ملتقى الشعر يرد بعضاً من جميل محمد الماغــــــوط
لأن هذه الأيام تصادف ذكرى رحيله، كان من المناسب لملتقى الشعر الذي يشرف عليه الشاعر صقر عليشي في ندوته الأخيرة التي أقامها في مركز ثقافي “أبو رمانة”، أن يردّ لهذا الشاعر بعضاً من الجميل مما له من مكانة وتأثير على الشعراء وعلى الساحة الثقافية، باعتباره كما يبّين عليشي شاعراً استثنائياً في تاريخ الشعر العربي، شاعر معاصر وحديث رسَّخ قصيدة النثر بعد أن كان هناك خلاف عليها من حيث انتمائها للشعر بعد أن كتب ديوانه الأول، حيث أكد للجميع أن نثره شعر بما اعتمده فيه من خيال وإدهاش في الصورة والروح والتمرد والسخرية والتهكم، وقد اكتفى عليشي في الندوة بقراءة قصيدة كتبها عام 2006 تحت عنوان “كيس من التبغ المهرب” حاكى فيها طريقة الماغوط في الكتابة، يقول فيها:
لن أرثيك بقصيدة عمودية.. ولن أدع نحاس القوافي.. يقلق راحتك العميقة.. خلِ عظامك مكانها.. أرجوك عليك الأمان.
الوفاء
ويؤكد الإعلامي جمال الجيش مدير الندوة التي شارك فيها الأديب خليل صويلح، د.جمال أبو سمرا والكاتب سامر منصور، أن الماغوط قامة وطنية وإنسانية وشعرية كبيرة، شغل الناس أكثر مما كان مشغولاً بنفسه ونصه، وقد كان بسيطاً وعميقاً في الوقت ذاته، ولم يكن حالة متكررة، وهنا برأيه مكمن الأهمية الخاصة التي كان يحتلها هذا الشاعر في حياتنا، وأشار إلى أن الماغوط وإن كان حداثياً، كما أجمع النقاد، وترك أثراً كبيراً على الحداثة إلّا أنه لم يكن مهتماً بأن يكون كذلك، فالمهم بالنسبة له أن يقول بعضاً من روحه وإحساسه بالوجود الذي يتمناه أن يكون صادقاً وصافياً.. من هنا يعتبر الجيش أن مثل هذه الندوة هي بمثابة وفاء لهذا الشاعر الذي شغلنا، وسيشغلنا فترة أطول، خاصة ونحن نعيش واقعاً صادماً.
اغتصاب كان وأخواتها
ويتحدث صاحب كتاب “اغتصاب كان وأخواتها” الأديب خليل صويلح، وهو الذي تربطه علاقة شخصية عميقة بالماغوط ترجمها عبر كتابه المذكور، أنه تعرّف على الماغوط في الحسكة قبل أن يراه، وهو في المرحلة الثانوية عندما اشترى كتابه “غرفة بملايين الجدران”، وحين قدِم إلى دمشق سكن في الشارع نفسه الذي كان يقطن فيه الماغوط، فكان يراه من بعيد دون أن يسلّم عليه كشاعر كبير يخشى الاقتراب منه، ولكن حينما عمل في الصحافة فكَّر بإجراء حوار معه، فقصد بيته مع زميل له، ولعلمه برفض الماغوط إجراء الحوارات أخفى آلة التسجيل تحت الطاولة، وسرعان ما اكتشفها الماغوط، ففشلت أولى هذه المحاولات التي تكررت مرات ومرات، ولكن دون جدوى، إلى أن عمل صويلح في إحدى المجلات التي كانت تصدر في لندن، وكان يكتب فيها الماغوط زاوية تحت عنوان “تحت القسم”، وقد أصبح صويلح يساعد الماغوط على إيصالها للمجلة، فكثرت مرافقته له، وحينها قرر أن يجري حواراً مطولاً معه، وهنا قرر الماغوط أن يمنحه أرشيفه من الحوارات التي أجريت معه في فترة الستينيات والسبعينيات للاستفادة منها، فأعاد صياغتها، وأضاف إليها ما أضاف لتخرج في النهاية على صيغة كتاب حمل عنوان “اغتصاب كان وأخواتها” ولاحقاً قام صويلح بتوزيع نصوصه على 23 فناناً تشكيلياً لإقامة معرض له تحت عنوان “حطاب الأشجار العالية” لينشر فيما بعد وضمن احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية كتاباً آخر عنه بعنوان “سنونو الضجر”.
