بداية القابضة

رئيس التحرير : عبد الفتاح العوض

رئيس مجلس الإدارة : د. صباح هاشم

من نحن اتصل بنا
أجنحة الشام

ميكيافيللي نحو قراءة جديدة

الثلاثاء 10-01-2017 - نشر 8 سنة - 1208 قراءة

إن أطروحة “استبداد” الأمير، التي تؤسس  للصورة  التي اشتهر بهاميكيافيلي، أي صورة المفكر المشدود الى دولة الأمير ، والمنادي بتقويةنفوذه السياسي ، بكل الوسائل ، دون اعتبار لحرية الشعب ، هي مغايرة لصورةأخرى نجدها في متنه الآخر ” أحاديث على المقالات العشر الأولى في تاريختيتو ليفيو ” ، الذي إن كان أقل شهرة من متن ” الأمير ” فهو لا يقل عنه

أهمية من الناحية المعرفية ، ولا هو أقل تعبيرا عن خصوصية التفكيرالميكيافيللي . وفي متن ” أحاديث ” لا نلقى ذلك التنظير لاستبداد الأميربل ثمة نزوع تحرري ، وتوكيد على الحقوق السياسية للشعب ، على نحو مخالفللروح الاستبدادية في كتاب ” الأمير ” .

فكيف نفسر هذا التضاد بين النظرية السياسية الميكيافيلية البادية في متنالأمير ” و نظريته التي بسطها في متن ال ” أحاديث على المقالات العشر ”  ؟

أن ميكيافيللي لم يكن يبحث عن ديكتاتور انما كان يبحث عن الوحدة: هذهالوحدة التي تجمع الأقطاب الأربعة المتناحرة   ( روما – البندقيةميلانو – فلورانسا ) ولهذا فالمطلب الأهم لميكيافيلي هو أن تحمل الدولة عنصر تقدمها في ثنايااستقرارها، وأن تتجدد باستمرار، من خلال آليات داخلية، وإلا فإن الدولةستنهار ، بمعنى أنه إذا كان السلوك الميكيافيللي في علاقة الحاكمبالمحكوم مشروعاً لبناء الدولة فإنه لن يكون مشروعاً إذا كان قد آل الىمرحلة متقدمة من بناء الدولة ، أو كان هدفه تأبيد المظاهر الأولى لهذهالدولة، أي أن الانبعاث أو الخلق الأولي للدولة لا يجب أن يكون هو الغايةإذ أن ثالوث الدولة المعاصرة هو: (1)

1- الدولة -الإكراه. 2- الدولة – القانون. 3- الدولة – المؤسسات.

وعليه فإذا كانت لعبة السياسة تقتضي لبناء الدولة في شكلها الأولي اقامةدولة الإكراه، ومن أجل هذه الدولة برر ميكيافيللي رعوية علاقة الحاكمبالمحكوم، فإن دولة الإكراه ليست إلا عتبة على السلم، ومع التطور منهاالى دولة القانون فدولة المؤسسات.

نظر ميكيافيلي للطبيعة البشرية كما هي بالفعل، وكما تتجلى في التاريخالفعلي للمجتمعات، وليس كما ينبغي أن تكون، كما فعل فلاسفة السياسة منذأرسطو.

فقام بإتباع منهج جديد مختلف عن مناهج من سبقوه ، فعلى الرغم من دراستهللمنطق والفلسفة ، إلا أنه أهمل مبادئها إهمالا تاماً وركز على التاريخ،فقد كانت خلاصة فكرته الرئيسة: أن أفعال البشر تؤدي إلى نفس النتائجدوماً ، فحاول الربط بين الأسباب والنتائج والدراسات التحليلية المستمدةمن التاريخ ، وعلى ذلك كان أسلوب ميكافيلي في البحث هو :

الاستعانة بالتاريخ لاستقصاء الأحداث ، ومعرفة نتائجها ، وارتباطها ،وإمكانية تكرارها ، أي محاولة التنبؤ بالمستقبل .

