انطلقت بالسيارة في الخفاء دون علم زوجها.. بيرتا بنز: المرأة التي سبقت الرجال بجلوسها خلف مقود السيارة
تنتشر بين الكثيرين نظرة شائعة للمرأة بأنها لا تجيد قيادة السيارة، وعادةً ما تقف خلف أغلب حوادث الطرق وتُسبب الكوارث المرورية، ويرجعون ذلك لافتقادها الجرأة والسرعة في اتخاذ القرارات أثناء القيادة، لكن ماذا لو علمت أن مَن قام بأول رحلة طويلة بالسيارة امرأة تُدعى بيرتا بنز، عندما قادت لمسافة امتدت لأكثر من قرابة 106 كم من مدينة مانهايم إلى مدينة بفورتسهايم في ألمانيا، وذلك في محاولة منها لدعم اختراع زوجها كارل بنز، الذي صنع أول سيارة تعمل بالوقود. وضعت مهرها كاملاً في شركة زوجها لدعمه ولدت السيدة بيرتا بنز، واسمها قبل الزواج بيرتا رينجر في الثالث من مايو/أيار من عام 1849م، في مدينة بفورتسهايم بألمانيا، في عصر حُرمت فيه النساء من الحصول على قدر كبير من التعليم، لاتفاق العلماء على أن قدراتها العقلية أكثر تواضعاً مقارنة بالرجل، إلا أن والدها الذي كان يعمل نجاراً وحقَّق ثروة طائلة فيما بعد، كان يثق بابنته التي أبدت ذكاء ونبوغاً في ميلها للعلوم الطبيعية منذ الصغر، وتحديها للأفكار الموروثة التي تقلل من شأن وقدرات المرأة، فأشركها في كافة أمور عمله الفنية، ما ساعد على توسيع مداركها. وحين بلغت ابنته سن الزواج تقدَّم لها الكثير من الخطاب كونها ذكية وجميلة ومن عائلة ثرية، إلا أنها أُعجبت بمهندس شاب مُفلس هو كارل بنز، الذي روى لها عمله على تصميم أول سيارة لا تقودها الخيول، أي يحركها الوقود، وهو ما كان يعد جنوناً آنذاك، إلا أنها آمنت به ووثقت في قدراته. وأصمَّت بيرتا أذنيها عن تحذيرات والدها من عدم قدرتها على تحمل المصاعب المادية التي ستواجهها عند الزواج من السيد بنز الفقير، لكونها فتاة اعتادت الثراء وسهولة تلبية متطلباتها، إلا أنها كانت تعي جيداً كيف أن والدها نفسه لم يحقق ثروته إلا عقب سنوات من العمل الجاد والاستثمار في العقارات، فراهنت على عبقرية خطيبها ووقفت إلى جانبه، وشرعت قبل إتمام الزفاف في استثمار مهرها كاملاً في الشركة الوليدة، التي أسَّسها بعد أن تدهورت أوضاعها المالية. أزمات مالية تحاصر العائلة لكن بيرتا صامدة بعد عقود من العمل الشاق وسلسلة لا تنتهي من المحاولات الفاشلة سجل كارل براءة اختراع لسيارته، في 29 يناير/كانون الثاني 1886م، فأصبح مخترع السيارة الأولى التي تسير بالوقود، لكن الصدمة حدثت عندما لم يرغب أي شخص في شرائها، فرغم العبقرية المشهودة للسيد كارل بها في تخصصه، إلا أنه لم يكن ناجحاً كرجل أعمال ولم يمتلك رؤية ثاقبة، حتى إن طموحه لسيارته كان محدوداً، لدرجة أنه لم يفكر في تزويدها بخزان وقود. وقد أدى ذلك إلى سوء أحوال العائلة المكونة من كارل وبيرتا وخمسة أبناء، فتعرضوا للعديد من الأزمات المالية، وواجهت الزوجة الجوع والعوز والسخرية الاجتماعية، ورغم اليأس الذي لازم زوجها والبؤس الذي عاشته معه، ظلَّت تدعمه دائماً وتشجعه على الاستمرار ولم تفكر في تركه أبداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن كارل بنز مخترع أول سيارة معتمدة على الوقود ومؤسس مرسيدس بنز الرائدة في صناعة السيارات، كان محظوظاً ومديناً بنجاحه للنساء في حياته، ابتداء من والدته التي أصرَّت على دعمه لاستكمال دراسة هندسة الميكانيكا رغم ضيق الحال، حتى تخرّج في معهد كارلسروه للتكنولوجيا، في يوليو/تموز 1864م، وتزوج بعدها بيرتا التي آمنت به ودعمته حتى حقَّق نجاحاته المبهرة. لم تكتفِ بيرتا بتمويل مشروع زوجها ودعمه معنوياً للمضي قدماً فيما بدأ طيلة تلك السنوات، بل بحثت عن طريقة ذكية للترويج لسيارته معتمدة على فطرة الأنثى التي لا تعدم الحيل لتحقيق أهدافها، فقرَّرت الانطلاق في رحلة طويلة تطمئن الجميع لسلامة وأمان السيارة، التي أثارت استغراب الجميع. رغم الأعطال والصعاب تمت الرحلة بنجاح صبيحة الخامس