الطربوش بين الخوري وكفتارو وحسني الزعيم
شمس الدين العجلاني
هو سياسي ومفكر ووطني سوري صاحب نكتة وسرعة بديهة، عيناه تشعان نوراً وذكاءً، ولد في عام 1873م في قرية الكفيْر (كفير حاصبيا) اللبنانية وتوفي عام 1962 في مستشفى السادات بدمشق، عاش في دمشق وارتقى فيها إلى عدة مناصب سياسية مهمة، فكان نقيباً للمحامين وأستاذاً في معهد الحقوق العربي ثم وزيراً ورئيس وزراء ورئيساً للمجلس النيابي في بلد هو الأول والأعرق في الحياة البرلمانية، إنه فارس الخوري.
كان فارس الخوري صاحب رأس كبير الحجم، لذلك كان طربوشه كبير الحجم ويختلف عن أمثاله من طرابيش الرجال في ذاك الزمان، وهذا ما سبب له الكثير من المواقف الطريفة التي كان بدعابته يضفي على الطرافة نكهة ولوناً فيرسم الابتسامة على شفاه الآخرين. كان طربوشه موضع قصص وحكايا لا تخلو من الطرافة وتعبق بالشأن السياسي.
لو درت الدنيا كلها لما وجدت رأساً كرأسي
يروي الكاتب والصحفي عادل أبو شنب قصة طريفة عن رأس فارس الخوري وطربوشه الكبير في كتابه «شوام ظرفاء» حيث يقول: (مرّ فارس الخوري بأحد أسواق دمشق فرأى طربوشاً يناسب رأسه فجربه وسأل عن ثمنه فوضع البائع رقماً كبيراً، ولعله رفع الثمن لندرة وجود طربوش يستوعب رأس زبونه، لكن الخوري استغلاه وهمّ بالانصراف، فقال له البائع اسمع يا فارس بيك لو درت الدنيا كلها من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها لما وجدت طربوشاً كهذا يناسب رأسك «المبجبج» ما شاء اللـه، فردَّ السياسي السوري البارز فارس الخوري في الحال: اسمع يا أخانا أنت أيضاً لو درت الدنيا كلها لما وجدت رأساً كرأسي يجيء طربوشك عليه «حفر وتنزيل» ويُقال إن الخوري أخذ الطربوش برأسماله).
بينما يروي الحادثة نفسها الكاتب اللبناني «سلام الراسي» في كتابه «لئلا تضيع» أن هذه الواقعة قد حدثت بمصر. وهنالك من يقول إن هذه الحكاية مع فارس الخوري حصلت في إحدى أسواق حيفا.
ويحكى أيضاً عن طربوش فارس الخوري، أنه حين عاد فارس الخوري إلى دمشق بعد أن انتهت مهمته في مجلس الأمن في نهاية 1948 وفي صباح10 كانون الثاني من عام 1949م، زحفت الجماهير الشعبية إلى مطار المزة فكانت الشوارع والطرقات والشرفات مزدانة بالأعلام في استقبال العائد الكبير وعلى رأسهم رئيس الجمهورية شكري القوتلي ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء خالد العظم والنواب وأهل الرأي والمكانة العلمية والثقافة والاقتصاد. ومن طريف ما يذكر أن فارس الخوري كان قد أوصى ابنه سهيلاً في رسالة بعثها له أن يحضر له طربوشه، إلا أن سهيلاً كان قد نسي فما كان من الشيخ بهجت البيطار علامة الشام الكبير إلا أن رفع عمامته بكلتا يديه ووضعها على رأس العائد الكبير بين موجات الهتاف والتصفيق، ثم ركب إلى يسار القوتلي طوال الطريق إلى القصر الجمهوري وبعدها توجه إلى منزله.
حسني الزعيم والطربوش
ولد حسني الزعيم في حلب عام 1897م وهو قائد أول انقلاب عسكري في سورية، والرئيس السوري لمدة 137 يوماً فقط، والذي أُعدم بعدها في منطقة المزة في صباح يوم 30 آذار من عام 1949م رمياً بالرصاص بأمر من سامي الحناوي الذي كان من أعز أصدقائه، حفلت فترة حكمه بالعديد من التصرفات النادرة والمضحكة في آن واحد، ومن نوادره أنه أصدر مرسوماً جمهورياً منع بموجبه الموظفين والمستخدمين لدى الحكومة من ارتداء الطربوش، على حين كان قد أصدر السلطان العثماني سليمان القانوني فرماناً (مرسوماً) بتعميم ارتداء الطربوش في دوائر ومكاتب الجهات الرسمية العثمانية.
