الـ «فيس بوك» يغتال فرحة نشر الشعر في المنابر
ليس من المستغرب أن ما يُفرح الإنسان عموماً، ومعشر المبدعين خصوصاً وفي مقدمتهم الشعراء، أن تتغيّر بهجة النشر، سواء بسبب ظروف الحرب أو في منأى عنها، فكيف في ظل سطوتها؟! لقد كتب الشاعر ميلاد ديب على صفحته يترحم على فرحه بنشر أول قصيدة وأشار إلى أن نشر الشعر في هذه الأيام لم يعد يعني له شيئاً! السؤال يبدو شهياً للتناول وقد حاولنا هنا ملامسة الاحتمالات عبر إجابات الشعراء: بسمة شيخو، محمد خير داغستاني، سوسن الحجة، خالد الدرويش، وكان السؤال: هل لا يزال نشر قصيدة في أي منبر إعلامي يبهجكم كما أول مرة نشرتم فيها؟ وكيف تجلت بهجتكم أول مرة؟ وإن كانت البهجة قد خفتت فما الأسباب؟ وهل تكتفون اليوم بما تنشرونه على صفحات الجدار الأزرق؟ بمعنى هل يعوض لكم ذلك عما تبحثون عنه؟
أفراح صغيرة
تحاول الشاعرة «بسمة شيخو» استرداد فرحتها الأولى بنشر قصيدة في منبرٍ إعلامي، إلاّ أن الخيبات المتعلقة بانتمائها لهذا الزمن حالت دون ذلك، فهي وفق ما تقول «جزء من جيلٍ لم يعرف الفرح بالتفاصيل البسيطة، جيل السرعة والتقانة والعوالم الافتراضية، هذا الجيل الذي لطالما حرم من أفراحٍ صغيرة، فلم يذب في انتظار رسالة ورقية، ولم يشتعل فؤاده شوقاً لرؤية وجه مسافر بعد غياب طويل، ولم يفرح بالنشر في صحيفة لأول مرة!». بسمة لا تتذكر متى نشرت قصيدتها الأولى، ولا أين، ولا حتى أيّ قصيدةٍ كانت، ولا تعرف إن كانت قد فرحت حينها بالنشر أيضاً، وإلى الآن الأمر لا يفرحها مهما أغراها المحرر بأهمية الصحيفة وبعدد المتابعين لها في العالم، فهي كما تقول «غالباً ما أنشر بناءً على طلبٍ من المحررين والمسؤولين عن الصفحات الثقافية»؛ لكن الذي يحدث أن والدها، الذي خبر هذه الأفراح جميعاً، هو «من يلاحق قصائدي المنشورة في الصحف ويحفظها لديه. ومن عينيه فقط عرفت هذه الفرحة التي تسأل عنها، أما أنا فأبتسم فقط».
زوال الغشاوة
الشاعر محمد خير داغستاني يُقرّ أن البهجة بنشر قصيدة، لم تعد حاضرة كما كانت. وهو يرى أن «بدايات النشر لقصائده في صحف البعث والكفاح العربي والأسبوع الأدبي والموقف الأدبي، أو وقوفه على منابر المراكز الثقافية وغيرها، كانت تثير فيه حالة مميزة من البهجة». يوصّفها قائلاً: «كنت أمتلئ وهماً أنني سأكون اسماً مهماً في عالم الشعر يحقق المجدين العام بالنسبة لرسالة الشاعر والخاص بالنسبة للمطمح الشخصي والاحترام المشروع للذات واللغة الخاصة بي. بمرور الوقت زالت الغشاوات. لا استمرار _ في كل المنابر _ إلا لمن يتقن الالتفاف. و لا أحد ولا اسم _ ممن كنت أتوهم أنهم مهمون أو كبار _ يهتم للشعر والشاعر إلا بمحسوبيات».
