النور و التنوير.. رؤية المفتي العام للجمهوريةفي كتابه.. جمع الأمة و الابتعاد عن الخلاف و الاختلاف
النور و التنوير.. رؤية المفتي العام للجمهوريةفي كتابه.. جمع الأمة و الابتعاد عن الخلاف و الاختلاف
الخميس 26-04-2018
- نشر 7 سنة
- 950 قراءة
سيل من علم وأدب ومعرفة وفلسفة حياة حديث سماحة المفتي العام للجمهورية العربية السورية الشيخ الدكتور أحمد بدر الدين حسون، يعرج إلى الدين والروح معتمداً على معارف شتى تجعل هذه المعرفة الدينية أكثر التصاقاً بالإنسان وحياته، وهو الذي آمن بأن الشرائع جاءت لتجعل حياة الإنسان أفضل وأكثر سهولة والتصاقاً بغايات الوجود، وبأن الله جل في علاه أراد للإنسان الخير فخط له شريعة تهذب سلوكه، وترتب مفردات حياته، لذا لم يكن الإنسان إلا رسالة مقدسة تستمد قداستها من حملها لرسالة الشريعة، مهما تعددت هذه الشرائع.. وحين ادلهمت الخطوب ودارت الحرب في سورية اعتزل من اعتزل واعتكف من اعتكف، وغادر من غادر، وغدر من غدر، وما كان من سماحته إلا أن قرر أن التكليف لا يتغير بتغير الظروف والأحوال، فشد العزم واعتنى بالإنسان والوطن منذ اليوم الأول للحرب مستكملاً ما عزمه منذ كلّف بمهام الإفتاء في سورية، فما بدل وما غير وما تخلف من قبل ومن بعد.. في كل وسيلة إعلامية تحدث عن سورية وعمّا يجري، وعلى كل منبر دعا إلى الحفاظ على الوطن والهوية والإنسان. تحمل في سبيل ذلك ما تحمل، وهل هناك أقسى من أن يقدم نذره فلذة كبده (سارية) على مذبح الوطن وكرامته وحريته، فاحتفظ بالقلب المكلوم، وخرج مسامحاً مستبشراً بغد سوري مختلف؟ ولأن الحرب استمرت لسنوات، وكانت ساعية وآنية في تحولاتها، وانطلاقاً من إيمانه بمهمته السامية استمر سماحته في الإطلال والحديث المنافح عن سورية، وتجوّل في أصقاع سورية، والد شهيد يواسي أسر الشهداء، ويدفع إلى التمسك بسورية الهوية والحياة.. ولأن إطلالاته إشراق رسالة، ولقاءاته بالناس بلسم روح لأرواح تائقة للحب، فقد خضع سماحته لرأي محبيه وأسرته وأصدقائه، ووافق على جمع هذه النصوص التي تضم لقاءاته الإعلامية ولقاءاته مع الجماهير، وكلها موثقة بالوسيلة أو باللقاء الجماهيري، ونحا إلى العلم فقام بمراجعة النصوص وتحريرها وتخريج ما يحتاج إلى تخريج منها في مصادره الأولى، إضافة إلى تخريج آيات القرآن الكريم التي تجري على لسانه كما يتنفس ليكون ذلك بين أيدي طلاب الحقيقة والمعرفة، وقد قسم سماحته هذه النصوص إلى قسمين، الأول يحوي لقاءاته الإعلامية دون أن يغفل عن ذكر الوسيلة الإعلامية، والثاني يحوي لقاءاته بالناس وزياراته الداخلية والخارجية، وأغلبها في الداخل، ليشكل هذا الكتاب المعنون (في النور والتنوير) بقسميه وثيقة مهمة للأجيال في قراءة هذه الحرب ووجهة نظر سماحته فيما يجري سواء اتفق معه أم اختلف، لكنه يمثل رأياً أكثر من كونه يمثل جهة ما.
