كان شعار عصر التنوير الأوروبي "تجاسر على أن تعرف" وهي جملة للشاعر اللاتيني هوراتيوس، وتنسب خطأ إلى الفيلسوف الألماني إيمانويل كنط الذي اتخذ من العقل أيقونة.
ويذكر الدكتور جابر عصفور أن اللغة العربية كانت "أسبق من غيرها في استعارة النور للمعرفة". وفي الحقيقة، فإن التنقيب في إرث الفلاسفة والعلماء العرب يوصلنا إلى أفكار آباء التنوير المطمورة في التراث العربي.
1- ابن حيان
جابر بن حيان (721 – 815) هو عالم كيمياء فارسي من طوس (في إيران حالياً).
الكيمياء التجريبية
يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي عن ابن حيان إن شخصيته "تسامت في التفكير حتى ليقف المرء اليوم ذاهلاً أمام ما تقدمه لنا من نظرات علمية فلسفية... وأمام هذه الروح العامة التي تسودها روح التنوير والنزعة الإنسانية". مؤكداً أن كيمياء جابر "تمتاز بالميل إلى الناحية التجريبية، واستبعاد الخوارق، والاتجاه العلمي العقلي".
علم الميزان
يشير بدوي إلى إيمان ابن حيان بأن "الكائن الحي هو نتيجة لتضافر قوى الطبيعة التي تخضع لقوانين كمية عددية يكشف عن سرها علم ‘الميزان’ أي علم القوانين الطبيعية الكمية التي يجري عليها الكون والفساد في الطبيعة". لذلك فقد ظل يؤمن بإمكانية الخلق بالصناعة بواسطة الكيمياء.
ونظرية الميزان تعد العمود الفقري لمذهب ابن حيان والمقصود بها "القوانين الكمية العددية التي تحكم كل شيء في الوجود" وهي نظرية يقول بدوي إنها "الشغل الشاغل والهم الأكبر للعلم الحديث بكل أنواعه وفروعه".
2- ابن المقفع
هو روزبه بن داداويه، وبعد إسلامه تسمّى بعبد الله ابن المقفع (724 – 759). أديب فارسي ولد في مدينة جور (فيروز آباد بإيران حالياً).
نزعة عقلانية
يقول المستشرق الفرنسي دومينيك أورفوا: "قيل عن ابن المقفع إنه ‘رجل نهضوي’... ودون أن يكون هو نفسه فيلسوفاً، فقد حضّر العقول لفهم عقلاني للأشياء". ويعلّق على أعماله قائلاً: "ليس لهذه الأعمال أي صدى ديني".
ويعكس باب برزويه الذي جاء في كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع رؤية فلسفية تشككية عميقة، لا تخفي توجسها من أصحاب الأديان الذين لا يستطيعون تبرير إيمانهم تبريراً عقلانياً. ويقارن أورفوا بعض ما جاء في هذا الباب بنظرية أوغست كونت القائلة "بالخلود الذاتي"، مضيفاً: "وهي نظرية علمانية إلى أقصى الحدود".
إصلاح قانوني
دعا ابن المقفع في "رسالة الصحابة" وهي وثيقة شبه رسمية وجهها إلى الخليفة، إلى توحيد الفتاوي القضائية لمختلف المدارس الفقهية "وهو أمر كان من شأنه لو تحقق أن يفتح منظوراً نحو علمنة الحضارة الإسلامية" كما يقول أورفوا.
3- إبراهيم النظّام
هو إبراهيم بن سيار النظام، (777 تقريباً – 845 تقريباً) متكلم أصوله من بلخ (في أفغانستان حالياً).
تمجيد العقل
يذكر محمد عبد الهادي أبو ريدة أن "النظام يجعل للعقل سلطاناً كبيراً في مباحثه". وكان "ذا نزعة نقدية في تفكيره، فهو يتناول ما يصل إليه علمه، ويزنه بميزان العقل وعلى هذا الأساس يقبله أو يرفضه، وهو على هذا الأساس يصحح الحديث أو يزيفه، ويتأول نصوص القرآن". وكان النظام ذو نزعة شكية ويقول: "لم يكن يقين قط حتى صار فيه شك".