البهجة البكر
من جهته يقول الشاعر خالد الدرويش: «لعل البهجة البكر وأنت على مقاعد الصف الأول الثانوي، ونشر قصيدة في كبرى الصحف الرسمية له وقع خاص حينها، ما زلت أذكر عندما نشرت قصيدتي الأولى اشتريت نسختين إضافيتين من عدد الصحيفة، وقرأت القصيدة لأمي وأدمعت عينها. لكن على المقلب الآخر كنت مشاكساً مع أستاذ اللغة العربية الذي قرأت له القصيدة قبل أسبوعين من نشرها فاستهزأ بي وبقصيدتي، وعندما قلت له هذه قصيدة جديدة لي وقد نشرتها في هذه الصحيفة، فكان الإطراء والمديح أمام زملائي، وبعد قراءتها في الحصة، قلت له: لقد وبختني يا أستاذ منذ أسبوعين وهذه القصيدة نفسها، في هذه اللحظة كنت أشتغل على قصيدة لا تشبه قصائد أحد». يعتقد الدرويش أن الشاعر يفرح دائماً بولادة قصيدته ويحتفي بها بالنشر، كما أول مرة، كما يعتقد أن اللقاء المباشر مع الجمهور في المراكز الثقافية أو أي منبر آخر يولد فرحاً أكبر من النشر في كثير من الأحايين.
يوم الفرح لا ينسى
المسألة مختلفة جداً عند الشاعرة سوسن الحجة إذ تقول: أنا لم أسع للنشر في أي منبر إعلامي، وكل ما أهتم به أن أقدّم مادة أدبية تصلح للقراءة والتأمل ضمن كتاب. ولذلك سعيت لإصدار نتاجي الأدبي دفعة واحدة، على الرغم من أنه ربما لم يحصل عليه سوى أقليّة، أما لماذا فعلت ذلك فلإيماني أن الجرائد والمجلات التي تنشر النصوص الشعرية، لا تقرأ. ولا أكترث كثيراً بمسألة انتشار الاسم أو الشهرة لأن من يفعل ذلك من دون أن يهتم بما يقدّم من نتاج أدبي، قد لا يصمد نتاجه مع مرور الزمن. وطبعاً لا تفوتني الإشارة إلى مسألة الشللية في ترويج أسماء ونتاجها دون غيرها، لكنني أعتقد أيضاً أن الزمن كفيل بفضحهم وكشف هشاشة نصوصهم. لكن ما سبق لا يعني أنني لم أبتهج بنشر ديواني من خلال حفل توقيع، وإن تزامن مع صدوره نشر أول قصيدة لي في موقع إلكتروني.
فرصتك صوتك
أمّا ما الذي يمنحهم نشر الشعر في الـ (فيسبوك) فيقول الشاعر الدرويش: الـ (فيسبوك) يعطيك فرصة لقراءة قصيدتك من قبل عدد أكبر من قرّاء الصحف، ويحصل أن يكون لك أصدقاء من النقاد الذين كنت تقرأ لهم في الصحف، وتتابع كتبهم النقدية فيما سبق من أعوام، من كل العالم العربي وحتى الشعراء من كل أقاصي هذا العالم، ويتفاعلون مع قصيدتك سلباً أو إيجاباً. وهي فرصة ليكون لك صوتك وقصيدتك، التي لا تشبه قصيدة أحد. وهنا يستطيع المتلقي على صفحات الجدار الأزرق متابعتك ويتفاعل مع ما تنشر ويميزك عن الآخرين. لكن وعلى الرغم من ذلك مازلت أنشر في الصحف داخل سورية وإن على مضض، بسبب إحجام بعض الصحف في فترة الحرب عن الطباعة الورقية لضائقتها المالية كما أعلم.
إغناء ورداءة
العالم الأزرق بالنسبة لبسمة شيخو: يغنيني عن المنابر والصحف، لديّ هناك آلاف الأصدقاء والمتابعين من الأدباء والمثقفين والمهتمين بالأدب والفن (خيرة من يقرأ لك) من كلّ أنحاء العالم العربي أيضاً، فما أن أنشر قصيدة على الفيسبوك، حتى تتناقلها بعض المواقع الالكترونية المتنوعة من السودان، الجزائر، مصر، تونس، فلسطين… والتي لولا الـ (فيسبوك) لما استطعت معرفتها أو التواصل معها. الإشكالية الوحيدة هي إذاً ليست أمام الكاتب الذي يهمه الانتشار والشهرة ربما، وأيهما يفضّل، إنما هي أمام المتلقي الذي أصبح مضطراً لأن يتحمل الرداءة التي تنشر وتلحق بالأدب، ففي الـ (فيسبوك) تستطيع أن تزدري كلّ الشروط والضوابط الفنية والأدبية والجمالية في المنابر الإعلامية وتصنع منبراً خاصاً بك تنشر ما يحلو لك ليكون متاحاً أمام الجميع، وتحقق شهرة واسعة وتحطّم جماليات الذوق العام ولذلك أمثلة كثيرة ستبرق في بال كلّ من يقرأ الآن.