حب وانتماء
الكتاب بقسميه يضمّ لقاءات ومقابلات إعلامية وجماهيرية، وهي بجملتها كانت مع بداية الحرب على سورية، ولم يشأ سماحة المفتي أن يضفي عليها ألقاباً رنانة، ولم يدفع إلى عناوين دينية تسترعي انتباه العامة، أي لم يلعب على الوتر الديني العاطفي في قراءة أو تفسير أو تأويل أو تسامح أو ما شابه ذلك، وإن كان كل حرف في الكتاب ينضح بالحب والتسامح والفهم الحقيقي للنص القرآني ونص الحديث الشريف، ودرر الشعر والأدب، فكان العنوان الأساسي (النور والتنوير) وأزعم أن سماحته يريد هذا العنوان لكل ما سيصدر عن سماحته مستقبلاً، أمد الله في عمره، وكان العنوان الأساسي (لقاءات في واقع الأمة) و(لقاءات مع الجماهير) وفي كلا القسمين تركيز على الواقع الديني إيماناً من سماحته بدور عالم الدين بالأمة والجماهير عامة، وفي إهدائه توجه إلى سورية والشام زيادة في التأكيد على أن هذا الكتاب يحمل غايات إنسانية لا دعوية، حياتية لا دينية وحسب، وفي فكر سماحته تعلق مدهش بالإنسان، وبأن الشرائع جاءت لتجعل حياة الإنسان أرقى.. أما مقدمته فقد كانت مثار إعجابي وأنا ألتهم حروفها، فرأيت فيها السوري والعربي والمسلم والإنسان، فلم يقف على منبر وعظ ليفسر ويحدث ويطلب للناس الهداية، وإنما تحدث عن دواعي إعداد هذا الكتاب، الذي كان بجملته نتاج ذاكرة وعت القرآن والحديث والأدب، ونتاج إنسان أعطى الإنسان مكانته العليا التي يستحق، وأشار للقارئ بأن هذه الأحاديث واللقاءات كانت بسبب من مهمة الإفتاء التي ك لف بها ليقوم بها، فقام بها خير قيام، وهذا ما جعله مكتوياً بما جرى من حرب، ويدفع ثمن ذلك غالياً من خلال استشهاد سارية ابنه الغالي، وفي هذا التقديم يذكر بإيجاز محتوى الكتاب والدافع إلى نشرها في كتاب «الكتاب يضم نخبة من اللقاءات التي أجريت معي على بعض المنابر الإعلامية للحديث عن الحرب والإنسان والوطن، ولأتحدث عن الإيمان الصحيح ودوره في حقن الدماء، ولأبين الوطنية وقيمها التي تحفظ كرامتنا والشريعة وصراطها الذي يوصلنا إلى سعادة الدارين.. أرجو أن أوفق في إيصال كلمتي، التي أعتقد أنني سجلتها على صفحات وطني حباً ووفاء، وعلى صحيفتي التي أقدمها بين يدي الله إيماناً واعتقاداً، وكلي رجاء وإيمان أن تنكشف هذه الغمة عن سورية، وأن يظهر الله حقيقة الصادقين المخلصين، فكل سوري أهل لأن يعرف ويدافع عن وطنه ويفاخر به».
في التقديم كما في فكر سماحته نجد أن الغاية المباشرة الأولى الوطن والإنسان، لأن النتيجة كما يراها وكما أرادها الباري هي سعادة الإنسان بشريعة تنتظم حياته.
والناشر الدكتور نبيل طعمة يقدم بكلماته تخصنا فيقول: «مختار ظهر على الحياة، كنسائم باحثة للوصول إلى قيم الحق الواجب والعلم الشاسع الذي نهل منه.. آمن باتساع الكون، ولكي يحدث هذا حقيقة، دعا إلى توسعة مدارك العقل بالمعرفة والعلم، فكان بذلك متحرراً من الدين المسطور إلى رحاب الإيمان المنثور القادم من المحيط العالم مقنع الإنسان بالسعي لعلم العليم».
