هل ثمة تاريخ للون؟وهل من الممكن الحديث عن تاريخ لون محدد على نحو مجرد؟
الحديث عن تاريخ لون ما، يعني بالضرورة ربط علاقة لون ما بمرحلة محددة من تاريخ مجتمع ما.
علاقة تتغير بتبدل الأحوال الاجتماعية والسياسية والمفاهيم الفكرية والدينية وغيرهما.
الكاتب ميشال باستورو مؤرخ فرنسي متخصص في تاريخ الألوان والرموز والنبالة، وصاحب مؤلفات عديدة منها عن الألوان الأخضر والأزرق والأسود، وقريباً سيصدر مؤلفه الجديد عن اللون الأصفر، المتصل أيضاً بالصحافة «الصفراء». «نعم» يقول الكاتب، بكل ما في الكلمة من معنى. البرفسور باستورو يدير حالياً الدراسات في «المدرسة التطبيقية للدراسات العليا في السوربون» في باريس.
في كتابه «الأحمر: تاريخ لون»، يقسم المؤلف التقصي التاريخي عن اللون الأحمر في الحضارة الغربية إلى الأجزاء الآتية: اللون الأول. الجزء الثاني: اللون المفضل. الجزء الثالث: اللون الإشكالي. الجزء الرابع والأخير: لون خطير؟.
الكتاب ليس نصوصاً فقط، وإنما لوحات ملونة كثيرة ومتميزة بجودتها الطباعية وجمالها. التركيز يجب أن يكون على الصورة والنص معاً كي نفهم قراءات الكاتب. لذلك، فإن هذا العرض لا يمكن أن يركز على كل اللوحات ذات العلاقة لضرورات متعلقة بحقوق الملكية الفكرية. الصور المرفقة بهذا العرض هي التي زودنا الناشر بها وسمح لنا بإعادة نشرها. القارئ بإمكانه العودة إلى لوحات أخرى وردت في المؤلف وذات علاقة بالنص متوافرة في الإنترنت، ويمكنه الاطلاع عليها والتمتع بجمالها وتفهم بعض معانيها.
يقول الكاتب إنّ اللون الأحمر، يعني أموراً كثيرة، منها قوة الحياة والمقدس، إضافة إلى الحب والشهوة الجنسية والغضب. اللون الأحمر لم يكن في حضارات عديدة مثل أي لون آخر، بل كان اللون الذي يعلو على ما غيره من الألوان، ويستحق بالتالي توظيفه اجتماعياً. فعلى سبيل المثال، المفردة أحمر عنت في بعض الحضارات «لوناً» أيضاً، بما يعكس المكانة الخاصة التي تميز بها هذا اللون.
كان الأحمر اللون الأول الذي استخدم في اللوحات والصبغ، وارتبط قديماً بالحروب والثراء والسلطة، ومالكو المصابغ كانوا من الأكثر ثراءً في تلك العصور (انظر المصور رقم 1).
في العصور اللاحقة، اكتسب اللون الأحمر مكانة خاصة، مقدسة، إذ عنى في التأويل المسيحي لون دم المسيح، ولون نار جهنم، لكنه كان في الوقت ذاته رمز الحب والجمال والمجد، في الفِكر اللاديني.
المعاني الدنيوية للون الأحمر قادت إلى فقدانه مكانته المميزة في الثورة الدينية البروتسنانتينية، فطردته، إذ اكتسب معنى جديداً لاطهورياً، وارتبط بالشهوة والفخامة والترف والإفراط التي ربطتها الكنيسة الثائرة بالكاثوليكية.
استعاد مركزه الخاص إبان الثورة الفرنسية، فصار رمز كل ما هو ثوري
هذا الإقصاء استمر إلى أن استعاد اللون الأحمر مركزه الخاص إبان الثورة الفرنسية، فصار رمز كل ما هو ثوري. لكن هل عنى اللون الأحمر ـــ من منظور ثوري ـــ الدم الذي يسال في الثورات أم الغضب؟ كلنا يعلم أن هذا اللون يثير غضب الثور، مع أن الأديب الألماني غوته كتب «إن الفيلسوف يستشيط غضباً بمجرد ذكر اللون الأحمر»!.
من المعروف أن الرسامين فضلوا استعمال اللون الأحمر، منذ العصور الحجرية، فالحصول على ذلك اللون كان من أسهل الأمور، ولأطيافه استعمالات كثيرة في اللوحات الفنية ومنها منحها التميز والعمق. أهم تلك الأطياف كان اللون الأرجواني الذي خُص بفصل كامل.
الفينيقيون، هم من اكتشف اللون وكيفية استخراجه من سمك الأرجوان. ثمة أساطير عديدة مرتبطة بهذه المسألة، إغريقية ورومانية، وفينيقية أيضاً. الأرجواني كان لون ملابس القادة والأباطرة وكبار القديسين لدى الرومان، وامتلاك ملابس بهذا اللون كان دليل قوة وهيبة. بل إن الرومان زينوا ملابس آلهتهم به.