محاولة وضع تعميمات في حالة تكرار الأحداث للوصول إلى قواعد عامة ، توضعأمام الحكام لتسهيل مهمتهم وتساعدهم على تبني مواقفهم .

البحث عن إمكانية التدخل في الأحداث مسبقاً بعد معرفة أسبابها ، ومحاولةتحديد السلوك الواجب إتباعه لمواجهة الأحداث .

ومن هنا نرى بأن أسلوب ميكيافلي يبين مدى شغفه بالتاريخ ، وكثرة استخدامهللأحداث التاريخية للتدليل على صحة أفكاره -كما في كتاب فن الحرب وغيرهمن الكتب – وبذلك يعتبر ميكافيلي أحد مؤسسي طريقة التحليل التاريخيالحديث .

هناك العديد من الأسباب التي أثرت على فكر ميكيافلي ،من أهمها :

ضعف حال الدولة آنذاك ، وكثرة المشاكل السياسية في تلك الفترة ، ولهذاكان يرى بأنه لابد من نظام حكم قوي يحكم الدولة ، إما نظام ملكي صارم ،أو نظام جمهوري .. وكان مؤيدا بشكل كبير للنظام الجمهوري .

الخدع والمؤامرات التي واجهها ميكيافلي في أروقة ودهاليز السياسة عندماكان ذا شأن في حكومة فلورنسا.

تأثره الشديد وولعه بالتاريخ ، واعتبار أن جميع الأحداث لا تخرج عن دورةمنطقية متكررة .

لقد ألف ميكيافلي – كما هو معلوم – مجموعة مؤلفات نذكر من بينها :-

(مطارحات تيت ليف) (فن الحرب) (الأمير)(تواريخ فلورنسا) (جذور تفاحالجن). إلى جانب العديد من القصائد، الرسائل، المسرحيات.

بيد أن الغريب في الأمر هو أن مؤلفا واحدا هو الذي فاز بحصة الأسد وهوكتاب (الأمير) ، حتى بات أشهر مؤلف له والذي عرف الانتشار قبل أن تظهرطبعته الأولى ، بل أصبحت إذا ذكرت ميكيافلي ذكرت الأمير لدى العامة ، أيأن أغلب الذين يعرفون نيكولا ميكيافلي لا يعرفون عنه سوى (الأمير) ،وكأنه وحده ما صدر للمؤلف ، وبالمقابل يطرح مشكل بالغ الأهمية هاهنا ،وهو هل يجوز لمن اطلع على كتاب الأمير على الحصر أن يصنف ميكيافلي ؟؟ أمأن تصنيف هذا الكاتب ( الفيلسوف، السياسي، الأدبي، المؤرخ، الشاعر،

المسرحي.) يقتضي بالضرورة الاطلاع على مجموع متنه أو على الأقل المؤلفاتالرئيسية المحددة لتوجهه ؟

وعليه بقيت صورة ميكيافلي ترسم حسب مدى فهم المصنف لفكره ورهانه،وبالتالي تنوع الصورة التي رسمت لماكيافيلي .

ويجد الباحث في تاريخ الفكر السياسي إجمالا، وفي فكر “مكيافيللي” منه علىوجه الخصوص، نفسه قبالة سيل من الدراسات والأبحاث، يبقى القاسم المشتركبين أغلبها – خاصة في بدايات ظهورها- النظر إلى هذه الفكرة نظرة زرايةواحتقار يصحبهما كراهية واستصغار لشأن صاحبها؛ اللهم بعض الدراساتالمعاصرة لغرامشي ومونان… وآخرها إصدار مجلة “Le Nouvel Observateur” عددا (العدد:66) خاصا ب: “مكيافيللي”  2007، وغيرها من الدراسات التيحاولت إنصاف الرجل. الذي لم يعمل في حقيقة الأمر سوى على تعرية الواقع