ويذكر أن حسني الزعيم كان مهتماً بمظهره ومهتماً بمظهر المواطن أسوة بما تم في تركيا خلال عهد مصطفى كمال (أتاتورك) وتأثر حسني الزعيم بقانون «القيافة» الذي أصدره كمال أتاتورك عام 1926م ومنع بموجبه لباس الطربوش في الأراضي التركية، وكان حسني الزعيم يرفض اعتمار الطربوش خلافاً للتقليد المتبع لدى كبار سياسيي سورية كرؤساء الجمهورية والوزراء والنواب والأعيان آنذاك، وعزم حسني الزعيم على توحيد اللباس في سورية وإلغاء الطربوش نهائياً فكان أن وضع مشروعاً لتوحيد اللباس، وإلغاء الطربوش، وأمر ذات مرة الشرطة والدرك بمعاقبة كل من يظهر في الشارع مرتدياً البيجاما قبل أن يصدر مرسوماً بذلك.
حفلت فترة حكم حسني الزعيم لسورية بالعديد من التصرفات النادرة والمضحكة في آن واحد، ومن نوادره أنه أصدر مرسوماً جمهورياً منع بموجبه الموظفين والمستخدمين لدى الحكومة من ارتداء الطربوش، ثم ألحقه بمرسوم آخر منع بموجبه الخروج من المنزل بلباس البيجاما.
وبعد نهاية حكم حسني الزعيم ألغى الرئيس هاشم الأتاسي مرسومي الطرابيش والبيجاما، ولكن انقلاب أديب الشيشكلي أعاد العمل بمرسوم البيجاما ولم يعد العمل بمرسوم الطربوش.
كفتارو والزعيم والطربوش
ويروى أن الشيخ أحمد كفتارو وهو الشيخ أحمد بن الشيخ محمد أمين كفتارو المولود في دمشق عام 1912م، عالم ومرب، من مجددي الفكر الإسلامي، ورواد الصحوة والتقريب بين المذاهب. ذكر عن حسني الزعيم أنه كان إنساناً مستعجلاً ومتحمساً، وعندما استلم الحكم في سورية أراد علمنة البلاد على الطريقة الأتاتوركية بين ليلة وضحاها.. وكان كفتارو على صلة مع الزعيم، وكان أخو حسني الزعيم شيخاً معروفاً وعلى صداقة مع الشيخ كفتارو.
وعندما أمر الزعيم بمنع لباس الطربوش والاستعاضة عنه بالبرنيطة.. زاره كفتارو وحاوره بطريقة كوميدية وذكية، وبعد حديث ديني بسيط بدأ كفتارو يستنكر محاولة حسني الزعيم علمنة البلاد. «واستهجن» طلبه منع لباس الطربوش والإصرار على لبس البرنيطة. فقال له: السيد الرئيس، عندما يتم اكتشاف دواء جديد في الغرب تتم تجربته على الحيوانات بداية وبعد أن تتم التجارب عليه ويثبت نفعه يتم تعميم العلاج وطرحه بالسوق. هات لنا عدداً من الحمير ولنلبسها برنيطة.. ولنتركها فترة شهر أو شهرين.. فإن أصبحت هذه الحمير بعد شهرين ذكية وعاقلة.. فأنا معك، ولكن صدقني بعد شهرين لن يكون لدينا إلا حمار ببرنيطة أو…. خواجا حمار.
ويحكى
قصص كثيرة طريفة وذات دلالات سياسية حاكها الطربوش في تلك الأيام الماضيات ولم تزل إلى الآن تروى.. كان هذا الطربوش سيداً في مجتمعنا وكان له كل سبل البهاء والأناقة، فكان هنالك للطرابيش مكوجي خاص يهتم بأناقة الطربوش، فكان للرئيس السوري السابق هاشم الأتاسي «مكوجي» خاص لطربوشه في أحد أزقة حمص القديمة ويقال له الحاج «عبد الفتاح تربة دار»، وأن الحاج تربة دار بقي زمناً طويلاً يحتفظ بأدوات خاصة لتصنيع الطرابيش وكيها، ويحكى أيضاً عن أحد ظرفاء دمشق في مرحلة الستينيات من القرن العشرين، وعن أناقة طربوشه الأحمر القاني الذي اشتهر به، وكانوا يطلقون على هذا الظريف اسم «الملاك الأبيض»، ويجتمع الناس حوله يتجاذبون أطراف الحديث معه لخفة ظله وعذوبة حديثه.. تميز «الملاك الأبيض» ببذلته الناصعة البياض، وقفازاته البيضاء وحذائه الأبيض، وطربوشه الأحمر القاني الذي كان يربطه بمطاطة إلى رقبته للحفاظ عليه. ومن مشاهير زعماء سورية الذين لبسوا الطربوش الرئيس هاشم الأتاسي والزعيم سعد اللـه الجابري والرئيس شكري القوتلي والرئيس ناظم القدسي ورئيس الوزراء خالد العظم والزعيم الوطني فخري البارودي. كان الطربوش في حقبة ما سيد الأناقة في بلاد الشام وبعض المجتمعات العربية وكان ارتداؤه يعطي انطباعاً عن موقع الشخص ومكانته الاجتماعية والعلمية، إضافة إلى أنه يضفي جمالاً لرأس مرتديه وأحياناً يستر بعض عيوب رأس مرتديه.. ذهب الطربوش الذي كان سيد أناقة المجتمع آنذاك وبقيت قصصه وحكاياته.
الوطن