أما منهجه في الحياة، والحياة الدعوية، فقد ارتأى سماحته أن يثبت في بداية كتابه سيرة غير ذاتية بقلم أحد أصدقائه ومحبيه، وفي هذا تواضع نادر من قمة في العلم والشريعة والأدب والمكانة، فلم يشأ أن يستأثر بل كانت لديه نزعة الإيثار، ومما جاء في هذه القطعة «الشيخ الدكتور أحمد بدر الدين حسون شيخ ابن شيخ، وعالم ابن عالم، ومتصوف ابن متصوف، وله رأي مهم في التعليم الشرعي وآلياته، وما هو عليه، ويشارك في ذلك والده الجليل الذي ينتقد الشدة والقسوة في تقديم هذا الجانب المهم من الدين، فكان الراحل الجليل علامة وهداية في حياة سماحة المفتي وعلمه وعمله في الشأن العام.. وعلماً متجذراً نهل منه سماحته».
النوم على المجد
ضمّ القسم الأول لقاءاته الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية، وقد أثبتها سماحته دون تغيير وتبديل، فالرأي ثابت وله مسوغاته، لأنه ناتج عن معرفة عميقة وقراءة منطقية للتاريخ القريب والبعيد، ولا يرتكز إلى رؤية آنية بسيطة تنفعل في الحدث الذي يجري على أرض الواقع، وكان حواره مع جريدة «الوطن» السورية أول الأحاديث التي أثبتها، ولهذا الحديث حكاية مؤلمة، وذكرى استشهاد الغالي سارية، لكنه لم يشأ أن يغير فيه شيئاً، فقد كان سماحته في هذا اللقاء راغباً في تفصيل ما يجري بدقة، وقد أجري اللقاء معه يوم الثلاثاء، وتم تفريغه وتفريعه، واطلع عليه وهو في حلب في تلك الجمعة، ويوم الأحد نشر الجزء الأول من الحديث، وفي اليوم نفسه، يوم الأحد استهدف الشهيد سارية، وتواصل سماحته مع الوطن من غرفة العناية المركزة، وقال كلمة كانت مدار زاوية السيد رئيس التحرير الأستاذ وضاح عبد ربه في يوم الاثنين (سارية ليس أغلى من كل السوريين).
وفي اليوم الثاني، يوم ووري الشهيد سارية الثرى كان القسم الثاني من هذا الحديث الحدث والتاريخ على صفحات «الوطن» التي أخلصت لسماحته وفكره التنويري، كما أعطاها هو مكانتها في نفسه، وفي ذلك الحديث قال سماحته الكثير، ومما قاله وكان حقيقياً ومؤلماً «هذا ما كسبته أيدينا حينما جعلنا من الحكم رفاهية، ومن الدين بناء مساجد وبناء كنائس، ولم نبن الساجد والعابد، لم نبن الإنسان، إنما اتجهنا للتسابق في الساحات الفكرية والثقافية من غير أن يكون لها عمق وحدوي، بل زادت الرفاهية عندنا، فصرنا بدل أن نتوحد ننحاز إلى جماعات وإلى مذاهب وإلى فرق، وصار المذهب يقلب الدين والدين يغلب الرسالة التي أرادها الله للإنسانية، إن الدين خادم للإنسان، فنسينا الدين الخادم للإنسان ووضعنا الإنسان في أسفل المراحل، ووضعنا المذهب والجماعة في أعلى المراحل، فمزقنا الأمة وشتتناها! وجاء الدور ليستثمروا هذا التمزيق وهذا التشتيت، فعبثوا عن طريق الإعلام الذي أهملناه وجعلناه لليالي الشرق ولليالي الغناء والطرب، وهم يبيتون إعلاماً يأخذ الثقة منا في سنواته الأولى، ثم يدمرنا في سنواته التالية، كانوا يدرسون بدقة كيف أن مؤتمرات القمم العربية باتت تفرق ولا توحد، ومؤتمرات التقريب المذهبي والديني باتت مؤتمرات للتشتت المذهبي والديني، ولنكون في سوق عكاظ يعرض كل منا خلافه مع الآخر وليس اختلافه.. نمنا على أمجادنا ففقدنا حتى الوهج.. وهذا ما نعيشه اليوم».