السياسي وكشف حقائقه؛ لكن هذه الحقائق كانت صادمة لمن اطلع عليها في بادئالأمر خاصة رجال الدين، الذين رأوا في أنظاره هرطقة وخروجا عن الصواب،لذلك لم يألو جهدا في سبيل وأدها والحد من انتشارها، بل وإصدار مرسوم  بإحراق كتبه، مع التنكيل بصاحبها ووسمه بأشنع وسم يكون. (2)

فهذا “موريس جولي” (1829-1878) وهو رجل دين مثلا، كتب كتابا يصور فيهمكيافيللي” و”مونتسكيو” في حوار بجهنم.

لا إمكان لفهم النص المكيافيللي إلا ضمن السياق التاريخي الذي ورد فيه،أي ربطه بما شهدته إيطاليا إبانها من ضعف وانحلال جعلها محط أطماع غيرهامن الدول. لكنها ظلت مع ذلك أقرب إلى ما روج له هؤلاء من أن “مكيافيلليعزل الأخلاق عن السياسة عزلا تام.

صحيح أن “مكيافيللي” صادم في كتاباته، وأن معظم أفكاره جاءت مخالفةللمتقدمين عليه، وهذا أمر جدير بالذكر، لكن القول بأنه أقام مسافة وبوناشاسعا بين السياسة والأخلاق، وأنه قطع كليا مع الأخلاق، قول فيه شيء منالمبالغة والمجازفة إن لم نقل قول مغلوط. ما قام به “مكيافيللي” على وجهالتحقيق، أنه أتى بتصور جديد عن إشكال العلاقة بين الأخلاق والسياسة.

لقد اختلفت التصورات حول قراءة ميكيافلي لا سيما الأمير، فقد تنوعتالصورة التي رسمت لميكيافلي حسب فهم كل قارئ له – عبر التاريخ – وأمسىبذلك موضوع سجال كبير تناوله مختلف المفكرين السياسيين، الأدباء،الحكام، الفلاسفة ، المسرحيين ، القديسين ، الساسة بمختلف مظهراتهم . وكلمن هؤلاء يصنف ميكيافلي على شاكلته ، أو لنقل حسب تأويله وفهمه له ، وهنانتساءل عن سبب هذا التنوع في التصنيف والتنوع في قراءة ميكيافلي ،ما سبب

ومرد ذلك ؟لماذا وصل هذا التصنيف إلى الاختلاف، بل التناقض الصارخ بينهذا وذاك ؟ هل ميكيافلي هو المسئول عن ذلك؟ ، أي هل هو الذي فعل شيئا جعلبمقتضاه قراءه حائرين في تصنيفه بشكل جازم ونهائي ؟ أم أن المشكل فيالقراء وفي مدى فهمهم للرجل ولسياقه ورهانه ؟

يقول ميكيافيللي في كتابه الأمير (هناك بعد شاسع بين ما يعيشه المرء وماينبغي أن يعيشه)(3) يمكن أن نستشف من هذا النص، وكذا من نصوص أخرى مشابهةفي التوكيد على التباعد بين الواقع المعيش واليوتوبيا، لقد كان ميكيافليعلى وعي بوجوب تغيير نمط قراءة الفعل السياسي؛ فبدل القراءة اليوتوبيةالتي تنظر إليه من منظور ما يجب أن يكون عليه، حاول فيلسوف فلورنساالتنظير لطريقة مغايرة، تقرأ الواقعة السياسية في مستواها الفعلي . وبهذا

فصل بين الكائن وما ينبغي أن يكون عليه، فبلور حسب بعض القراءات الفلسفيةرؤية موضوعية لواقع الاجتماع السياسي، جعلته أول مؤسس لعلم السياسةالحديث.

