اكتشافات ممتعة في الترجمة والاعتراف بالآخر
لن تستغرق كثيراً في كتاب «مغامرات في أرض حرام.. في الترجمة والأدب المقارن» للدكتور ثائر زين الدين، حتى تستشف مُتَعاً كثيرة، واكتشافات مثيرة للاهتمام، لدرجة لن تفقد قدرتك على مزيد من الاندهاش كلمات قلَّبت مزيداً من صفحات هذا الكتاب الصادر عن دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع في 127 صفحة من القطع المتوسط، إذ تستشعر أنك فعلاً ضمن مغامرة، فرُبَّما لا تستغرب تشبيه ترجمة الأدب، والشعر خصوصاً، بالقبلة من وراء الزُّجاج، أو المثل الإيطالي القائل: «أيها المترجم، أيها الخائن»، لكنك، بكل تأكيد، ستتفاجأ عندما تعلم أن رواية «هان الآيسلندي»، التي كتبها «فيكتور هوغو» عام 1821، تأثَّرت كثيراً بأشعار المتنبي، حتى إنه استهل الفصل التاسع منها بأبيات من قصيدة: «لا خيلَ عندكَ تُهديها ولا مالُ.. فليسعد النطق إن لم تسعَدِ الحالُ»، المكتوبة في مدح قائد جيش مصر «أبي شجاع فاتك»، وقد أحبه المتنبي لفروسيته وشجاعته، في زمن الحاكم كافور، لنجد أن الفصل المذكور يتحدث عن زيارة الفارس الشاب «أوردينر» للكونت السَّجين «شوماكير» وابنته الشابة، وقد عَلِمَ أن دليل براءتهما وقع في يد «هان» الرهيب، ومع ذلك يقطع وعداً لهما، بأنه سيلاحقه ويُعيد العلبة التي تحمل رسائل ووثائق تخرجهما من السجن. وينطلق الفارس إلى غايته بعد أن رسم «هوغو» صورة جميلة ومهيبة له مُستوحياً من أجواء قصيدة المُتنبي التي تصف فارساً شجاعاً يقتحم المخاطر في سبيل غايات نبيلة، «بمعنى أن الروائي الفرنسي يعلم تماماً بمن قيلت أبيات المتنبي ومناسبتها والملابسات التي أحاطت بها، كما يقول زين الدين.
لن تقف المُقارنات المُفاجئة عند ذلك، بل تتعداه إلى موضوعة «الشعر وشهوة الحياة وأدب الشراب»، عند كل من الشاعر الروسي «سيرغي يسينين» والأخطل الصغير، وتستمر من خلال قصيدة «عودي» لعمر أبو ريشة المكتوبة عام 1965، وقصيدة من دون عنوان للشاعرة الروسية آنا أخماتوفا كتبتها عام 1911، لينتقل بعدها صاحب «تحوُّلات شجرة الزيزفون الضائعة» إلى عقد مجموعة من المقارنات والتشابكات الشائقة بين كتابَي «رسائل إلى شاعر ناشئ» للشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه، و«رسالة إلى روائي ناشئ» للروائي ماريو فارغاس يوسا، وبين مجموعة قصائد لها المحور ذاته هي «لكي تكون شاعراً» لـ«ياروسلاف سايفرت»، وقصيدة أخرى للشاعر الروسي الرمزي «فاليري بريوسوف» ذات موضوع مُشابه، وقصيدة «رسالة إلى شاعر شاب» لمحمود درويش من مجموعة «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي»، إلى جانب رسالة تحمل العنوان نفسه كتبها هيرمان هيسه، لنجد أنفسنا أمام الكثير من التساؤلات عن جدوى الكتابة وأساسيات الغوص فيها، وعن مغزاها ومصير مبدعيها وعن الولع الأدبي الذي شبَّهه «يوسا» بالدودة الشريطية التي على الكاتب تغذيتها باستمرار وإلا تسببت له بآلام مبرحة.
ويحيلنا المترجم زين الدين إلى الكثير من الدراسات والآراء المُتعلِّقة بالترجمة واصفاً هذا العمل الإبداعي بالمغامرة، قائلاً: مغامرة لأن المترجم مهما بدا متعاطفاً مع النص الأصل، ومُحبَّاً له، ومُعجباً به، فإنه –شاء أم أبى- سيستعين عنه، بذكاءٍ ومهارةٍ، بنصٍّ آخر يمكن أن يندرجَ ضمن نظام أدبه الخاص، أو أدب أمَّته الذي ينقل إليه النص. فكما يبين الباحث هنري غيفورد، لا يمكن لأكثر من لغة واحدة فقط، اللغة التي نعيش ونفكر بها، أن تكون حيّةً تماماً بالنسبة إلينا. ويبقى موضوع ترجمة الشعر أحد أكثر الموضوعات سجالاً في الماضي والحاضر، وهو ما عبَّر عنه الجاحظ بقوله في كتابه «الحيوان»: «الشعر لا يُستطاع أن يُترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حُوِّلَ تقطّع نظمُهُ وبَطُلَ وزنُه، وذهب حُسنُه، وسقطَ موضِعَ التعجُّب منه»، وبلبوسٍ مجازي قالها أيضاً الشاعر الإنكليزي «شيلي»: «إن ترجمة الشعر محاولة عقيمة تماماً، مثل نقل زهرة بنفسج من تربة أنبتتها إلى زهرية، فالعودُ يجب أن ينمو من البذرة وإلا ما طرح زهرة». بينما يقول المترجم والناقد عبد الغفار مكاوي: «للشعر روحٌ غير ظاهرة، تختفي أثناء سكبه من لغة إلى أخرى وإذا لم تتم إضافة روح جديدة خلال عملية النقل فلن يبقى منه سوى جثة هامدة». لكن «يبقى أحد أهم معاني ترجمة الشعر هو الاعتراف بالآخر»، بحسب بشير السباعي، الذي يقول أيضاً: «إن المترجم شأنه شأن الممثل على خشبة المسرح هو الكاتب الوحيد الذي يُهنِّئ نفسه على نجاح ترجمته إذا قلنا له، إننا لم نشعر بوجودك، لقد كُنا في ترجماتك أمام الشاعر نفسه». وعلى المترجم أن يكون ناقداً جيداً في لغته، وألا يأنف من تقليد أسلوب المبدع الذي يترجم له، ولعلَّه هنا يختلف عن سائر المُبدعين، من شعراء وقصاصين وروائيين، فهو الوحيد الذي ينبغي أن يفرح حين يخضع بصورة منضبطة لأسلوب شاعر أو روائي يترجم له.
