتى لدى المساهمين كان التعاطف معه علنيا كما أبدى الملياردير بيير بيرجيه المساهم في صحيفة لوموند وغيره ممن عبروا عن افتتانهم بشبابه وحداثته أما عنوان «ماكرون الرومنسي» وقصة عشقه لمعلمته فقد بقي من العناوين الرئيسية في وسائل الإعلام على مدى أسابيع واحتلت صورهما أغلفة المجلات وكرست عشرات المقالات لحياته العاطفية مع زوجته بريجيت التي تكبره بـ24 عاماً وأصبح مشهد الحب والغزل للثنائي ماكرون حالة حب رومنسية على الطريقة الفرنسية بل أصبح اسم الزوجة مطروحا في الصحافة السياسية وبحسب صحيفتي لوموند والفيغارو أن العلاقة بين بريجيت وماكرون هي السبب في نجاحه كوزير اقتصاد ثم تأهيله للانتخاب لأنها الضامن لهذا الرومانسي الكبير الذي وقع في غرامها وكان عمره 16 عاماً وهي معلمته وأم لثلاثة أولاد.
فرنسا كلها تعرف القصة العاطفية لكن السرد والتكرار سيثير إعجاب الناخبات، أما لحيته التي أطلقها لبضعة أيام فقد أحدثت ضجة إعلامية مثيرة وتنوعا في العناوين من قبيل «اللحية على طريقة ماكرون»، «ماكرون مع لحية لمدة ثلاثة أيام»، «ماكرون: زمن اللحية الخرق في الصورة» وغيرها الكثير.
ومن ثم صورته في صالون الحلاقة ضربت رقما قياسيا في الانتشار وهكذا بقي ماكرون يحتل عناوين الصحف كلها إلى أن أصبح «الظاهرة ماكرون» كما سمته صحيفة الاكسبرس ومحطات التلفزة التي ثابرت على بث أن ترشيحه للرئاسة هو لحظة مهمة جداً.
وبعد أن أنجزت عملها وتمت عملية الترشيح للرئاسة أخذت وسائل الصحافة تتبادل التهاني على نجاحها في إنجاز المهمة.
تقول محطة «BFM TV»: لقد أصبح ماكرون السياسي المفضل لدى الفرنسيين نتيجة حشو الدماغ والتضليل المكثف الممنهج والفضل في ذلك يعود للصحف التي تمولها مؤسسات باتريك دراييه وادوارد روتشلد حيث بلغ مجموع ما نشر عنه 17000 مقال إضافة إلى مئات الريبورتاجات تكيل له المديح في الإعلام المرئي والدعم المستمر والمنظم من نخب إعلامية فرنسية».
الأوساط الثقافية الفرنسية في معظمها أيضاً لعبت دوراً كبيراً في دعمه وبعد نتائج الدورة الأولى عبر كتاب وفنانون كثر عن استيائهم من وصول مارين لوبين إلى الدورة الثانية في الانتخابات وأصدروا بياناً يدعون فيه الناخبين إلى الوقوف في وجهها لأنه وبحسب رأيهم أنها ستعرض حرية الفكر والإبداع للخطر.
جان ماري لوكليزيو الحائز نوبل للآداب عام 2008 قال: إذا ربحت مارين لوبين فسأتخلى عن جواز سفري الفرنسي «يحمل جنسية أخرى».
لكن بالمقابل هناك أصوات لمثقفين كبار رفضوا نجاح ماكرون وطريقة وصوله منهم ماري فرانس غارو المستشارة السابقة للرئيس جورج بومبيدو التي ترى في ماكرون شخصية ضعيفة يعاني من اضطراب مازوشي ولا يحترم نفسه في حين مارين لوبين هي الوحيدة التي بإمكانها أن تعيد لفرنسا سيادتها.
الكاتب والمفكر مارسيل غوشيه قال: من هو ماكرون لا أحد يعرفه حتى هو لا يعرف نفسه هو فقاعة هواء استفاد من الظروف الراهنة ماذا لديه من الدبلوماسية والإستراتيجية وفيما يخص أوروبا هو ضحل.
أما الفيلسوف ميشيل أونفري الذي يعد فيلسوف فرنسا المعاصر وصاحب الصوت الحر -كان قد أعلن مراراً أن فرنسا هي سبب الإرهاب وليس الإسلام- فيقول: ماكرون لا شيء لقد تم تصنيعه في الإعلام ومن جذبهم ليسوا مثقفين، إني أقر بالتاريخ المؤسساتي الطويل لعملية الانتخاب وأحترمه لكن أن يكون لك الحرية في ذلك لا أن تختار شكل الارتهان، السياسيون يطالبون المواطنين بأداء واجبهم بالمقابل يطلب المواطنون من السياسيين الشيء ذاته وأنا أدعو للتصويت على بياض.
الوطن