لماذا اكتسب هذا اللون المكانة الخاصة؟
يورد الكاتب إن ثباته، مقارنة ببقية الألوان، منحه تلك المكانة العليا في العصور القديمة. لم يكن يتأثر بالشمس الساطعة، ويقاوم تأثيرها في الألوان الأخرى التي تبهت مع مرور الزمن والتعرض لتقلبات الطقس.
ثمة اختصار علمي مفيد في حديث المؤلف عن كيفية استخراج اللون الأرجواني، فيقول إن مصدره، أي الأسماك الأرجوانية، كانت متوافرة بكثيرة «في الشواطئ الفلسطينية. وعلى نحو خاص المنطقة الواقعة قرب صيدا وصور». لكنه يضيف أن ثمة أصنافاً أخرى من السمك الأرجواني، توافرت في بحار شواطئ قبرص واليونان وجزر بحر إيجه، وحتى قرب سواحل جزيرة صقلية حيث استخرج ذلك اللون.
ونحن نعلم أن اللون الأحمر اكتسب مكانة مدنية أيضاً، منذ أقدم العصور. العالم بليني الأكبر (الوفاة 25 أغسطس 79 م) صاحب مؤلف ‹التاريخ الطبيعي» منحه مكاناً في مؤلفه أكثر من أي لون آخر. وقد يكون المسؤول الأول عن المكانة المتدنية التي مني بها في عصره، إذ ربطه بالدورة الشهرية لدى المرأة، مؤكداً معرفته الوثيقة بأن أي اتصال به يؤدي إلى جعل النبيذ مراً، والنباتات غير مثمرة بل ميتة، والحشائش في الحدائق تجف، وتسقط الفواكه من الأشجار، وأسطح المرايا اللامعة تستحيل خافتة....
لذا نجد أنّ آباء الكنيسة ربطوا هذا النص بـ «خطيئة المرأة الأولى» عندما أغوت آدم على الأكل من الثمرة المحرمة، فعاقبها، ومن بعدها كل النساء، بالدورة الشهرية، على ما يرد في «التوراة»! مؤلفون آخرون معادون للمرأة استعملوا النص لتأكيد رأيهم بعدم نظافة المرأة، وأن خلف جمالها تقبع الخطيئة! لذا كان على اللون الأحمر، في عهد سيادة هذه المفاهيم الكنسية، أن يتراجع ويستحق اللعن.
لكن اللون الأحمر اكتسب، من ناحية أخرى، معنى آخر متصلاً بلون دم المسيح الذي سال على الصليب، وكذلك لون دم شهداء المسيحية، ولون نار جهنم أيضاً. لذا، بدأ باستعادة مكانته، وتغير لون الكنيسة المفضل إلى الأحمر.
في القرن الثاني عشر، اكتسب اللون الأحمر مكانة عليا مطلقة في الفكر المسيحي، إلى درجة أنّ كثيراً من الكنائس، في مختلف أنحاء أوروبا، ادعت ملكيتها بعض من دم المسيح. في تلك المرحلة، حظي اللون الأحمر قدسية، خصوصاً بعدما أعلن بابا روما أوربانوس الثاني، مطلق الحملة الصليبية الأولى في عام 1096، ضرورة وضع الصليب «الأحمر» على الأكتاف وعلى الصدور وعلى الرايات، ليصبح علامة النصر، ويشكل تعهداً بالظفر للمحاربين وللشهيد على الصليب.
ارتبط قديماً بالحروب والثراء والسلطة، ومالكو المصابغ
كانوا من الأكثر ثراءً في تلك العصور
بالعودة إلى التاريخ: اللون الأحمر عنى أمراً سلبياً في العصر الروماني، والمرأة ذات الشعر الأحمر عدُت من اللواتي يقدن حياة لهو، والرجل ذو الشعر الأحمر عنى أنه من أصول جرمانية، بل إن يهوذا الإسخريوطي رسم بشعر أحمر! وهل ننسى أن المرأة ذات الشعر الأحمر اللون، عُدّت في أوروبا من الساحرات وكن يحرقن أحياءً؟
أكثر من ذلك، يخبرنا الكاتب بأن أحجار لعبة الشطرنج في أوروبا كانت بيضاء وحمراء، ولم يستبدل الأسود بالأخير إلا في فترة متأخرة.
كما نعلم من المؤلف أن بعض الدول الأوروبية فرضت في الماضي شروطاً على اللباس وأشكاله وألوانه. هكذا، منع البعض من ارتداء ملابس وأزياء تعدّ من احتكار الأثرياء والسادة. كما فرضت ملابس محددة على مختلف أصحاب المهن، إضافة إلى فرضها على المسلمين وغيرهم، وفرضت عقوبات شديدة على المخالفين بما في ذلك الطرد من الكنيسة.