أما ما يتعلَّق بالعبارات الاصطلاحية، فيرى الحائز مؤخراً على جائزة الريشة الذهبية لروسيا الاتحادية أنها تدخل في باب «ما يستحيل ترجمته» أو «ما يصعب ترجمته» على أقل تقدير، فمثل تلك العبارات من الصعب أن تمنح نفسها بسهولة للمترجم، وتصبح الترجمة أصعب من ذلك، عندما يلجأ الكاتب نفسُهُ لغايات أسلوبية وفنية معينة لتغيير محتوى أو شكل العبارات الاصطلاحية، بالحذف أو الإضافة أو التبديل بمفردات مُطابقة أو مُخالفة للأصل، أو بتغيير مواضع تلك المفردات، لبعث الحيوية والجدة في تلك التراكيب. ومن مثل تلك العبارات في اللغة الروسية «العزقة ضعيفة» وتعني أن الشخص تنقصه القوة والقدرة لفعل شيء ما، أو «وُلِدَ بقميص» ومعناها أن الشخص سعيد ويحالفه الحظ في كل شيء، أو «لا يحزم قضبان الزيزفون» والتي تُطلق للدلالة على أن الشخص قد تعتعه السُّكْر، فبات غير قادرٍ على صياغة جملة مُترابطة.
وتحدَّث الدكتور ثائر زين الدين فضل الترجمة في نهضة الشعر العربي من غفوته الطويلة، وكيف قطع في ستين سنة أو يزيد من التطور ما استغرق الشعر في بعض دول أوروبا مئات السنين كي يحققه، داخلاً خضم الحداثة، بعد أن تم إحياؤه وبعث الروح فيه، شكلاً وتقانات وموضوعات بسبب الترجمة، مضيفاً: «ما من أحد ينكر اليوم دور الترجمة والمترجمين في تطوير الشعر العربي، ولكن الدور الأعمق والأهم لهما يتجلى في حقل الكتابات السردية، ففي ظني أن الرواية والقصة ما كان لهما أن يولدا لولا المؤثرات الأدبية الأوروبية، لولا الترجمة عامةً، والاتصال المُباشر بالغرب من قبل بعض المبدعين العرب، ممن استطاعوا السفر إلى دول أوروبا وتعلم لغاتها وقراءة أدبها.
والحقيقة، إن فضل المترجمين الرواد، أولئك الذين كانوا أدباء وشعراء في لغتهم الأم لم يقف عند ما ذكرنا فقط، بل وضع لغة جميلة سليمة بين أيدي القراء، وأسهم في تبسيط لغتنا وتقريبها من اليومي والمعاش، ولعل من أصدق الأمثلة ترجمات الدكتور سامي الدروبي لأعمال دوستويفسكي وترجمات عبد الغفار مكاوي وبشير السباعي عن الأدب الروسي وترجمات صياح الجهيم عن الفرنسية وترجمات حسب الشيخ جعفر من الشعر الروسي، وأحمد الصاوي محمد عن الفرنسية وغيرهم».
على الضفة الأخرى يبين الناقد زين الدين تأثير «ألف ليلة وليلة» في الأدب الأوروبي، فها هو بورخيس يؤكد أن الليالي كتاب عَشقَهُ منذ الطفولة، وأول ما قرأه من أعمال، وأدى دوراً كبيراً في بناء شخصيته الأدبية، وماركيز يروي المصادفة التي جمعته في مكتبة جده بألف ليلة وليلة، وأنه لو لم يفعل لما صار أديباً، بينما فولتير تمنى لو أنه يفقد الذاكرة ليستعيد لذّة قراءة الليالي من جديد، فهذا الأثر الشعبي الشفوي الذي اشتركت في تكوينه شعوب غير قليلة من هنود وفرس وعرب شاميين وعراقيين ومصريين، ودُوِّن إبان القرن الخامس عشر في الإسكندرية أو القاهرة، ثم انطلق في أرجاء العالم هو من أكثر الكتب تأثيراً في إبداع المبدعين، وهو كتاب لا يموت على حد تعبير بورخيس. ليختتم صاحب «ذئاب وشعراء» كتابه بدراسة حملت عنوان «الاستشراق.. دور المترجمين في النهوض الحضاري والتواصل الثقافي» شملت مقاربةً للمصطلح، ثم تأكيداً على دور الترجمة في تطوير العلاقات الثقافية بين الأمم.
تشرين