هنا غطاء رأس ملكة العراق "بوابي" مطرزٌ بالذهب والعقيق.. لأول مرة الكشف عن 1200 قطعة أثرية من الشرق الأوسط في متحف أميركي
هنا غطاء رأس ملكة العراق "بوابي" مطرزٌ بالذهب والعقيق.. لأول مرة الكشف عن 1200 قطعة أثرية من الشرق الأوسط في متحف أميركي
الأحد 22-04-2018
- نشر 7 سنة
- 6268 قراءة
رحلة إلى ماضي بلاد ما بين النهرين تحاكي حواس البصر والسمع والشم. هذا ما يقدمه متحف أميركي، يكشف عن معروضات وكنوز من الشرق الأوسط يراها العالم لأول مرة. التحضير لافتتاح المعروضات استغرق ٣ أعوام وأكثر من 5 ملايين دولار. أما التنقيب فمستمر منذ قرنين. كنوز وآثار لا تقدر بثمن، تقدم لمحة عن أراضي بلاد ما بين النهرين الخصبة جداً، باعتبارها "مهد الحضارة"، ومنطلق أولى المدن والحروف إلى البشرية أجمع. ولطالما كان متحف "Penn" بمدينة فيلادلفيا، أكبر مدن ولاية بنسلفانيا الأميركية، مقراً لإحدى أهم مجموعات آثار المنطقة القديمة، لكن ولمدة سنوات، لم يُعرَض سوى عددٍ محدود من القطع في معارض موسوعية لم تعطِها حقها. ولكن هذه المرة يختلف تقديم العرض، إذ تُقدم 1200 قطعة يراها الجمهور لأول مرة، رحلة عبر الأزمنة والتاريخ لمشاهدة ما كان يدور في تلك الحقبة، وكيف ساهمت الثورة الزراعية في تطور المجتمعات والفكر والأدب. وقال جوليان سيغرز، مدير متحف "بين" لصحيفة The Guardian: "هذه إحدى أهم المجموعات القادمة من الشرق الأوسط في أي مكانٍ في العالم. المواد المعروضة هنا مذكورة في كل مرجعٍ يتحدَّث عن تاريخ الفن".
البداية من مدينة أور جنوب العراق وقبور الملوك المليئة بالمجوهرات
ويعد حجز الزاوية في المعرض القسم الخاص بالمقبرة الملكية في مدينة أور (2111 – 2003 قبل الميلاد)، ما يُعرَف الآن بجنوب العراق. نَقَّبَ عنها متحف "بين" بالشراكة مع المتحف البريطاني في الفترة من عام 1922 حتى 1934. وزارت الكاتبة الإنكليزية أغاثا كريستي بنفسها الموقع الأثري، ما أوحى لها بكتابة روايتها "جريمة قتل في بلاد ما بين النهرين". وإذ يعود تاريخه لحوالي عام 2450 قبل الميلاد، فقد احتوى الموقع على أكثر من ألفي قبر سومري، وتبيَّن أنَّ 16 منها تنتمي لشخصيات ملكية. لا يُعرَف الكثير عن المرأة المعروفة باسم الملكة بوابي، لكن الزينة الموجودة في مدفنها – غطاء رأسٍ ذهبي مدهش، ومجوهرات دقيقة الصنع، و"عباءة" مصنوعة من أكثر من 50 خيطاً من العقيق الأحمر، واللازورد، وخرز العقيق – مترفة للدرجة التي جعلت عشرات الأوعية المصنوعة من المرمر والأواني المصنوعة من المعادن الثمينة التي دُفِنت معها تبدو مملة بالمقارنة بها. وبين أهم معالم المقبرة الملكية نجد أيضاً قيثارة مزيَّنة برأس ثور ضخمٍ في فسيفساء من الذهب، والفضة، والصدف وهيَ إحدى أقدم الآلات الموسيقية المعروفة، وكذلك منحوتة "الكبش في الأجمة" الشهيرة، وهي أحد اثنين من التماثيل الصغيرة البديعة المصنوعة من الذهب واللازورد، ويوجد الثاني في المتحف البريطاني. يكمن الجانب المظلم من كُل هذا الثراء والزينة في أنَّها كانت كذلك "حفرة موت"، حيث دُفِنَ فيها أيضاً عشراتٍ من الخدم الملكي بعد أن قُتلوا بضرباتٍ للرأس عقب موت سيِّدتهم.