الاكتفاء بالصمت
لكن سوسن الحجة ترى أن الجدار الأزرق للأسف يساهم في نشر الرديء وتلميع الأسماء، وهذا ما كتبته على جدارها – وفق قولها: (أحمّل الفيس بوك تشويه الذائقة الأدبية بالتصفيق للرديء، أما الممتلئ بذاته فلا يسعى إلى تصفيق أحد.. يكتفي بالصمت والتأمل إلى الداخل الغائر في البعد الأشهى للذات). ولأن تجربتها مختلفة، وكذلك فرحتها لأنها نشرت كتاباتها دفعة واحدة في ديوان، يعد مولودها الأدبي الأول، تقول: كلنا يعرف ما الفرح الذي ينتابنا عند ولادته. وكانت سعادتي بإصداره تصلني برسالة من صديق تحمل عبارة من نتاجي، من روحي. فأن تصلك خلاصة روحك في عبارة، تنسى أنك كاتبها، تقول: إنها جميلة، أو سبق لي أن عرفتها في مكان ما، أو أن تقول لك صديقة قرأته مرات، وصديقة أخرى تقول لأمها يكفي لن تمتحنك سوسن به. فذلك فرحة كبرى. ولأن الفرحة كلها في التجربة الأولى، تختبر ذاتك، قوة كلمتك، تماماً كالمولود الأول الذي يهبك صفة الأبوة، أما ديواني الثاني فأتهيب إصداره، لأنه يجب أن أحقق حضوراً مختلفاً، والاختلاف هو الجوهر، وإن حققت هذا ربما ستكون فرحة بإطار جديد أنك تنجح أو تراكم نجاحك، فالنجاح فعل تراكمي. وأتمنى بعد أن أنشر ديواني الثاني ألا أقول بتأنيب، لماذا نشرته؟
ألق البهجة
لكن هل جاءت الشاشة الزرقاء لتعيد ذاك الوهج الذي خفت لبهجة النشر؟ في رأي الشاعر داغستاني نعم، ويزيد من ألقها التفاعل المباشر مع (القارئ) ولتنفخ الرماد عن جمرة الشعر التي لا تزال تتقد. بخاصة أنها تزامنت مع ظروف الحرب بجميع مخلفاتها في النفس. ويستدرك داغستاني بالقول: «لكن ما لبثت تلك البهجة أن راحت تذوب ..تذوب كشمعة يكاد خيطها أن يحترق تماماً. حتى زملاء الشعر، قدامى وجدداً، انكفؤوا عن التفاعل معي؛ منهم لأنه صار يحمل اتجاهاً سياسياً ما وغادر البلد، ومنهم لا أعرف ما يحصل معهم، وهم هنا، برأيين سياسيين متعارضين. باختصار أشعر أنهم تركوني وحيداً في زاوية نفسي لأكتب وأنزف وأتغزل وأفرح وأحزن، على الشاشة الزرقاء، من دون أدنى محاولة للإشارة إلي أنهم معي، استعضت عن هذا الجمهور الأدبي الذي يدّعي الأهمية _ من شعراء ونقاد _ بجمهور آخر حقيقي وأهم». فأغلب قراء قصيدة داغستاني اليوم، كما يقول «ليسوا شعراء ولا نقاد ولا كتاب، إنهم حقيقيون أكثر، ومحبون، وصادقون، لا ذرة زيغ في محبتهم، ولا ادّعاء، ولو بسيط لديهم أنهم ينتظرون جديدي بكل لهفة. هم كثر وسيصبحون أكثر وأكثر».