كيف تخيلت الحضارات القديمة الحياة بعد الموت؟
حاول الإنسان تخيل مصيره المجهول بعد الموت، واكتشاف ما يحدث له، بعد أن يرحل عن الحياة، لكن مع عدم تأكده من معرفة حقيقة الموت، إلا أنه آمن بالخلود وطور مُعتقداته لتساعده أن يكمل المسير إلى الناحية الأخرى من الحياة بسلام.
تباينت الثقافات حول العالم في نظرتها للموت والبعث، بعضها يؤمن بالثواب والعقاب في الآخرة، وبعضها الآخر يعتقد أنها حياة مشابهة لما عشناه سابقاً دون جزاء، لكن اتفق آخرون أن الحياة الطيبة تهدي للإنسان حياة مريحة في العالم الآخر، وإن لم تؤمن بالعذاب الحقيقي.
كذلك كَرمت الحضارات جميعها جسد الإنسان وقدست مراسم وفاته؛ تكريماً للحياة الحافلة التي عاشها، وإيذاناً بمرحلة أخرى غامضة.
نتعرف معاً في هذا التقرير كيف نظرت بعض الحضارات السابقة إلى الحياة بعد الموت.
الحضارة الصينية
آمنت الحضارة الصينية بالحياة بعد الموت، وتُعد الحضارة الصينية واحدة من أقدم الحضارات التي مارست الشعائر الدينية، ومنها الدفن، إذ تعود ممارسته إلى عام 5000 قبل الميلاد.
ومع ذلك، لم تؤمن بالعدل والمساوة فيها؛ فينتقل الملوك إلى الجنة الحقيقية، على عكس عامة الناس، الذين ستعود أرواحهم في أجساد أخرى للحياة، أو يبقون في جنة أقل منزلة من منزلة الملوك، كذلك ينتحر العبيد والخدم؛ للدفن مع أصحابهم المتوفين من الأسر الغنية.
يستند مفهوم الحضارة الصينية عن الآخرة على مزيج من الديانات الشعبية الصينية، مثل الطاوية والبوذية، وتقول الفلسفة الصينية القديمة عن الحياة بعد الموت: "إنها حقاً تعني التغيير؛ وهي هجرة تلك الروح من مكان إلى آخر".
في لحظة الموت، ُيعتقد أن الروح تؤخذ عبر رسول إلى إله الجدران والخنادق، تشنغ هوانغ، الذي يدير جلسة استماع أولية، وإن كانت الروح فاضلة؛ تذهب مباشرة إلى واحدة من الجنات في البوذية، أو إلى مسكن الخالدين في الطاوية، أو إلى المحكمة العاشرة من الجحيم.
بعد 49 يوماً، ينزل الخُطاة إلى الجحيم، الواقعة عند قاعدة جبل ميرو، ويخضعون لفترة محددة من العقاب في مستوى واحد أو أكثر من الجحيم، قد تُخفض مدة العقوبة برحمة من الإله تي تسانغ.
عندما تتم مدة العقوبة كاملة، تشرب النفوس إكسير النسيان؛ استعداداً للتقمص المقبل، ثم تتسلق الجبل، الذي يأخذهم إلى التناسخ، أو إلى حساب بديل، ويُقذفون من فوق جسر الألم في نهر؛ حتى يصلوا إلى الحياة الجديدة.
حضارة الأزتك
ترى حضارة الأزتك الحياة بعد الموت بشكل مختلف عن الحضارات القديمة، إذ تعتمد حياة الفرد بعد الموت والمكان الذي سيكون فيه على طريقة وفاته؛ فالمحاربون الذين قُتلوا في المعارك، أو من ماتوا في التضحيات الدينية، يلقون المصير الأفضل، فتذهب أرواحهم إلى جنة الشرق، ليشرقوا مع الشمس كل صباح، أو ينضموا لإله الحرب يتزيلوبوتشتلي.