ووفقاً لأبي ريدة، حاول النظام تقديم تفسير نفسي لأصل الإيمان بالكائنات الخارقة مثل الجن والغيلان، وأنكر الطيرة، وكان يرفض الخوارق بل ونفى بعض المعجزات، مثل انشقاق القمر، لأنه حدث غير مسجل تاريخياً.
الإصلاح التشريعي
ربما كان النظام أول من خلخل مفهوم الإجماع في التشريع الإسلامي، إذ يذكر الشهرستاني أنه قال عن الإجماع: "إنه ليس بحجة في الشرع". ولو كتب لهذه الفكرة الصمود لأحدثت طفرة في التشريع الإسلامي. كما قدم نظرية في الإيمان والأخلاق عمادها العقل، دون النبوة.
4- الجاحظ
هو عمرو بن بحر الشهير بالجاحظ (775 – 868) أديب عراقي نشأ في البصرة.
حرية التعبير
سبق الجاحظ فولتير في دفاعه عن حرية التعبير بقوله: "وإذا تقلدت الأخبار عن خصمك، فحطه كحياطتك لنفسك، فإن ذلك أبلغ في التعليم".
نظرية التطور
وفي كتاب "الحيوان"، أشار الجاحظ إلى ملاحظات تشابه نظرية التطور. ويذكر الدكتور علي بو ملحم أن الجاحظ لم يكن غافلاً عن أثر هذا الرأي في الدين، وقال: "وقد أنكر ناس من العوام وأشباه العوام أن يكون شيء من الخلق كان من غير ذكر وأنثى. وهذا جهل بشأن العالم وبأقسام الحيوان. وهم يظنون أن على الدين من الإقرار بهذا القول مضرة. وليس الأمر كما قالوا. وكل قول يكذبه العيان فهو أفحش خطأ وأسخف مذهباً وأدل على معاندة شديدة أو غفلة مفرطة".
كما نبه إلى أوجه الشبه بين الإنسان والقرد في الشكل والتصرف، والزواج والغيرة الجنسية. وتوقف ملياً عند تأثير البيئة على الإنسان والحيوان في الشكل والطباع، وهو يرى أن تأثير البيئة لا يحدث فجأة وإنما يحتاج إلى أزمان متطاولة، ويعلق بو ملحم: "هو بذلك يكون قد سبق ابن خلدون ولامارك وداروين بعدة قرون".
5- الكندي
هو أبو يوسف الكندي (801 – 873) فيلسوف عربي نشأ في الكوفة.
تعريب الفلسفة
يقول الدكتور محمد أبو ريدة: "الكندي أول فلاسفة الإسلام على الحقيقة، وهو أول علمائه في ميدان العلوم الإنسانية النظرية منها والعملية". وقد قام بمجهود شاق في كتابة الفلسفة باللغة العربية، ووضع أول معجم فلسفي، وقدم أول محاولة للتوفيق بين الدين والفلسفة، ويقول كامل عويضة في دراسته له إن "الكندي جعل نقطة التقاء الفلسفة والدين حول محور واحد ومن أجل غاية واحدة هي الحق".
التفسير الفلسفي
يذكر كامل عويضة أن الكندي حاول "أن ينظر نظراً عقلياً في آيات القرآن الكريم وسوره، فتصدى لتفسير بعض آياته تفسيراً عقلياً من خلال مراعاة تدرج المعاني اللغوية وتحليل الألفاظ.
مناهج البحث
ويضيف عويضة: "حاول الكندي أن يضع البذور الأولى لما نسميه اليوم بعلم مناهج البحث"، ويحددها في ثلاثة مناهج أولها منهج حسي تجريبي، وثانيها منهج عقلي رياضي، وثالثها المنهج التاريخي. كما قدم تفسيراً علمياً لزرقة السماء، ونفى علاقة أجرام السماء بحياة البشر.
6- الرازي
هو أبو بكر الرازي (864 – 923) فيلسوف فارسي ولد في الري (طهران حالياً).
الإيمان بالعقل
يذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي أن الرازي كان "لا يؤمن بالنبوة، وكان نقده لها يقوم على أساس اعتبارات عقلية وأخرى تاريخية". بيد أن الرازي كان مؤمناً بالعقل، وكان يرى أنه يكفي وحده لمعرفة الخير والشر فلا مدعاة إذاً لإرسال أناس يختصون بهذا الأمر من جانب الله. وفند الرازي فكرة النبوة في مناظرة مع أبي حاتم الرازي.
