عندما يتحكم فنجان قهوتك بمصيرك
أحياناً نحن نلجأ لما يسميه العلم خرافات وأساطير وأوهاماً، نلجأ لتلك الأشياء البسيطة، عندما يتراءى لنا في داخلنا أننا بدأنا نفقد السيطرة على مصيرنا الحاضر والقادم، وأنّ ما لا نريده وما لا نتمنى أن يكون بات يسيطر علينا، حين يتمدد فينا شعور القلق من المجهول القادم الذي قد يهدد مصيرنا، عندما تتفلت من يدنا جميع الحبال التي نتوثق بها، ونحن نخطو على درب الحياة، حينها بماذا نتمسك؟ فهل يوجد غير الوهم، وغير الخرافة، وغير الأسطورة.
حين نسلم عقلنا بكل ما فيه من أفكار، وحين نصغي بكامل جسدنا لتلك المرأة البسيطة، وهي تمسك فنجان قهوتنا وتخبرنا عن مصيرنا، حين نذعن ونحن مختارون لذلك الإذعان، حين نبتسم عندما تخبرنا بأن هنالك فسحة أمل قريبة، وهنالك فرصة كبيرة آتية بعد ثلاث إشارات، حين تقول إن هنالك قلباً أبيض يراقبك من بعيد دون أن تعرفه، ثم حين تسكت فجأة! فينقبض صدرنا، وتتوسع حدقاتنا، ثم نقول تلك الجملة: "أخبريني ماذا رأيتِ". نقولها وكأننا على قناعة بأنها تنظر من منظار الغيب، كأنها إحدى عيون المشيئة التي ترسم القادم، ولكنها توقفت فجأة؛ لأنها تذكرت بأنها لم تطعم طفلتها الصغيرة بعد، وبدأت تفكر بسرعة من أين يجب أن تستدين؛ لكي تأتي لها بالطعام، ثم تتنفس البَصَارة مع ابتسامة صغيرة، ترفع القلق عن وجوهنا، وتقول خيراً، لكن لا يخلو الأمر من بعض الشدة التي ستقع بها، ويقول لي فنجانك إنك ستتجاوزها بصلابة.
في مجتمعاتنا المقهورة، أي حادث عرضي يمثل أمام أفرادها تحدياً، فالمرض تحدٍّ، والدراسة تحدٍّ، والحصول على فرصة عمل تحدٍّ، والاستقرار تحدٍّ، والمحافظة على السلامة تحدٍّ، والنجاح في جميع ذلك تحدٍّ، لا أحد هنا يعيش لذاته، الكل في حالة حرب مع الحياة من حوله، يخاف غزو المرض أو الجهل أو العنف أو غوغائية بعض الأشخاص من حولنا، حتى غزوات الطبيعة وكوارثها، صراعات فردية وجماعية، صراعات سياسية ودينية واجتماعية، وتكاد الكلمة التي تعبر عن واقعنا بشكل حقيقي هي الصراع، والكلمة التي لا تمت بصلة لواقعنا، هي السلام.
عندما يمرض الفرد ويفشل الطب في تشخيص العلاج الصحيح، يلجأ إلى عالم ما وراء الطبيعة ولأولئك الأشخاص الذين تتوافر فيهم القدرة على التواصل مع الجن وفك الحسد والسحر، ربما لأنه يملك فكرة مسبقة أنه في معركة وجودية مستمرة، وأن أعداءه إن لم يستطيعوا أذيته بالوسائل المتعارف عليها فهم يلجأون للسحر، وبذلك يخوض صراعاً آخر من نوع غريب معهم، هو ذات الأمر حدث لأم بلغت ابنتها سن الزواج وبدأت تخاف من أن تتجاوزه، يخطر لها أن أحداً ما أراد غلق نصيب ابنتها، فتلجأ لأولئك الأشخاص؛ لتحصل على طريقة ما لفك ذلك الغلق، ويا لَلمصادفة، لقد انخطبت الفتاة بعد أن حاولت الأم تلك المحاولة، وهذا ما عزز لديها تلك الفكرة التي تناقلتها عن أمها، وبالطبع أخبرت ابنتها، وحملت الأم الجديدة هذه الفكرة لأبنائها، لم يخطر لهم أن ارتفاع مستوى البطالة أحد الأسباب التي تؤدي لتأخر الزواج أو أنّ رداءة النظام الصحي والطبي كان سبباً في عدم التشخيص المناسب للمرض.