إنه الفكر والمفكر، نحن أمام فكر متنور يعرف الداء ويشخصه، ويحدد الدواء لا يمنعه من ذلك أي نوع من أنواع المجاملة لسلطة دينية أو سياسية أو ثقافية، وفي هذا النص المقتطع حرفياً من حديثه نقف عند مجموعة من القضايا التي لا يحسن أن نمرّ عليها دون تمعن شديد:
1- الحكم الرفاهية، والسلطات السياسية العربية التي أرادت من الحكم رفاهية ذاتها.
2- اختلاف مهمة المؤسسات الدينية المسيحية والإسلامية، حيث اعتنت ببناء الحجارة وأهملت بناء الإنسان.
3- الإنسان غاية الحياة والشرائع لخدمته، وهو أعلى السلم فيها، وحوله رجال المؤسسة إلى أسفل الغايات.
4- شيوع المذاهب والجماعات على حساب الدين والشرائع، ليصبح في كثير من الأحيان، وعند كل المذاهب والجماعات ودون استثناء، رأي الجماعة أهم من رأي الشرع.. وفي أحسن الأحوال يصبح الشرع أهم من رسالته للإنسان.
5- الإعلام ودوره، غياب فعاليته لدينا، وثقتنا بالآخر لمرحلة قام بعدها بتدميرنا، وأظن أن قراءته الواعية للإعلام لم يتطرق إليها إعلامي، وكل القنوات التي أسهمت في سفك الدم السوري وما تزال تفعل كانت مقدمة لدينا، ومدللة حتى عند السلطة السياسية والتنفيذية، وأخذت منا اهتماماً يفوق اهتمامنا بإعلامنا وتطويره، واكتفينا بالإعلام المخدّر المصلحي، وإلى اليوم لم نصل إلى فهم صحيح لإعلامنا ودوره وتطويره.
6- التقريب بين المذاهب يقدم سماحته رأياً قوياً وحقيقياً وصادماً للكثيرين، فالتقريب ومؤتمراته ليست أكثر من لقاءات تزيد الفجوة، ولم تقدم شيئاً له قيمة تذكر، بل إن هذه المؤتمرات كانت سلبية يعنينا في هذا المقام أن عالماً من وزن سماحة المفتي، وهو رأس من رؤوس المؤسسة الدينية وقف مع المشكلات الكبرى في الممارسة الدينية، فهو قد شارك في مؤتمرات الشرائع، ومؤتمرات ولقاءات التقريب بين المذاهب والأديان، ولمس الخفايا التي قد لا يراها الآخرون، لذلك يأخذ كلامه في هذا المجال مصداقية لم تمنعه من قولها مصلحة أو مكانة أو نفع.