وكان يرى أن الناس متساوون في إمكانية الوصول إلى معرفة الحقيقة بدون أنبياء، لولا أن كثيرين منهم يصرفون همتهم في معاشهم ولقمة عيشهم أكثر من الأمور الوجودية. وانتقد تشبيه الرب في الكتب المقدسة، واعتبر التأويل مجرد تحايل لإنقاذ كمال الألوهية.
وكان الرازي يرى سبل تحصيل العلم محصورة في ثلاثة يذكرها بدوي وهي: التحصيل العقلي وفقاً لقواعد البحث والبرهان، والنقل من السلف بالرواية الصحيحة كما هي في علم التاريخ، وغريزة الإنسان التي تحفظ بقاءه بدون تلقين من أحد.
7- الفارابي
هو أبو نصر الفارابي (874 – 950)، فيلسوف من فاراب (في كازاخستان حالياً).
المنهج العلمي
يذكر الدكتور أحمد شمس الدين أن الفارابي كان صاحب منهج علمي "بل هو من أهم فلاسفة الإسلام المنهجيين إذا لم يكن أهمهم على الإطلاق". فقد قام بمحاولة تصنيف العلوم، في كتابه "إحصاء العلوم" وهو أمر مهم، لأنه يرشد العلماء إلى دراسة ظواهر واحدة كل من زاوية تخصصه، وقد سبق الفارابي بذلك أوغست كونت.
تفلسف الدين
قام الفارابي بمهمة صعبة في التوفيق بين الإسلام والفلسفة اليونانية، لكنه انتهى إلى أن جعل الفيلسوف في مرتبة عقلية أسمى من مرتبة النبي، كما يذكر شمس الدين.
ويضيف إلى ذلك آراء للفارابي تتصادم مع الشرع، منها قوله بقدم العالم، أي أنه ليس له بداية، وعدم عناية الكائن الأول بالعالم، وعدم بعث الأجساد.
ويعلق شمس الدين بقوله إن عقله "أتاح له إبداع فلسفة متميزة قلما نجد فيلسوفاً آخر جاء بعده لم يقتبس من أفكارها". وانتقد الفارابي الخرافة المنتشرة في عصره وهي التنجيم، وكانت نظرته إلى الفلك علمية.
8- التوحيدي
هو أبو حيان التوحيدي (922 – 1023)، أديب عراقي من بغداد على الأغلب.
تنوير المجتمع
تأثر التوحيدي بالفلسفة اليونانية، وكثيراً ما استشهد برموزها، مثل فيثاغوروس وأنكساغوراس وسقراط وأفلاطون وديوجينس وغيرهم، حتى وصفه ياقوت الحموي في معجمه بأنه "فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة".
وكان يؤمن بضرورة تنوير المجتمع، وكان منهجه في التنوير يعتمد على إقناع وتثقيف الحاكم. فالتنوير والإصلاح في مذهبه يأتي من القمة إلى القاعدة، وذلك لأن هذا أيسر وأقصر طريق لتنوير المجتمع، وقد ناقش هذه المسألة في "الإمتاع والمؤانسة" وذكر على لسان الفيلسوف اليوناني ديوجينس أن الدنيا تطيب "إذا تفلسف ملوكها، وملك فلاسفتها".
9- البيروني
هو أبو الريحان البيروني (973 – 1048)، مفكر موسوعي فارسي من مواليد كاث (أوزبكستان حالياً).
دوران الأرض
من المعروف أن بداية التنوير الأوروبي جاءت مع نظرية كوبرنيكوس القائلة بدوران الأرض حول الشمس، لكن يبدو أن البيروني كان له قصب السبق، فقد ناقش في كتابه "القانون المسعودي" فكرة دوران الأرض حول محورها.
ويذكر البروفيسور بركات محمد مراد أن البيروني "أول من توصل إلى معادلة لقياس محيط الأرض. وكان يعتقد أن الأرض ربما هي التي تدور حول الشمس، ونمّى فكرة تقول بأن الحقب الجيولوجية تتعاقب في صورة دورات زمنية".