من أغسطس/آب 1888م وأثناء نوم زوجها اصطحبت السيدة بيرتا ابنيها ريتشارد ويوجين، وتركت لزوجها رسالةً غامضة بأنها ستأخذ طفليها لزيارة والدتها في مدينة بفورتسهايم، التي تبعد أكثر من 56 ميلاً، دون أن تحدد بأي طريقة ستذهب، واضطرت لدفع السيارة، التي كانت ذات محرك رباعي يعمل بالبنزين مع عجلات خشبية، بمساعدة نجليها، لمسافة كافية بعيداً عن المنزل حتى لا يوقظ صوت المحرك زوجها. لم تكن مغامرة بيرتا محسوبة، فكان الأمر جنونياً وغير مضمون بالمرة؛ لأن السيارة اخترعت قبل عامين فقط، ولم تكن قدراتها لتسمح لها بتسلق التلال أو الثبات فوق المنحدرات، ولم تُجر تجربتها في المسافات الطويلة، وكان من المتوقع أو شبه المؤكد تعطلها في أي وقت، وهي بالطبع لا تدرك كيف تتعامل مع أعطالها ولم تكن ورش إصلاح السيارات المتنقلة ظهرت بعد، والأدهى من ذلك أنها لم تكن تعرف الطريق. لكن بيرتا قادت السيارة رغم كل شيء، وكانت المفاجأة عندما تبيَّن لها أنها تسير في الاتجاه الخاطئ، وبعدما صحَّحت مسارها كانت أمامها مشكلة واحدة أساسية وهي الحصول على المياه، ففي هذه السيارة البدائية كان المحرك يُبرد عن طريق سكب الماء فوقه وتركه يتبخر، آخذاً السخونة معه، لذلك كانوا يتردّدون على الأنهار والجداول والمحلات كثيراً للحصول على المياه. في المقابل لم يكن الحصول على الوقود أزمة حقيقية أمامهم، فكانت السيارة تتحرك بالليغروين، وهو مُذيب عضوي من مشتقات البترول يشبه البنزين، وكانوا يحصلون عليه من الصيدليات والمتاجر، ولم يكن يعاد تدوير المحترق منه، بل كان يُسكب على الأرض ببساطة من أحد طرفي المحرك. بالطبع تعطَّلت السيارة عدة مرات، فأولاً حدث انسداد في خط الوقود، واستخدمت بيرتا بكل خفة ومهارة مشبك شعرها لحل المشكلة، بعدها احتاج سلك الإشعال المكشوف إلى عازل، فاعتمدت على جوربها في علاج الأمر، وعندما كانوا يصلون إلى التلال كان ولداها ينزلان لدفع السيارة بمساعدة بعض المارة، في حين بقيت هي صامدة على عجلة القيادة، حتى عندما نفد الوقود بالكامل وتوقف محرك السيارة، هبطت بنفسها لدفع السيارة مع ابنيها لعدة كيلومترات. كانت جولة دعائية لها مكاسب متعددة وصلت بيرتا ونجلاها بعد كل ما حدث بأمان إلى مدينة بفورتسهايم بعد حلول الظلام، ومع أن وقت الرحلة ليس معلوماً إلا أنه قارب 15 ساعة، كونها خرجت قبل الإفطار، وأرسلت بعد وصولها برقية لزوجها تشرح له فيها كل ما قامت به، وبعد أيام عادت العائلة بنفس السيارة إلى مانهايم دون مشكلات تذكر. ربما لم يرصد أحد تعبيرات وجه السيدة بنز عندما أكملت رحلتها، لكن المؤكد أنها كانت تشعر بمزيج من الفخر، وعدم القدرة على تصديق ما حصل، ورغم فزع بعض المارة من الوحش الذي يخرج منه الدخان المار أمامهم، فقد طلب آخرون تجربته وركوبه. وحقَّقت هذه الرحلة مكاسب عديدة، أولها أنها استطاعت أن تُنهي الشكوك حول الاعتماد على السيارة كوسيلة لتنقل البشر، وثانيها إثبات أن المرأة ليست أقل قدرة من الرجل على التعامل مع أحد أهم الاختراعات الحديثة حينها كالرجل تماماً، وأن السيارة وسيلة مهمة للتنقل، واقتناؤها ليس رفاهية، بالإضافة إلى أن زوجها قد نجح في إخراج واحد من أهم الاختراعات في تاريخ النقل إلى النور. كما أثبتت التجربة متانة هذا الاختراع وقدرته على الصمود في الرحلات الطويلة، وقد ألهمت بيرتا زوجها إجراء بعض التعديلات لتلافي المشكلات التي عانتها أثناء الرحلة، مثل تزويد السيارة بترس منخفض يسهل صعود التلال دون الاضطرار لنزول الركاب لدفعها. لاحقاً سُمي الطريق الذي سلكته بيرتا في رحلتها التاريخية بطريق بيرتا بنز التذكاري، وقبل أن تتوفى في عام 1944م عن عمر 95 عاماً كرَّمها معهد كارلسروه للتكنولوجيا بالحصول على أستاذية شرفية، ورغم أنها لم تكمل دراستها بسبب القيود الاجتماعية فإنها استحقَّت هذه الأستاذية بجدارة، لدورها المؤثر في تاريخ الاختراعات الحديثة. عربي بوست