المكلوم ومدينته
في أكثر من لقاء مع الإعلام أو الجماهير أو الخاصة كانت دموع سماحة المفتي تهمي وهو يتذكر حلب وما حلّ بها، وأموييها وكيف طاله الدمار، ولكننا عندما نسمع أو نطالع نجد أن الأسس التي انطلق منها في تقدير الإنسان ورفع مستواه لم يتغير، فهو عندما يتحدث عن لوعته بحلب، لا تأخذه العواطف الدينية تجاه المسجد العظيم وتاريخه، وهو صنو أموي دمشق، وشقيق تاريخ المدينة، بل كان ذلك الحلبي الإنسان المكلوم بمدينة وإنسان، وها هو يستشهد بشعر لأحد أبناء حلب ويتابع:
ليس مني بل منك أنت العطاء
أنت سر الإبداع يا شهباء
أنت ألهمتني فبوح يراعي
ما يشاء الإلهام لا ما يشاء
فاكتمي السرّ لا تبوحي بشيء
عن عطائي فمنك أنت العطاء
أنت سرّ الإبداع يا شهباء، لذلك كنت في المسجد الأموي، وحينما رأيت ما فعلته جحافل الشر في هذا المسجد التاريخي الذي كان قبل ألفي سنة كنيسة وقبلها كان معبداً، يوم التقى المسلم السوري مع أخيه المسيح السوري وصلّوا في المسجد معاً، هذا المسجد لم يهدم إلا مرة واحدة يوم جاء التتار إلى حلب فأحرقوا المسجد الأموي وأحرقوا خاناتها وشوارعها وأسواقها.. حين رأيت ذلك تبينت أن عنوانهم هدم المساجد، وإسكات الأذان، وهدم المدارس، وتدمير المشافي، فليسمع العالم أننا عدنا إلى حلب، وبعد عام أو عامين أبشركم أنكم ستأتون إلى المسجد الأموي لتروه يزهو بأبنائه وجماله كما تركه الأجداد والآباء ليكون للأبناء والأحفاد.. ليس الأذان في المسجد الأموي فقط، بل ستسمع أذاننا وكنائسنا ومصانعنا، ستسمع صداها خلال أشهر، أما أذان الأموي فخلال أسبوع إن شاء الله فستسمعه».
هذا أنموذج من فكر الدكتور حسون والذي يشعّ من كل كلمة أو صفحة أو لقاء ولو أمعنا في قوله ابتداء من الاستشهاد الأول بالشعر، فإننا نقف عند موسوعية معرفته، وموشورية رؤيته، فحلب كما يراها الشاعر محمد كمال هي العطاء والإبداع، هي الملهم، وهي السرّ، وحين يتحدث عن حلب فإنه يسترجع تاريخها، فما حصل فيها في هذه الحرب لم يحصل إلا من خلال ما فعله التتار حين اجتاحوا حلب.. وفي كلا الاجتياحين لم يقف عند الأموي وهدمه إلا من خلال رمزية عدوان مدّعي الدين على المساجد بل جاء في حديثه عن الحياة في حلب، المساجد والكنائس والأسواق والخانات والشوارع.. وحين يبشر سماحته بالحياة القادمة فإنه يراها حياة الإنسان والمسجد والكنيسة مع صوت الحق المنطلق مباشرة من قلب الدمار.
الحياة القادمة والتفاؤل
لم يعرف سماحة المفتي اليأس يوماً بسورية والإنسان والحضارة، بل إنه يستمد من تاريخ البلد والإنسان روحاً من الصعب أن نجدها، ومنذ الأيام الأولى للحرب قرع ناقوس الخطر، وأوحى إلى المتورطين أن يكفوا عن تدمير بلدانهم، لأن الحال من الحرب على سورية لن تدوم وفي كل لقاء يعبر من خلال بسمته الروحانية عن هذا التفاؤل كلمة يلقيها «قد يظن الناس كثيراً أننا قادمون إلى زمان مظلم بعد هذه الدماء وبعد هذا العطاء، وأنا أقول العكس، نحن قادمون إلى زمن مضيء، نعم نحن قادمون إلى انتصار كبير ليعلم العالم أي أمة هي الأمة العربية، وأي أمة هي الأمة الإسلامية، الأمة العربية هي التي اختارها الله لتحتضن كل رسالات السماء.. ما يحدث مدرسة توقظ فينا التاريخ لنبني المستقبل. جاؤوا وسرقوا كتبنا ودمروا مساجدنا وأحرقوا كنائسنا وقتلوا أبناءنا ولكن ألا ترون بعد هجمات المغول والتتار والفرنجة حملناهم ثقافتنا، فحملوها ضياء لأرضهم ونوراً».