ولكن هناك مفارقات اخرى في فكر ميكيافيللي وهي طرحه في استبداد الاميروتقوية نفوذه بكل الوسائل  في مقابل صورة مغايرة نجدها في أحاديث علىالمقالات العشر الأولى في تاريخ تيتو ليفيو  لا ينظر لاستبداد الامير بلهو يدعو الى حرية الشعب ويؤكد على الحقوق السياسية للشعب وهذا مخالف لماذهب اليه  في الامير .

ويعد المتن الميكيافيللي من اكثر النصوص السياسية اثارة للجدل واكثرهااستحضارا كلما تم التفكير في الفعل السياسي ولا يمكن قراءة السياسةالحداثية دون الرجوع الى متن ميكيافيللي  .

على الرغم من القراءة المتعددة لنصوص ميكيافيللي لكن لا نجد من يعطيتفسيرا مقنعا لهذه التناقضات واحد اسباب هذا الاشكال هو عداء الكنيسةلأفكار ميكيافيللي والتي اسست على رسم صورة نمطية عن افكاره والسبب الاخرهو عدم قراءة نص ميكيافيللي والرجوع الى اللحظة الزمنية التي كتب فيهاميكيافيللي نصه بالإضافة الى كثرة التأويلات حول نص ميكيافيللي

ومن القراءات الطريفة في محاولة تفسير هذه المفارقات قراءة ماري ديتز حيثتقول في دراستها ( فخاخ الامير ) ان ميكيافيللي اراد خداع الامير المستبدفأعطاه نصائح هي كفيلة لتدميره وحسب تعبيرها فهي نصيحة ملغمة لا تعبر عنحقيقة موقف ميكيافيلليولكن مفارقة اخرى قام بها برجيس بدراستها وهي ان ميكيافيللي يرى حتميةتاريخية تحكم النظم من حيث ميلادها ونموها وافولها وهذه نفس الفكرة التيسار عليها ابن خلدون ولكن يمكننا ان نجد ما يخالف هذا الراي في نصميكيافيللي عندما يتحدث عن وجود ثلاث قوى تتبادل المراقبة وبإمكان النظام

الاستمرار بفعل توازن القوى ولهذا فان برجيس يصف ميكيافيللي بالمفكرالمقنع

يتضح من هذا ان نص ميكيافيللي  يحبل بمفارقات ونقائض عديدة فكيف يمكنالجمع بين هذه التناقضات  ويذهب الدكتور الطيب بوعزة الى ان هناك امكانيةمتاحة لفهم نص ميكيافيللي بشرط الرجوع الى اللحظة الزمنية التي اسس عليهاميكيافيللي نصه وهو يقترح مدخلا لفهم نص ميكيافيللي وهو تاريخية النصالميكيافيللي من خلال السياق الايطالي بإشكالاتها واخفاقاتها واحلامهافقد كان ميكيافيللي مفكرا قوميا يطمح الى معالجة الازمة السياسيةالايطالية المتمثلة في شرذمتها السياسي بتوحيدها في اطار قومي واحد وهذاالحلم كان مسكونا في وعي ميكيافيللي ومن هنا اعتقد ميكيافيللي ان ايجادهذه الدولة الموحدة القومية يحتاج الى حاكم قوي ولهذا قدم نصائح له فيالامير لتحقيق الدولة القومية الموحدة القوية فالاستبداد الذي دعي اليه

ميكيافيللي في الامير كان مشروطا ومؤقتا حتى تتحقق الدولة القومية اما فيكتابه  أحاديث على المقالات العشر الأولى في تاريخ تيتو ليفيو فهو ينظرالى هذه الدولة بعد ان تتحقق فتكون جمهورية تمتثل لقيم الحرية لاالاستبداد.


أخبار ذات صلة

تأثير التعليم على الفيزيولوجيا

تأثير التعليم على الفيزيولوجيا

إشراف.. الأستاذ الدكتور رشاد محمد ثابت مراد

المايسترو ميساك باغبودريان:

المايسترو ميساك باغبودريان:

من المحزن عدم وجود أي برنامج يتحدث عن الموسيقا في قنواتنا التلفزيونية