وينوّه صويلح إلى أن الماغوط الذي أنجز ثلاث مجموعات شعرية، كان آخرها “الفرح ليست مهنتي” وعام 1970 توقف عن كتابة الشعر بعد عودته من بيروت، وكأنها هي التي كانت تصنع شعره، ليلتفت إلى كتابة المسرحيات والمقالات الصحفية، وباعتقاد صويلح أنه توقف عن كتابة الشعر لأنه كان شاعر التشرد والأرصفة، إلّا أنه مع استقراره في دمشق وعمله مع الفنان دريد لحام لم يعد ذلك المتشرد، فتوقف عن كتابة ما لا يشعر به ويعيشه، وأوضح أن الماغوط الساخر والمتهكم، كان في حياته العادية شخصاً سوداوياً يعيش في عزلة، وكان في آخر أيام حياته يستمع لعازف الربابة محمد صادق أشهر عازفي الربابة في البادية السورية، وكأنه أراد أن يعود لطفولته وبداوته الأولى، فاستحق لقب “البدوي الأحمر”.
شعرية المفارقة
ولأن الشعر بوصفه غير قادر على عكس صورة الواقع، وقول ما يريد قوله بصورة مباشرة، فإنّ المفارقة تصبح وسيلة الشاعر الأجدى للتعبير عن الحقائق التي “لا يمكن تصوّرها إلّا عن طريق المفارقة التي تحدّث عنها د.جمال أبو سمرا ” في شعر الماغوط، فأشار إلى أن شعر الماغوط حفل بالدراميّة بمستويات متعدّدة، وكان الصراع أحد أهم موجباتها، لتكون المفارقة إحدى الوسائل الفنيّة والأسلوبيّة لتظهير هذا الصراع، وشحن الخطاب الشعري بعنصر التوتّر الذي يغذّي بنية القصيدة بالحركة والنماء، وقد أغنى الماغوط شعره بالمفارقة بصور متنوّعة برزت فنيّاً من خلال مشربين رئيسين برأي أبو سمرا هما المفارقة اللفظيّة ومفارقة الموقف، وقد تفرّع عن كلّ منهما عدد من الأنواع والأنماط التي أغنت القصيدة الشعريّة على المستوى الجمالي والفنّي، وتداخلت في نسيجها في مشهد يحتفي بالتضاد والمقابلة، ويعكس غنى الشاعر الفكري وطبيعة تفكيره الجدلي، ونوّه أبو سمرا إلى أن المفارقة كانت الوسيلة التي استطاع الماغوط من خلالها أن يكشف عن أبسط المواقف في سبيل تسجيل اللحظة الجمالية المترفة بالإيحاء، فأكسب قصيدته تعدّدية القراءات والتأويلات، ما جعل منها نصّاً مفتوحاً قابلاً للتأويل مكتنزاً بالدهشة من خلال قدرته على إثارة المتلقّي عبر كسر أفق التوقّع لديه، وإثارة انتباهه نحو جوانب بقصد تسليط الضوء عليها.
عين صقر وجناح يمامة
لم يدرك أن ما كتبه من مذكَّرات في السجن كان شعراً إلّا بعد أن أطلع عليه بعض المثقفين، وبهذه البساطة والتلقائية، يبيّن الكاتب سامر منصور في مداخلته أن قصائده تُعد إبداعاً تشكيلياً يجمع فيها مفردات لا يمكن لأحد أن يتخيّل أنه يمكن جمعها، وأشار إلى عدم وجود فاصل بين موضوعه المطروح وذاته، فيؤنسنه من خلال ذاته، وهو يرصد العالم كعين صقر وأحياناً كجناح يمامة، معتمداً في ذلك على الواقعية بأسلوب السهل الممتنع، وأكد أنه كان لدى الماغوط من الاجتهاد والألم والوعي ما يكفي، حتى ارتقى ليكون هذا الشاعر الرائع، وأفضل كاتب مونولوج برأيه بحيث أنه كان لا يكتب إلّا عندما كان يتشعب بإنسانيته، ويتمثل الإنسان المطلق، فينطلق بلسانه يسطر مونولوجات فيها من العفوية والتلقائية ما يجعله لا يشعر بأنه بحاجة لما يسمى الديالوغ “الحواريات” الذي يحتاج لحالة ذهنية وافتراض حالات، قد تكون متناقضة بينها، ويعتقد منصور أن الماغوط كان يعيش في كل الحالات التي كتب بها قصائده بمشاعر فياضة ومتناقضات الذات الإنسانية، فاشتغل دوماً في كتاباته على الفكرة، فكان من حيث المبنى خلّاقاً ومن حيث المعنى يتناول مفاهيم حديثة كالمواطنة والعدالة الاجتماعية والحرية، وهو يشكل كذات شاعرة ذاتاً تخاطب الآخر بوصفها العارفة، فتملي عليه الحكم، وتقدّم على طبق القصيدة ثمار رحلته في الحياة بآلامها وانكساراتها، بلغة يستحضرها متى ما شاء لتكون غاية بذاتها وكائناً عضوياً مضافاً كي يبوح ويصرخ.
البعث