لاشكراً أدونيس
فرنسا: فراس عزيز ديب مع هدوء المعارك على الأرض بعد الانتصارات الكاسحة للجيش العربي السوري والحلفاء، وجمود الحراك السياسي الدولي بانتظارِ موعد الثاني عشر من الشهر الجاري ليتحدَّد رسمياً موقف الإدارة الأميركية من الاتفاق النووي مع إيران، فإن فرصةً لالتقاط الأنفاس تبدو متاحةً الآن، ليس فقط لتنظيف السلاح كما يفعل المقاتلون على الأرض لكن للالتفات لمواضيعَ لا تقلَّ أهميةً عن المسارين السابقين، تحديداً عندما نقرأ مقالاتٍ أو نتابع لقاءاتٍ تحرض فينا الرغبة لقول مالدينا، من مبدأ أن جميع من لديهم القدرة على تقديم الأفكار عليهم أن يساهمَوا بحجرٍ يلقونهُ في مياه الفكر الراكدة. لكن في الإطار العام لا يبدو أن الانطلاق لحل مشاكلنا الفكرية يتم بإلقاء هذا الحجر، فالحجارة غالباً لا تبدل شيئاً وقد يُعزى هذا لمشاكلَ تتعلق بمن يلقي الحجر، أو رغبته الجدية في تحريكِ هذهِ المياه التي لن ينتج عنها أكثرَ من مجردِ دوائر من أفكارٍ تطفو على السطح تتلاشى تلقائياً كلما اتسعت، وتكبر لأن حجم ما نعانيهِ من مشاكلَ أبعدَ من تلكَ الضفاف الوهمية التي تحيط بتلك المياه، الحل هو باصطناعِ غيومٍ من الأفكار تحلق فوق تلك المياه الراكدة، تلقي بخيراتها الفكرية عليها ساعةَ تهدأ تلك المياه كي لا تتحول لمياهٍ آسنة، ولتجعل هذا الصخب الفكري نهراً يصب في محيط التحرر الفكري، وهنا يبدو دور «النخب المثقفة»، لكن في هذا الشرق البائس تبدو تلك التي يطلقون عليها لقب نُخب كأنها جزءٌ من المشكلة وليس الحل، فكيفَ ذلك؟ من خلال ما جرى ويجري في هذا الشرقِ البائس، بدا واضحاً لدينا أن مصطلح النخب المثقفة يضم في طياته ثلاثة أصناف: الأول هي النخبُ المعلبة، واقعياً هي ليست نخباً، لكن هناك من استنخَبَها لتكونَ واجهةً يبثُّ عبرها ما يشاء من أفكارٍ وبروباغندا تمجد لانجازاته وتحول كل فشلٍ يتلقاه على أي صعيدٍ كان لانتصارٍ لا يدرك حيثياته إلا تلك النخب صاحبة النظرة الثاقبة، هم أشبهَ بالأبواق التي تصدح ليلَ نهارٍ بمسمياتٍ مختلفة قد تبدأ بلقب مفكر، وتنتهي بلقب باحث استراتيجي. من جهةٍ ثانية قد لا تكون فكرية أيضاً، لكنها تمتلكُ شعبيةً ما، هذا الأسلوب يوماً ما كان متبعاً في هذا الشرق البائس عندما كانوا يأتون مثلاً بالمطرب أو الممثل أياً كانت درجة ثقافتهِ وأخلاقياته ليقدموه كصورة عن الفكر والثقافة، وقد يمتد الأمر للاستثمار بالرياضيين وشعبيتهم الجارفة لأن هناك من تعمد الخلط بين «المثقڤ» و«النجم» تحديداً أن ليس كل نجمٍ مثقفاً بالضرورة، لكن الأهم هنا هو القاعدة الشعبية لا أكثر. نكاد نجزم أن هذه الطبقة من طفيلياتٍ وعلقاتٍ فكرية كانت ولا تزال هي الأخطر على الساحةِ الفكرية، ليس فقط لانتهازيتها واختصارها للحالةِ الفكرية في مجتمعاتٍ تغيبُ عنها ثقافةَ القراءة لتحل محلها الثقافة التلفزيونية الهدامة، لكن لأنها كانت السبب الأساسي في ذبح الصنف الثاني من المثقفين، فما هو؟ هذه الطبقة اختارت أن تطرح فكراً، لا أن تبيع موقفاً، هناك فرقٌ شاسع بين أن تكون صاحب موقف لست مكترثاً بالصدامات، وتاجر مواقف تقدمها حسب الطلب، هذه الطبقة جرى ولا يزال التعتيم عليها ومحاولةِ خنقها وكيل الاتهامات لها، هي لم تختر أن تأخذ دور المتفرج على كل ما جرى ويجري في هذا الشرق البائس من دمارٍ وخراب لكنها بالوقت ذاته رفضت أن تُرجع كل ذلك لفرضيةِ المؤامرة، لأن هذا الإرجاع بالنهاية هو قفز على حقائقَ كثيرة أهمها أن العدو ما كان لينجحَ لو لم يستفد من فشلنا وإخفاقنا في تحصينِ مجتمعاتنا من الداخل قبل رفع رايةَ المواجهة مع كل أشكال الاستعمار وتجلياته في الداخلِ والخارج، أهمها ترك الشعب لقمةً سائغة