وهذه القراءة لا تعتمد حتمية التاريخ، وليست استسلامية كما قد يفعل كثيرون، فمدلول الكلام لا يعني أن يصمت الناس، وإنما هو دعوة للتفاؤل، وما في الشرق من نور وإشراق ورسالات أقوى من الحقب الظلامية التي قد تكسو مرحلة من المراحل، ولكن دعوة الدكتور حسون أكثر استناداً إلى المنطق والعقل، فهو يتحدث دوماً عن التجارب، وعن ضرورة الاستفادة من التجارب والاتعاظ، ولنقرأ دعوته المستندة إلى التاريخ والشريعة والمنطق «إن أمة تتعلم من تجاربها جيدة، وإن أمة تتعلم من غيرها أكثر جودة حتى لا تتذوق الآلام، فالله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم (ألم تر كيف فعل ربك بعاد) ليقول انظر إلى تاريخ الأمم وابنِ تاريخ أمتك يا محمد، وهنا أقول للمنغلقين عقلياً: افتحوا أنفسكم للثقافات العالمية، فدينكم لا يمنعكم أن تفعلوا ذلك، ففي كوبا لم يكن هناك إنجيل ولا قرآن، واستطاعوا أن يخرجوا من الذل حينما أرادوا أن يخرجوا منه، فكيف وأنتم عندكم قرآن وإنجيل وكنائس ومساجد تعطيكم طاقة ما بعدها طاقة، فلم الخوف؟».
وفي هذا الكلام دعوة للإفادة من تجارب التاريخ، سواء تلك التجارب التي عاشتها البشرية من قوم عاد، أم تلك التجارب التي مرّ بها الإسلام، وصولاً إلى الإفادة من تجارب الأمم الأخرى، وضرب لذلك في هذا الموقع مثالي كوبا وفيتنام، ليتحدث عن قدرة الإنسان والحضارة.
بين القلب والعقل
يركز الدكتور حسون دوماً على ضرورة فلسفة العقل والقلب، ويميز تمييزاً دقيقاً بين أسلوبي التفكير، ويحسن بنا أن نفهم هذا التمييز، لأن كثيرين يرفضون مفهوم العقل، ويرون أن الإيمان بالعقل يعني الرد والرفض، ويرون أن إيمان القلب هو التسليم، ولننظر إلى هذه الفلسفة الدقيقة «القلب ينبوع فياض، والعقل جهاز تسجيل، فحينما تأخذ علمك من عقلك يقول لك مازودتني به فسأعطيك إياه، أما حين تأخذ علمك من قلبك، فإن القلب ينبوع يأخذ من الحق، فقد قال تعالى (نزّله على قلبك بإذن الله) وتحدث عن القلب (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.. القلب سرّ الحياة… الصياغة للكلمة من عقلي ولساني، أما روح الكلمة فإنني إذا لم أؤمن بها لا أخرجها من فمي، والإيمان مركزه القلب، لذلك أي كلمة أريد أن أتحدث بها أشعر بشعوري بها قبل أن أطلقها…).
وما بين علاقة سرّية سريرية ما بين عقل وقلب يتوقف الدكتور حسون ليتحدث عن آلية التعامل مع الحياة والفكر في كل لحظة وخطوة، وعدم الركون إلى ما يقوله العقل من دون أن يكون منسرباً من القلب، والعقل طريق للمحاكمة والتعبير. وهذا ما جعله يقول في أحد مساجد ألمانيا ناهلاً من المصدر ذاته «السعادة هي نبعة في القلب تستقي من الإيمان عندما يكون عندك إيمان، هذه النبعة إذا فاضت في قلبك لو أسكناك في الصحراء حولتها إلى خضراء، ولو أسكناك في البحر جعلت فيه جزراً، السعادة حينما تنبع من قلبك يا أخي ومصدرها الإيمان، الوداد هو قمة المحبة، روح المحبة، الحياة الطيبة لا يعرفها إلا القليل من الناس، فالحياة الطيبة سعادة في قلبك تنبع، فإذا فاضت عليك أسعدت من حلوك وجعلت السعادة تصل إليهم، وإذا ذهبت السعادة من قلبك غاضت، لو اجتمع أهل الأرض ليعطوك سعادة تبقى مصاباً بالاكتئاب» السعادة والقلب والإيمان محاور فكر الدكتور حسون.