البحث العلمي
يذكر بركات مراد أن البيروني رفض الاتجاه بالبحث في الغيبيات، وسلط كل أبحاثه على الأمور المادية التي تنفع الإنسان، كما ينسب للبيروني "إسهامه العظيم بتأسيس مبادئ منهج البحث العلمي، ذلك المنهج القائم على الملاحظة والمشاهدة العلمية وفرض الفروض ومحاولة تحقيقها رياضياً وتجريبياً".
10- المعري
هو أبو العلاء المعري (973 – 1057)، شاعر سوري من معرة النعمان.
نباتية صارمة
كان المعري أول مفكر تشاؤمي ونباتي عربي، فكان لا يأكل أي طعام حيواني. ويقول دومينيك أورفوا إنه كان يعبّر عن درجة متساوية من الشفقة تجاه كل كائن حي. ويذكر ياقوت الحموي أنه لم يتناول الدجاج عندما وصفه له الطبيب أثناء مرضه.
نقد الأديان
كان المعري لا يؤمن بالرسل والبعث والنشور، ودائماً ما نقد الأديان في أشعاره مثل قوله: هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت/ ويهود حارت، والمجوس مضلله/ اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا/ دين، وآخر ديّن لا عقل له.
نبذ الطائفية
كان المعري ينبذ جميع أشكال العنف حتى العنف ضد الحيوان، بل وصل الأمر به إلى استهجان الاسترقاق، وأخذ السبايا في الحروب، فهو يرى أن الأديان أدت إلى معاداة الإنسان لأخيه، وقال: إن الشرائع ألقت بيننا إحناً/ وأورثتنا أفانين العداوات/ وما أبيحت نساء الروم عن عُرُضٍ/ للعُرْبِ إلا بأحكام النبوات.
11- ابن رشد
هو أبو الوليد ابن رشد (1126 – 1198)، فيلسوف عربي نشأ في قرطبة.
حق الاجتهاد
فتح ابن رشد باب الاجتهاد، وعاب على الفقهاء أنهم يحفظون آراء المجتهدين ويخبرون العوام بها، وكان كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" كما يقول د. محمد عابد الجابري "خطوة عملية نحو فتح باب الاجتهاد".
وفي كتابه "فصل المقال"، دافع ابن رشد عن كتب الفلسفة والمشتغلين بها، ودعا إلى ضرورة التأويل في حال تعارض الدين مع العقل.
إنصاف المرأة
ويبين الجابري موقف ابن رشد التنويري من المرأة، أثناء شرحه لجمهورية أفلاطون، فهو يرى مساواة المرأة للرجل في حق العمل طالما كانت تطيق ذلك، بل ولا يرى ما يمنع توليها حكم الدولة، إذ يقول: "بعض النساء ينشأن وهن على درجة من التفوق والفطنة، فليس يمتنع أن يكون من بينهن الفلاسفة والحكام. ولكن بما أن الناس قد دأبوا على الاعتقاد في أن هذا الصنف نادراً ما يوجد بينهن، فإن بعض الشرائع لا تقبل النساء في منصب الإمامة".
12- ابن خلدون
هو ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون (1332 – 1406)، عالم اجتماع عربي نشأ في تونس.
العمران البشري
يرى الدكتور علي الوردي أن ابن خلدون "أول مَن قام بدراسة المجتمع البشري بعيداً عن التقييم الأخلاقي، وهو أحد أسس العلوم الاجتماعية الحديثة".
ويقول الدكتور حسن الساعاتي إن "عظمة ابن خلدون وأصالته تتجلى في منهجه العلمي الذي فصله ودعمه في مقدمة تاريخه"، حتى قال عنه المؤرخ أرنولد توينبي: "لقد توصل ابن خلدون إلى فلسفة التاريخ، ويعد عمله هذا أعظم عمل أو تأليف أبدعه فكر في أي زمان ومكان".
المنهجية البحثية
قدم ابن خلدون أول محاولة منهجية علمية في التراث العربي، ووضع منهجه الذي يحدده الساعاتي في: التزود بالعلم والإلمام بنظم الاجتماع الإنساني وتطورها بالتأمل والاستقراء، والتسلح بالنزعة الشكية، وتقفي الموضوعية، والحيطة عند التعميم، والتحقيق العقلي والحسي، والاستعانة بالخبراء، وأخيراً التجربة.
رصيف22