الرجل الذي لم يوقع.. وثائقي في اثني عشر جزءاً
مع رحيل الرئيس حافظ الأسد تعددت الرؤى، ولعلّ أهم العناوين التي صدرت بها الصحف يومها، حتى تلك التي لم تكن على وفاق مع سياسة الرئيس الراحل حافظ الأسد (الرجل الذي لم يوقع) واليوم وبعد ثمانية عشر عاماً على الرحيل يصدر الوثائقي المهم عن قناة الميادين، ويحمل العنوان نفسه، وهو عنوان مشوّق ويعبر عن لحظة الرحيل، لكن لا يعبر عن نهج سورية حتى يومنا هذا، ولا يعطي صورة كاملة عن سياسة سورية التي أسس لها الرئيس حافظ الأسد، ولا تعبر عن مسيرته السياسية التي كان السلام والأمان عنوانها، فبعد تأمين الداخل السوري سعى الرئيس الراحل لتحقيق سلام سورية، وأسهم في نجاح أفكار سليمة عن السلم، ومضى إلى نهاية الشوط في مباحثات السلام، وكان قاب قوسين أو أدنى من السلام، لكن مراوغات الجانب الصهيوني حالت دون ذلك، فكانت كلمات الرئيس حافظ الأسد بليغة ومعبرة: أترك للأجيال القادمة مهمة تحقيق السلام.. النهج لا الشخص حمل الرئيس الراحل حافظ الأسد على عاتقه تأسيس نهج لسورية، فأسس لرؤية سياسية مؤسساتية، ولم يؤسس لحكم فردي أو رؤية فردية، وقد أعطى العالم دروساً في احترام الإنسان السوري، وكان بإمكانه أن يحقق السلام كما حققه آخرون، ولكن إيمانه بالأجيال القادمة، وبالإنسان السوري لم يدفعه إلى التعجل في الحصول على سلام منقوص.. فقد ارتكزت سياسة الرئيس الراحل على تأسيس نهج سياسي متكامل، وسورية اليوم تحصد النتائج، فهذا الخط السياسي المؤمن بالوطن والحق والإنسان هو الذي جعل سورية بقيادة الرئيس بشار الأسد تقف متحدية حرباً كونية تشن عليها، ولولا هذا النهج المؤسسي المستند إلى الزمن والتمسك بالحقوق ما كان لسورية أن تكون بهذا الثبات. فعندما نقول عن الرئيس الراحل «مات ولم يوقع» يجب ألا تأخذنا حلاوة العبارة، فهو لم يوقع لأن العبارة المنقوصة لا تبني سلاماً، ولم يوقع لأن السلام كان منقوصاً، نعم سعى للسلام، اشترك في مباحثات السلام من مدريد إلى شبردزتاون، وكان مخلصاً في تحقيق السلام، ولكن العنوان لا يتسع للشرح، كان مخلصاً، لكنه لم يوقع لأن ما أراده الكيان الصهيوني كان دون السلام، ولا يعطي حقوق سورية حتى الخامس من حزيران، وحق الشعب العربي الفلسطيني في تأسيس دولته وعاصمتها القدس. فعدم التوقيع كان لأسباب جوهرية في الحقوق والمتطلبات، ولم يكن رفضاً للتوقيع، ولو كان السلام عادلاً لتمّ، لكن المراوغات التي نقلها لنا شهود مباحثات السلام هي التي دفعت الرئيس الراحل ألا يوقع ولا يفرّط، ويترك المهمة للأجيال القادمة.. وعلى المنصف والمحلل أن يلحظ أن النهج استمر، وتمسك فوق ذلك بالعلم والمعرفة والشباب، وها هي ثمانية عشر عاماً لم تستطع كل القوى العالمية والحرب أن تغير من نهج الرئيس بشار الأسد، ونهج سورية القائم على حب السلم وكره العدوان، وسيجنح للسلم عندما يكون السلام عادلاً، وعندما يحقق تطلعات الإنسان السوري. ولعلّ أهم ما في هذا العنوان المراوغ «الرجل الذي لم يوقع» أنه أثبت لنا خطاً سياسياً متكاملاً، وأن ترك الأمانة للأجيال القادمة حكمة وسياسة، وها هي القيادة السورية أكثر تشبثاً وتمسكاً بالحقوق، وقد عبر الرئيس بشار الأسد في أكثر الظروف قسوة على سورية عن هذا النهج، وبأن سورية لن تتنازل عن ذرة من ترابها، وفي حرب كونية تتجاوز قدرات الصهاينة الذين اشتركوا فيها، ثبت موقف الرئيس بشار الأسد لإيمانه بالحق وسورية والإنسان.. لم يتراجع، لم يساوم، ولم يوقع، وبثباته ها هي الهوية السورية تكتمل من جديد. أقول هذا الكلام لأن عدم التوقيع كان لعلّة وسبب، ولم يكن رفضاً للسلام، وعندما تكون شروط السلام عادلة، وتحقق المصالح العربية، وتعيد الحقوق فإن سورية لن تكون في جهة معارضة للسلام، وهذا العنوان صالح ما دام