هذه المراسيم يراها المرء في مختلف اللوحات الزيتية التي تعود إلى تلك العهود، ونعني بالتحديد فترة «الإصلاح البروتستانتي»، اللوثري والكلفيني، حين ميز الفنانون بين مختلف شرائح المجتمع وطبقاته عبر الزي وألوان الملابس. ويمكن مقارنة أعمال الفنان رمبردنت بمعاصريه في مجتمعات أوروبية أُخرى.
ننتقل الآن في عرضنا المكثف هذا، الذي نركز فيه على بعض جوانب المؤلف، إلى تاريخ اللون في العصور الحديثة، بدءاً من الثورة الفرنسية، الدموية بكل ما في الكلمة من معنى. اللون الأحمر كان رمز تلك الثورة وشعارها. وبذلك استحال لون اليسار والقوى الثورية، وهو ما يمكن رؤيته في ملصقات انتفاضة الطلاب والعمال في فرنسا عام 68. لكن اللون الأحمر كان قد انتشر قبل ذلك إبان حرب الاستقلال أو الانفصال الأميركية، المسماة الحرب الأهلية. وانتشر اعتمار قبعة تعرف باسم bonnet rouge في تلك السنوات. يؤكد الكاتب أنّ لا الثورة الفرنسية ولا الأميركية ابتدعت أي رموز خاصة، ذلك أن المراجع التاريخية تؤكد أن شعاراتهما تعود إلى مؤلف iconologia الذي صدر عام 1593، وترجم إلى كافة لغات أوروبا.
أما في أوروبا القرن التاسع عشر، فقد أضحى رمز اللهو الجنسي وأحياء الدعارة (انظر المصور 2).
في العصور الحالية، فاللون الأحمر له استخدامات كثيرة، ومتعددة المعاني. فنحن نتحدث عن «خطوط حمراء»، و«الغرف الحمراء»، و«الليالي الحمراء»، وما إلى ذلك، وكل من هذه التعبيرات تعكس معنى مختلفاً، دوماً وفق الكاتب.
لكن اللون الأحمر يستعمل أيضاً في رموز جمعيات وهيئات إنسانية ومنها الصليب الأحمر.
واللون الأحمر يعني أيضاً أموراً خطرة وتعليمات، ومن ذلك في أنظمة المرور الدولية مثل إشارة «ممنوع الدخول»، و«ممنوع التوقف»، و«ممنوع الانعطاف» ميمنة أو ميسرة...
لكن اللون الأحمر له استعمالات إيجابية أيضاً، وفي مقدمها يأتي لباس «بابا نويل» ذو المعطف الأحمر والقبعة الحمراء. يؤكد الكاتب عدم صحة الرأي السائد حالياً الذي يعيد لون لباسه إلى دعاية شركة «كوكاكولا» التي ظهرت في ثلاثينيات القرن الماضي. ذلك أن الرسوم القديمة تعيده إلى قرون قبل عصرنا الحالي، علماً بأنه كان يحتفل به في السادس من شهر كانون الأول (ديسمبر) حيث يحظى الأطفال بالهدايا، وهو اليوم المكرس للقديس نقولا حامي الأطفال الذي صوِّر وهو يرتدي تاجاً وبدلة حمراء. أما بابا نويل فهو وريثه. يؤكد الكاتب أن التقليد الوثني الخاضع للإملاءات التجارية هو من ربط ذلك اليوم بعيد الميلاد.
اللون الأحمر يستعمل في أيامنا لإثارة الانتباه: على سبيل المثال، سعر بضاعة ما مسجل على خلفية حمراء يعني «عرضاً خاصاً». أما النقطة الحمراء على علامة البضاعة، فتعني شروط بيع محددة، واسم المشروب الكحولي red label، فالمقصود به تأكيد أنه أكثر جودة من مثيله black label. لكن اللون الأزرق يحظى حالياً بمكانة أعلى من الأحمر في الحضارة الغربية، لذا نجد أن المشروب blue label ذو مكانة أعلى من غيره.
كما بيّنت دراسات أن الرجال يفضلون اللون الأحمر لملابس المرأة الداخلية على الأبيض أو الأسود.
ومن غير الممكن نسيان أننا نستعمل اللون الأحمر لتصويب الدفاتر المدرسية وأوراق الامتحانات للتلاميذ والطلاب. ختاماً، عرضنا المختصر هذا لا يفي هذا المؤلف المثير حقه. ذلك أنّ المرء في حاجة إلى أن يرى كافة اللوحات التي ألحقها الكاتب بالنص، وذيلها بالشروح المفيدة.
"الاخبار اللبنانية"