كذلك وصفت النساء، اللواتي لقين حتفهن خلال الولادة، بالشجاعة وأنهن شريفات، مثل المحاربين الذين لقوا حتفهم في المعركة، وتنتقل أرواحهن مباشرة إلى الغرب؛ لينضممن إلى غروب الشمس في المساء.
أما الأشخاص الذين لقوا حتفهم بسبب البرق أو الغرق أو أمراض معينة، أو ماتوا بطريقة عنيفة، مثل القتل أو حادثة ما؛ فهم يذهبون إلى جنة "تلالوكان" في الجنوب، التي يرأسها الإله تلالوك، وتقع ضمن الجنان الـ13 في ثقافة الأزتك.
في المقابل، الأشخاص الذين ماتوا بسبب عدة أمراض معاً أو جراء الشيخوخة؛ فهم ينتقلون إلى ميكتلان في الشمال، وهو العالم السفلي في الأزتك، تعاني خلالها الأرواح من الطبيعة القاسية، وتجتاز عدة مراحل لتصل إلى المستوى التاسع، الذي يكون أكثر راحة من المراحل السابقة.
يوضح تصنيف حضارة الأزتك للمتوفين نظرتهم نحو الحياة، إذ يوجد هناك قدر أكبر من الاحترام للأشخاص الذين لقوا حتفهم مبكراً وعانوا في الحياة ليصبحوا من الشرفاء، عوضاً عن الذين تجنبوا هذه النهايات الأليمة، وماتوا بسلام في سن الشيخوخة.
الهنود الحمر
تختلف معتقدات سكان أميركا الأصليين، الهنود الحمر، عن الحياة الآخرة اختلافاً كبيراً من قبيلة إلى أخرى؛ نظراً لعددهم الكبير الذي قُدر بـ600 قبيلة عندما وصل إليهم الأوروبيون.
يعتقد الهنود الحمر في مناطق السهول أن الحياة بعد الموت ما هي إلا استمرار للحياة الأولى؛ إذ ينضم المُتوفى إلى عائلته في العالم الأخر، وتمضي حياتهم هناك بالصيد، الذي تشتهر به السهول، حيث الصيد السعيد للجاموس، إحدى سمات الحياة الأخرى.
أما هنود منطقة الشايان، فيعتقدون أن أرواح الموتى تسافر إلى درب التبانة في طريق يسمى "طريق الراحلين"، ثم يصلون إلى معسكر في النجوم، ويلتقون هناك أصدقاءهم وأقاربهم.
كذلك اعتقد هنود منطقة أوماها أنه لا توجد مكافآت كبيرة أو عقوبات بعد الموت، بل امتداد للحياة العادية لا أكثر، لكن هنود ناراغانزيت نظروا إلى الموت على أنه انتقال بين عالمين، وفي وقت الوفاة، تترك الروح الجسد؛ لتنضم إلى نفوس الأقارب والأصدقاء في كوتانتويت.
كوتانتويت هي مدينة تعيش فيها أرواح الأسلاف والأجداد حياة مماثلة على الأرض، تمر الروح أولاً عبر بوابة يحرسها كلب شرس، تصل نفوس الموتى إلى الجنة دون قلق أو ألم، وتمتلئ المدينة بمخازن من الذرة والفاصولياء والفراولة دائماً حتى مع اختلاف المواسم.
الحضارة الفرعونية
آمن الفراعنة بالحياة بعد الموت، لذلك حنطوا أجسادهم، وجهزوا مؤناً كافية، من أغذية وأوان فخارية؛ لتساعدهم خلال الرحلة. كانت تتم مراسم الدفن بقدسية بالغة واهتمام شديد، إذ كان للموتى إله وحارس خاص يسمى أنوبيس، ذو جسد بشري ورأس لابن آوى.