الشرط الموضوعي للسلام غير موجود. مسيرة سورية وسياستها تقوم سياسة سورية ونهجها على الثبات والصدق والوضوح، وحين اختار الرئيس الأسد السلام اختاره خطاً وسياسة، ولم يكن لغايات أخرى، وهذا ما شهد به بيل كلينتون في سيرته الذاتية، ولنقرأ بعض فقرات لنعرف أن عدم التوقيع لم يكن غاية «على الرغم من أنه كانت لدينا خلافاتنا، فقد كان دائماً صريحاً ومستقيماً معي، وكنت قد صدقته عندما قال: إن السلام هو خياره الإستراتيجي، وكانت الظروف وسوء الاتصال والحواجز النفسية قد منعت تحقيق السلام». «جاء السوريون إلى شبردزتاون بعقلية إيجابية ومرنة، متشوقين لعقد اتفاق، وعلى عكس ذلك فإن باراك، الذي كان قد ضغط بشدة لإجراء المحادثات، قد قرر بناء على معلومات تجمعت من استطلاع للآراء على ما يبدو، أن يبطئ سير العملية بضعة أيام لإقناع الجمهور الإسرائيلي بأنه مفاوض صارم العناد». «قال لي الأسد: أنا لا أستطيع الاتفاق على أقل من ذلك، فليس في سورية شخص أو طفل يوافق على إقامة سلام مع أي طرف يحتفظ ولو بشبر واحد من أرضنا، ففي أي مكان من العالم يعتبر أي شخص يتنازل عن أرضه خائناً». عندما يقولون: الرجل الذي لم يوقع، فهذا يعني أن الرئيس حافظ الأسد ترك القضية للأجيال القادمة، وأظهرت الأحداث أن من جاء حمل الأمانة بحق، ولم يتنازل عنها.. فسورية مسيرة من الثوابت التي لا تقبل المساومة على الحقوق مهما عصفت الأنواء، ومهما تكالب الخصوم، وعندما يكون السلام عادلاً، ولا تفريط بشبر من الأرض فإن سورية دولة سلام لا دولة عدوان. الوثائقي مات ولم يوقع سيرة وطن كان لا بد من الحديث عن سياسة سورية في السلام، وتفصيل أسباب عدم التوقيع، وهذا الوثائقي المهم الذي يتناول مرحلة طويلة من سورية يظهر سلامة الموقف السياسي، والموقف من التوقيع على معاهدة سلام وشروط هذا التوقيع، ويظهر بلا أدنى شك أن عدم التوقيع لم يكن رفضاً، وِإنما كان مبدأ ولا يزال مستمراً، حفاظاً على الحقوق الشرعية، ونظراً لأهمية هذا البرنامج الوثائقي التوثيقي الذي يظهر خطاً سياسياً أكثر مما هو يقوم على تمجيد شخص فاعل ومرحلة فإن «الوطن» تابعت وتواصلت مع العاملين في هذا الوثائقي، فتوجهت إلى الأستاذ زاهر العريضي من الإعداد والمخرجة هالة بوصعب لمناقشة محاور فكرية وتقنية حول هذا العمل الوثائقي المهم. وقد فصّل الأستاذ العريضي في العنوان ودلالته فقال: العمل هو عبارة عن سلسلة توثيقية يتكون من راوٍ أساسي للأحداث والمراحل الأساسية وهي الدكتورة بثينة شعبان إضافة إلى الشهود والمواد الأرشيفية، واختيار العنوان انطلاقاً من الخط الأساسي للسلسلة التي تتناول مراحل الصراع العربي الإسرائيلي ودور الرئيس الراحل حافظ الأسد في جوهرية الصراع وأهمية سورية في فحوى النضال، فارتباط الاسم جاء في هذا السياق كعنوان أساسي للرجل الذي لم يوقع السلام مع إسرائيل رغم أن السادات وقع وملك الأردن فعل وهذا ما شهدناه أيضاً في أوسلو. أما عن التوقيت في الإنتاج والبث فقد شرح ذلك بقوله: توجه قناة الميادين إدارة وتخطيطاً ومشروعاً وتعمل في اتجاه إعادة الإضاءة على الشخصيات الأساسية التي كان لها دور في صناعة الأحداث ورسم التاريخ وأهمية وفعالية هؤلاء الأشخاص، ودورهم في محطات مفصلية، وفي سياق هذا التوجه ُتنفذ هذه الأعمال ونخطط لتنفيذ المزيد. وأهمية الراحل حافظ الأسد وتاريخ سورية في المنطقة محوري إذ لا يمكن أن نفهم الواقع الراهن والمستقبل وسياق الأحداث، وما يحدث من دون فهمنا لهذا التاريخ، أما موضوع التوقيت وبثه فهذا يعود إلى تقدير إدارة الميادين في تحديد التوقيت والبث. وعن عدد الحلقات ومدة البث قال العريضي: مدة البث في الفترة الطويلة لثلاثة أشهر وهو وقت طويل، وهذا صحيح لأنه سلسلة توثيقية وحوارية تحتوي على أحداث كثيرة