بين أنياب الحرب الإعلامية التي يتقنها عدونا وفشلنا فيها حتى الآن على الأقل، هؤلاء لم يستسلموا للعن الظلام بل كانوا ولايزالون يحاولون إشعال شموع التمرد على الأفكار المدجنة دون أن يكترثوا لبقائهم في الظل، هذه الطبقة لم تكن ضحيةً لمذبحِ تعويم «مثقفي السلطة» فحسب، لكنهم كذلك كانوا ضحيةً للطبقة الثالثة التي تمثل «الترف الثقافي» والخطاب النخبوي الذي غالباً ما يشير للمشاكل لكنه بالوقت ذاته يختصر الحلول برؤيته الفوقية فقط، و لعل من بينِ أكثرَ من يمثل هذه الطبقة الثالثة هو الأديب والشاعر السوري «أدونيس». منذ أن ضاعت مثلاً قصائد نزار قباني في متاهات البورصة الغنائية، وإصرار من تعاطوا مع أشعارهِ على مبدأ اختصارها بالحب والجسد، تساءلت: ترى ماذا لو كان الحب الذي عناه نزار هو الانتماء وجسد المرأة هو الوطن؟ ماذا لو تساءلنا من هي محبوبته التي ليس مسموحاً لأحد «أن يقترب من سور حديقتها» أو «فك ضفائرها»، هل هي فعلاً معشوقته أم «الحرية»؟ على هذا الأساس أعترف أني ومنذ مراهقتي العمرية لم أعد من هواة قراءة الشعر، أي إنني هنا وإن كان لا يعنيني التعاطي مع «أدونيس» الشاعر، فلست ناقداً لشعرٍ وشاعرٍ لديه محبون ومعجبون نحترمهم لكني بالوقت ذاته أعترف كما كثر أن انجازه الفلسفي والفكري في «الثابت والمتحول» هو أهم عملٍ فكري في القرن الماضي تناول وبجرأةٍ الصراع الذي يعانيهِ الإنسان العربي بين الرغبة في إعمال العقل والتفكير بفضاءٍ حر بعيداً عن الموروثات، وبين الخوف من تجاوز الخطوط الحمراء. لكن دور المثقف مهما علا شأنه لا يجب أن يكون آنياً أو مبهماً في الأزمات، لا يمكن لأي صاحب فكرٍ أن يقول إنه ليس جزءاً من الذي حصل ويحصل، هو ضد السلطة، لكنه بالوقت ذاته لا يستطيع أن يضع خلافه معها جانباً باعتبار أن المستهدف هو الوطن وليست السلطة، هو مع الثورة لكنه ليس مع ثورة كهذه، ليجعلنا نتساءل: ما الذي كان يتوقعه حامل لواء الحداثة في هذا الشرق البائس من ثوراتٍ قادها شيوخ الفتنة ونظّر لها فلاسفة الصهيونية على رأسهم بيرنارد ليفي، وباركتها أموال البيترودولار لتجني ثمارها «اسرائيل». هو قادر ببساطة أن يحول الانتماء لوطنٍ ما إلى رسالتين ليستا متطابقتين لكل من «النظام» و«المعارضة»، هل هناك ترَف ثقافي أكثر من هذا الذي يعيشه من هم مثل «أدونيس» في أبراجهم العاجية وعوالمهم الخاصة تحديداً تلك العوالم التي تبرر أي شيء بما فيها التطبيع الفكري لمجرد الحصول على الجوائز، أو التي جعلتهم يتوهمون أن ثورات مخملية كهذه ستنتج فصلاً للدين عن الدولة، عساهم يصفون حساباتهم مع أحقادهم الفكرية على كل من لا يتبعهم. في الخلاصة: إن دور المثقف والنخبة أن يستقرئ المستقبل نتيجة لتراكم خبراته وأفكاره، وأن يجري تقاطعاتٍ للأحداث قبل وقوعها ليس فقط ليبني موقفه الشخصي لكن لكي يعطي لمحبيه لمحةً ما بأنه ليس منفصلاً عن الواقع، إذ لا يمكن لمثقف أن يصر وبعد سنواتٍ سبع من الحرب على وطنٍ يحمل جنسيته أن يستهلك كل عبارات «اللاموقف» و«اللاعتراف» بوجهة النظر الخاطئة، مثقف كهذا لا يمكن له ببساطة أن يرمي حجراً في المياه الراكدة، لا شعرياً ولا سياسياً لأنه ببساطةٍ كان ولا يزال يرمي سهاماً لا تصيب إلا في هدفٍ يعي هو قبل غيره أنها لن تحقق حلم التغيير الموعود، ببساطة مثقف كهذا لن أقول له شكراً، بل سأقول له دعك في عوالمك الخاصة ودعنا ببساطة نعد ونكرر فيديو تلك العجوز السورية التي لا تدعي أنها «نخبة مثقفة» خرجت من الأسبوع الأول لتصرخ بمن حولها: (شباب كونوا إيد وحدة)، ترى هل كانت تمتلك من الرؤية ما لم يمتلكه هؤلاء النخب؟ هي كذلك هي ليست أزمة شعب، بل أزمة نخب، «لا شكراً أدونيس». الوطن