“كتاب الموتى”… هكذا كان يخرج المصريون إلى النهار
منذ بداية التاريخ، سعى الإنسان إلى الوصول إلى إجابات عن أسئلته الفطرية بشأن الطبيعة والموت والبعث. كل الآثار تدل على ما اختزنته الحضارات القديمة من اعتقادات، ومنها الحضارة المصرية حتى نزول الأديان السماوية الثلاثة. فقد عرف المصريون القدماء ما يسمى “كتاب الموتى”، وهو أقدم كتاب يتضمن تعاويذ وإرشادات ظهرت فصوله ابتداءً من عصر الدولة الفرعونية الحديثة حتى سقوط الأسرة الــ 26، ولا تزال نسخة منه محفوظة في المتحف البريطاني. الكتاب الذي منحه المترجمون الغربيون اسم “كتاب الموتى”، أطلق على نصوصه في البداية اسم “إنجيل المصريين”، إلا أنّ اسمه الأصلي هو “الخروج إلى النهار”، حيث كان لسان الراحل في أرض مصر القديمة يقول في الكتاب: “بالأمس أنجزت حياتي واليوم أعود في النهار”. يتضمن الكتاب نحو 200 ترنيمة للآلهة كُتبت على ورق البرديّ، وتعاويذ سحرية كانت تُنقش على جدران المقابر أو على التوابيت، وقد حرص المصريون قديماً على تكليف كهنة التحنيط والدفن إعداد “كتاب الموتى” الخاص بهم، بحيث يذكر فيه اسم الشخص واسما والده ووالدته ووظيفته في الدنيا، وذلك استعداداً ليوم وفاته، وإعداد طقوس نقله إلى مقبرته. لم يكن متاحاً لكل المصريين الحصول على هذا الكتاب بسبب تكلفته العالية، ولذلك اختصت به طبقة معينة من النبلاء والموظفين وخدّام الآلهة في المعبد. ويبدو أن أسطورة إيزيس وأوزوريس كان لها أثرها في “كتاب الموتى”، إذ استمرت حاضرة في وعي ووجدان المصريين لآلاف السنين، فأخذ الكتاب شرعيته الروحية والفلسفية منها. فأوزوريس الذي آمن به أهل مصر عاش على الأرض ومات ميتة قاسية، ثم قام من بين الأموات. ومذ ذاك مثّل رمزاً للأبدية بعد مقتله على يد شقيقه ست (رمز الشر والظلم) الذي مزقه الى أشلاء، في حين بقيت حبيبته وزوجته إيزيس تجمع أشلاءه لسنوات الى أن بعث من جديد. وتضم النصوص تعاويذ وتمائم وأناشيد وطقوساً ودعوات، كما تضم السيرة الذاتية للمتوفَّى والرسائل المرسلة إليه من ذويه، وكل الهدف ألّا يشعر بالغربة والعزلة، وأن يتمكّن من تخطي العقبات والمخاطر التي ستصادف روحه أثناء رحلته إلى الأبدية، فتدله على الوسائل التي يتعين عليه اتباعها ليتمم رحلته بنجاح. لقد أظهرت برديات “كتاب الموتى” أو “الخروج إلى النهار”، أن قدماء المصريين قد آمنوا بالبعث والحياة بعد الموت، وكذلك الثواب والعقاب، والجنة والجحيم، وهذا ورد بالتفصيل في بردية حونفر*. كما صوّر الكتاب المخلوقات المخيفة التي تتولّى تعذيب الميت، ومحاسبته، ووزن قلبه في المحاكمة، أمام مجلس الإله أوزوريس (والد فرعون)، وهي اللحظة الحاسمة في يوم الحساب. ففي حال اجتيازه بنجاح، يصبح الميت واحداً من الأموات المباركين، والقلب هنا، هو رمز لذكاء الميت وعواطفه وعقله، وهو المكان الذي يحوي جوهر أعماله. وقد قدّس المصريون القدماء القلب، وحرصوا عليه، ففي أثناء عملية الدفن، كانوا يفرغون الجسد من كل الأعضاء، حتى الدماغ، إذ لم يعن لهم شيئاً، باستثناء القلب. فقد عملوا على حمايته باستخدام وصايا منقوشة على خنفساء ـ والخنفساء عندهم تعد رمزاً للشمس – وتوضع على قلب الميت عند دفنه: لم أكذب، لم أسرق، لم أغش، وقلبي طيب وبريء. وحالما يجتاز الميت اختبار القلب يؤذَن له بالدخول إلى الفردوس، إلى حقل القصب المبارك. يبيّن لنا “كتاب الموتى” لدى قدماء المصريين العقائد الدينية التي كانت تشغلهم طوال حياتهم. فقد كانوا ينظرون إلى الموت بوصفه جزءاً لا يتجزأ من الحياة ومكملاً لها. فيستعدون للموت كما يتعيّن عليهم ليعبروا نحو الحياة الأبدية، حيث لا أمراض ولا تعب ولا شيخوخة، بل ويكون واحدهم رفيقاً للآلهة يأكل ويشرب معها في بعض المناسبات. وهنا، نورد دعاءً دُوّن على إحدى برديات الكتاب حيث يدافع به الميّت عن نفسه: “السلام عليك أيها الإله الأعظم إله الحق. لقد جئتك ياإلهي خاضعاً لأشهد جلالك، جئتك يا إلهي متحلياً بالحق، متخلياً عن الباطل، فلم أظلم أحداً ولم أسلك سبيل الضالين، لم أحنث في يمين ولم تضلني الشهوة فتمتد عيني لزوجة أحد من رحمي ولم تمتد يدي لمال غيري. لم أقل كذباً ولم أكن لك عصياً، ولم أسع في الإيقاع بعبد عند سيده. إني ياإلهي لم أجع ولم أبك أحداً، وما قتلت وما غدرت، بل وما كنت محرضاً على قتل، إني لم أسرق من المعابد خبزها ولم أرتكب الفحشاء ولم أدنّس شيئاً مقدساً، ولم أغتصب مالاً حراماً ولم أنتهك حرمة الأموات. إني لم أبع قمحاً بثمن فاحش ولم أطفف الكيل. أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر. وما دمت بريئاً من الإثم، فاجعلني يا إلهي من الفائزين”. *بردية حونفر (Papyrus of Hunefer)، تخص الكاتب الخاص للفرعون سيتي الأول وكان اسمه حونفر، ويعتقد أن البردية تعود إلى العام1300 قبل الميلاد، وهي موضوعة حالياً في المتحف البريطاني. المصدر : الميادين نت