تحول الحياة إلى الجمال.. المحبة والمودة والحياة الطيبة
ندرة الناس الذين يعرفون حقيقة السعادة
السعادة والاكتئاب وما بينهما خيط رفيع
إنه العقل المتنور الذي ينهل من قلب مفتوح على المعرفة والإيمان.. إنه الإيمان الذي غادر منطق أكثر علمائنا فتحولت حياتنا إلى جحيم.
ولسورية وشهيدها
أما القسم الثاني من النور والتنوير، فقد حمل عنوان لقاءات مع الجماهير، ولم يأت على حديث وجداني وعاطفي، فالشهداء أبناء مجتمع وجماهير، وهذا ما حاول الدكتور حسون أن يؤكده في صفحات كتابه، والثاني منه على وجه التحديد، ولم يكتف سماحته بالحديث عن الشهادة ومفهومها، ولم يجلس للحديث عن الشهداء حديثاً عادياً إعلامياً، وخاصة أنه اكتوى وارتقى بمفهوم الشهادة حين دفع ابنه سارية من أجل الوطن، وكان شهيده من القوافل المبكرة التي صعدت في قائمة الشهداء، وسماحة المفتي منذ بداية الحرب على سورية، وقبل استشهاد سارية كان حريصاً على الوصول إلى كل مدينة وقرية، وإلى كل أم شهيد ووالد شهيد، لا ليقول لهم فقط، بل ليشاركهم، ويتفقد أحوالهم، والعمل على راحة أهل الشهيد بعد أن غادرنا في رحلته الأبدية إلى الخلود، ولم يتسم حديثه عن الشهيد ولأهله بالبكائية والرثاء بقدر ما كان من الفهم العميق للشهيد وأسرته ودور الشهيد العالي.
«أقول لأمهات الشهداء وآبائهم وزوجاتهم وأبنائهم، لا نستطيع أن نكافئكم على ما قدمتموه، ولكن جئنا لنقول: نحن في خدمتكم، سنخدمكم بما نستطيع، ومهما خدمناكم فلن نوفي حقكم، فالشهيد لا يوفيه حقه إلا من استشهد من أجله، وهو الله والوطن، فحب الوطن من الإيمان، وسورية- أيها الأبناء- هي أرض الإيمان…».
ويفند في الأسباب التي تدعو للعدوان، ويسجل ما قاله ويقوله يومياً، بأن ما يدعو للقتل هو نفسه الذي يدعو للحياة والحفاظ على الإنسان. لأنه موجود في كل واحد منا، ولو وعى كل منا حقيقة جوهره ما عرفنا القتل: «أنا مسلم في عقيدتي، عربي في مصحفي، عالمي في إنسانيتي، سني في قدوتي، شيعي في ولائي، سلفي في جذوري، صوفي في حبي ونقائي، سوري شامي في بركة ودعاء نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم».
وأختم بما قام به من زيارة إلى درعا في إطار المصالحة في مدينة الصنمين، لنقرأ أيّ عالم جليل هو سماحة المفتي «بأي قلب نناشدكم؟ بأي دموع الأمهات نقول: خافوا من الله؟ فقد قتلتم أهلكم، وأحرقتم أهلكم، ودمرتم بلدكم».
الوطن