ومحطات مفصلية، نحن نتناول أربعين عاماً وأكثر حيث يبدأ العمل في جزئه الأول كتمهيد من النكبة 1948 وما تلاها من العدوان الثلاثي على مصر إلى النكسة عام 1967 و«الوحدة والانفصال لمصر وسورية حتى الحركة التصحيحية ووصول الرئيس الأسد لسدة الحكم والتخطيط لحرب تشرين»، دوّنا كل هذه المحطات حتى مؤتمر مدريد ومحادثات السلام ورحيل الرئيس الأسد عام 2000. وبناء على كل هذه الأحداث وفي مراحل تاريخية مهمة جداً وحافلة، كان لا بد لنا أن نوثقها بشكل كامل تحت عنوان الصراع العربي الإسرائيلي في سلسة توثيقية من اثني عشر جزءاً. وفي ردّه عن المدة الزمنية التي يغطيها والمشاركين قال: كما تعلمون إن هذا النوع من الأعمال يتطلب البحث وإمكانية التواصل مع شخصيات كان لها دور وكانت شاهدة أو لها مسؤوليات خلال هذه الأحداث. وهذه هي المعايير الذي تم اعتمادها، لاختيار الشهود. من الشخصيات التي استطعنا أن نقابلها لتكون في هذه السلسلة: ريتشارد مورفي السفير الأميركي السابق في دمشق، إضافة إلى وليم كوانت الذي أصدر عدة كتب حول سورية والصراع العربي الإسرائيلي، السفير السابق للاتحاد السوفييتي في دمشق المؤرخ إيلان بابيه، السفير الإيراني السابق في دمشق حسين شيخ الإسلام، الدبلوماسي المصري عبدالله الأشعل، وزير خارجية لبنان السابق فارس بويز، والأستاذ كريم بقرادوني وآخرين من الشخصيات. وبيّن أن الوثائقي سيكشف أموراً جديدة: نعم بالتأكيد، توجد كواليس ومحاضر جلسات، وكيفية إدارة المفاوضات وبعض المعلومات التي تروى للمرة الأولى وبالتأكيد سنترك ذلك للمشاهد لحين بث الأجزاء لإطلاع المشاهد العربي عليها. ونظراً لأهمية الرؤية الإخراجية فقد تواصلنا مع المخرجة هالة بوصعب التي قالت: اعتمدنا الكلاسيكية» والبساطة في هذا الوثائقي نظراً لكمية المعلومات وأهمية الأحداث والمعلومات والشخصيات الموجودة، كان التركيز على المشاهد الأرشيفية من صوتيات الرئيس حافظ الأسد إلى دبلوماسيين وشخصيات كانت قد عاصرت تلك المراحل المهمة. تم الإعداد لموسيقا خاصة للوثائقي مع الملحن السوري سمير كويفاتي. بدأنا التحضير للوثائقي منذ نحو سنتين، تم التصوير في عدد من البلدان منها سورية، مصر لبنان، روسيا، إيران، فلسطين المحتلة، الولايات المتحدة الأميركية هذا العمل تطلب أرشيفاً كبيراً، وخصوصاً أن المرحلة طويلة فيها الكثير من الأحداث. لذلك كان التحدي في تأمين هذا الكم من الأرشيف المصور أو الصور أو المستندات والوثائق. فكان الجهد منصباً للحصول على مصادر متنوعة، وأيضاً استعنّا بأرشيف الصحف المقروءة وعناوينها. هذا العمل يوثق تاريخ حقبة كبيرة وأساسية من تاريخنا العربي، أتمنى على الشباب العربي الذي لم يعاصر تلك الحقبة أن يتعرف عبر هذا الوثائقي إلى تاريخ الأمة العربية وتبعاتها التي نعيشها اليوم. خاتمة «الرجل الذي لم يوقع»، وثائقي غاية في القيمة والأهمية، لأنه يوثق لتاريخ سورية الوطن، من خلال شخص الرئيس الراحل حافظ الأسد، ويأتي إنتاجه وعرضه في هذه الظروف التي تتعرض فيها سورية لحرب كونية كبرى، ليجلو حقيقة ما يجري، وما تدفعه سورية بسبب مواقفها المبدئية، وتمسكها بالسلام، السلام العادل الذي يعيد الحقوق، ويحافظ على السيادة السورية. وثائقي سعى للوصول إلى جوهر النهج السياسي لسورية، وهذا النهج الذي أغناه ورسخه الرئيس بشار الأسد.. فكانت سورية بفرادتها وصلابة موقفها.. يحتاج هذا الوثائقي إلى متابعة وتوثيق، وتحية لكل من عمل على إنجازه لأنه يظهر بجلاء أن سورية الموقف اليوم هي سورية النهج والسياسة والمبدأ الذي سيبقى مثالاً لكل مقاوم يعتد بمقاومته وحقوقه، ولا يفرط بذرة من تراب. وعهداً لمن عبّد طريق الخط السياسي أن نبقى محافظين على حقوقنا، راغبين في السلام الذي يحقق العزة والكرامة. الوطن