تتضمن الرحلة إلى العالم السفلي عدة مراحل، مثل المرور من عدة بوابات وحراس مخيفين؛ حتى يصلوا إلى مرحلة الحكم النهائي، وتتضمن 42 قاضياً في المحكمة الإلهية، ورئيس المحكمة الإله، أوزوريس؛ لمحاسبتهم على ما فعلوه في الدنيا، وبمساعدة كتاب الموتى، الذي يُدفن معه، يأمل الميت أن يعرف الكلمات الصحيحة التي يجب أن يستخدمها مع كل قاضٍ؛ ليضمن المرور بسلام وإن لم يكن بريئاً تماماً.
المرحلة الأخيرة هي "وزن القلب"، الذي يحتوي على جميع أعمال المُتوفى في الحياة، ويوزن مقابل ريشة الإله "معت"، والريشة رمز للحقيقة والعدالة وتساعد في تحديد ما إذا كان الشخص المُتوفى فاضللاً بالفعل أم لا؛ فإذا تبين أن القلب أثقل من الريشة، كان يُلقى به في الظلام.
أما القلوب الأخف وزناً من الريشة؛ يرحب بهم الإله أوزوريس في الآخرة، للحياة في الحقول والسماء الزرقاء والأنهار، بجانب وجود قوارب للسفر مع الآلهة للعبادة، كذلك وجود الحقول والمحاصيل، التي تحتاج إلى عناية، في انعكاس حقيقي للحياة السابقة.
الحضارة السومرية
يعد السومريون الموت مرحلة انتقالية، يتحول فيها الإنسان من حالة وجود إلى حالة أخرى، لكن لا تنتقل الروح مباشرة إلى العالم الآخر، بل تمر برحلة شاقة من أجل الوصول إليه، أحد شروط الوصول بسلام هو أن يتم الدفن بطريقة لائقة، وتنفيذ الطقوس الجنائزية اللازمة.
يُطلب من الروح العبور من خلال الأماكن التي يسكنها الشيطان، وتمر فوق نهر "خوبر"، وتعترف أمام البوابات السبعة للمدينة، بإذن من حارس البوابة.
عندما تصل الروح إلى مدينة الموتى تتحدد حياتها هناك، طبقاً للوضع الاجتماعي للمُتوفى عندما كان على قيد الحياة، والرعاية التي تلقاها جسده بعد موته، والتمثال المتواجد على القبر.
ذكرت بعض النصوص في بلاد ما بين النهرين، مثل ملحمة جلجامش و"إنكيدو"، أن عدد الأطفال والنسل يؤثر أيضاً في وضع المُتوفى بالآخرة؛ إذ يجب ضمان وجود عدد كبير من العائلة، لضمان أداء طقوس جنائزية لائقة.
شعب الإنكا
قسم شعب الإنكا الكون إلى ثلاثة عوالم، أو "باتشا"، وهي "حنان باتشا" و"كاي باتشا" و"أوكو باتشا".
"حنان باتشا" هو مكان آلهة الإنكا، إذ اعتقدوا أن الأشخاص الطيبين يصعدون بنهاية المطاف إليها في الآخرة. ومكان "حنان باتشا" قمم الجبال، التي اعتقدوا أنها مقدسة، لذلك، في بعض الأحيان، استخدموها موقعاً في طقوس التضحيات للآلهة، وأحياناً استخدموا البشر كأضحيات.
"كاي باتشا" العالم الأوسط، وهو المجال المادي للكائنات الحية وعالم الولادة والموت والتفسخ، أي ما يعادل عالمنا المأهول.
"أوكو باتشا"، أو "تحت العالم"، يعادل العالم السفلي، يذهب إليه الناس الذين لم يكونوا جيدين بما فيه الكفاية للذهاب إلى "حنان باتشا"، وهو مرتبط مع الأم الأرض الأنثوية وعظام الأجداد، وصفها الكاتب غارثيلاسو دي لا فيغا "بأنها أرض الألم والمعاناة وأن الأشرار يرسلون إليها في الآخرة ليعيشوا هناك"، كذلك وصفت بـ"بيت الشيطان".
هافينغتون بوست