أسمع بكثرة العديد من الأشخاص يرددون صباحاً بعضاً من الأدعية والصلوات، التي تمثل لهم سلاحاً روحانياً يجابهون به الواقع المليء بالنزاعات التي يتحاشون دخولها، اللجوء للدعاء والابتهال، وطلب اليُسر من الخالق، وممارسة الطمأنينة الفردية، أمر جيد ومطلوب ومجدٍ، وأنا متأكد أن نسبة كبيرة من أفراد مجتمعاتنا المقهورة والمسلوبة، تبكي منفردة في تلك اللحظة التي تتملكها فكرة يائسة، تروي لها بمرارة أنها مجردة من أي قوة وسلاح، في تلك اللحظة التي تخبرها أنها ضعيفة ومسحوقة، وأنها بحاجة لدعم إلهي يشحن طاقتها ويدافع عنها أمام قوى الطبيعة والواقع والحياة، ولأن الإله بيده جميع المصائر، نطمئن حين نلجأ إليه.
الهروب، التردد، اليأس، المجهول، الخوف، الهزيمة، كلمات تمثل حاضرنا وتصفه بدقة، وتسيطر على ذهنية الأفراد، وترسم دائرة سلبية ضخمة تتجمع فيها جميع الأحلام والطموحات والغايات النبيلة، وحتى إنها تحبس الإرادة وتحد من قدرتها وجدواها، أكثر الأشخاص عقلانية، يعانون من تلك المفاهيم، ليس لإيمانهم بالخرافات، بل لأن هذا فعلاً واقعنا، إنها السلاسل التي تكبل الأفراد هنا.
في ظل غياب الحل الحقيقي لجميع تلك المفاهيم، ينقسم المجتمع لقسمين واضحين: أحدهما، وهو الكثرة الكثيرة، الذي تبنى الاستسلام دون أن يدري في معظم الأحوال أنه استسلم للواقع وتعايش معه وبات جزءاً منه، لقد رضخ وأذعن بدون أن يختار، حتى إنه لم يكن يملك الخيار في رفع الراية البيضاء.
القسم الآخر من قرر التمرد، وهذا ينقسم إلى قسمين، من كان قرار التمرد الذي اتخذه مبنياً على العاطفة، ومن كان قرار التمرد الذي قرر أن يخوضه مبنياً على العقل، أي أنه تمرد عقلاني، مع تقاطع الغاية النبيلة بين التمردين، إلا أن الثاني يستمر لمدة أطول من الأول، صاحب التمرد العاطفي هو الذي يفهم أنّ نسبة كبيرة من أفكار مجتمعه عبارة عن تناقضات وخرافات وأوهام، ثم يبدأ بالاستهزاء بها جهراً، ويتناولها بطريقة هزلية، حينها يحكم على نفسه بالإلغاء الجمعي، حتى إن تجرأ على المقدسات من الأفكار أو الخرافات، اختفى، وليس بالضرورة أن نعني بذلك الموت، مع أنه وارد، بل يتحول من شخص معلوم إلى نكرة، ثم يختفي من النسيج الاجتماعي؛ لأنه فصل ذلك الجزء الذي يربط بين حلقته وحلقة مجتمعه، بالتالي لم يعد له أي تأثير أو قيمة مجتمعية تساعده في صنع التغيير الذي يتخيله.
أما التمرد العقلاني، فهو مبني على فهم جميع تلك التناقضات والأفكار وحتى الأوهام والخرافات، واستعمالها كأدوات مساعدة وليس كحواجز تمنع الحركة، والعمل من خلالها ومن خلال العقلانية التي تبناها حتى يستطيع صنع التغيير، طبعاً أيها السادة، جميع ذلك لا يعني أن هذا سوف يكلل بالنجاح، بل يعني أنه سوف يُمضي حياته بلا فائدة حقيقية من تمرده، نعم سوف يستهلك الزمن بطريقة عقلانية تحميه، لكنها لا تؤثر في واقعه.
أنا أكتب الآن من عُمق الشرق، من نواته، وأرى آلاف التناقضات تدور في فلك النواة، ضمن نظام مُحكم، يدعو إلى التشاؤم والبؤس لدرجة تسبق القناعة بقليل، أن هذا النظام هو نحن، هو المرآة التي تعكس صورنا الحقيقية، فهو ببساطة يُمثل حقيقتنا؛ لذلك فإن فنجان القهوة هو مستقبلنا، والبصارة هي الخرافة التي نلجأ إليها لتوهمنا بأننا نتحكم بمصيرنا، وأنا أعلم أن تعلقنا بكل ذلك، يمثل الخطوط الدفاعية الأخيرة في مجابهة المجهول، ولكن ما لا أتمناه حقاً، هو أن تنهار تلك الخطوط الدفاعية قبل أن نجد السلاح المناسب، الذي يؤهلنا لنكون أصحاب القرار الحقيقي في تحديد مصائرنا.
هافينغتون بوست