ثم استكشاف الأدوات والاختراعات التي أسست للمجتمعات المستقرة
لكنَّ صالات العرض الجديدة الدائمة والخاصة بالشرق الأوسط لا تعرض الثراء والكنوز فقط، وإن كان يوجد الكثير من ذاك. فمن خلال آثارٍ استثنائية ومألوفة في الوقت ذاته، ترسم المعارض مسار التطوُّر البشري في منطقة الهلال الخصيب على مدار نحو 10 آلاف عام، إذ تتفحَّص فترة الانتقال إلى الزراعة والحياة المستقرة غير المرتحلة، ومعها العديد من الاختراعات المصاحبة لهذة النقلة. وقال سيغرز: "أولى المدن، وأوَّل كتابة، وأوَّل نظام ري، وبداية علم المعادن – كُل تلك الابتكارات التي كانت حجر أساسٍ بَنَتَ عليه شعوبنا نحن – كلها بدأت هنا في تلك المنطقة، وتوجد أدلةٌ ملموسة على هذا".
بذور زراعية عمرها 5 آلاف عام وأول جرة للنبيذ
المعروضات، التي تحتوي على أكثر من 100 ألف قطعة أثرية هيَ نتاج عقودٍ من البحث. ففي عام 1889، رَعَت جامعة بنلسفانيا إرسال حملة أثرية إلى مدينة نيبور القديمة – وكانت تلك أوَّل حملات التنقيب عن الآثار بقيادة أميركيين في منطقة بلاد ما بين النهرين – واستمرَّت لاحقاً باستكشاف 40 موقعاً أثرياً، فيما يُعرَف الآن بالعراق وإيران. وأقدم الآثار المعروضة هي بذور متفحمة تعود لنحو تسعة آلاف عامٍ مضت وتدل على الزراعة المبكرة للمحاصيل. تبدأ القصة من جرَّة فخارية تعود لما بين عاميّ 5400 و5000 قبل الميلاد، وهي إحدى أقدم أواني النبيذ المعروفة في العالم.
والكتابة المسمارية للتجارة أولاً ثم الدين والأدب
وتقدم المعروضات تصوّراً عن بداية قاطني بلاد ما بين النهرين، خلال ألفيّ عامٍ أخرى، بتنظيم مستوطناتهم على هيئة مدن ذات بنية سياسية واقتصادية ودينية مستقرة. وبحلول عام 3000 قبل الميلاد، طوَّر السومريون الكتابة المسمارية، إذ استخدموا أولاً الرموز المصوَّرة، ولاحقاً اتجهوا إلى العلامات ذات الشكل الإسفيني. وقالت أمينة المتحف هولي بيتمان: "كانت تِلك لحظة اختراع الكتابة. تلك فترة كان الناس يصفون فيها بصرياً قدراً كبيراً من العالم الذي يعيشون فيه. إنَّها تقنيةٌ للمعرفة. وهذا يحدث بسرعة شديدة". تُبيِّن مجموعةٌ من ألواح الكتابة المسمارية كيف انتشر استخدام الكتابة. استُخدِمت أولاً لسدِّ احتياجاتٍ تجارية واقتصادية ولاحقاً لأغراضٍ دينية وأدبية. على سبيل المثال، يوجد "جدول بيانات" يعود لمدينة نيبور عام 1400 قبل الميلاد، ويُدرَج فيه 3000 رأس ماشية قادمة من مواقعٍ أخرى لتُستَخدَم في مشروعٍ للحراثة، بينما يصف نصٌ طبي آخر وصفاتٍ لاستخدام الكمَّادات. كذلك تروي عدة قطعٍ أخرى أجزاءً من ملحمة غلغامش، وتُعَد تلك إحدى أوَّل العمال الأدبية في العالم.
وهذه جولة خيالية في المدينة بين التجار
ويحاكي عرض إسقاط رسوم متحرِّكة تجربة المشي في مدينة أور – والتي كانت في مرحلةٍ ما موطناً لأكثر من 20 ألف شخص – ويعرض التجَّار وهم يباشرون تجارتهم، وساحة إله القمر المقدَّس، ومشهدٍ بانورامي مُتخيَّل من على سطح معبد. يغطِّي المعرض الثلاثة آلاف عامٍ الأخيرة بنظرةٍ أقل عمقاً، لكن تتضمَّن الأعمال الهامة منحوتة بارزة تصوِّر جنياً وتعود للفترة بين عامي 883 و859 قبل الميلاد. المنحوتة قادمة من قصر الملك الآشوري آشور ناصربال الثاني في مدينة النمرود، وهيَ موقعٌ أثري دمَّره تنظيم داعش في عام 2015. ومن الحقبة الإسلامية يوجد بلاطٌ وأطباق سيراميكية بديعة الجمال، أغلبها من مدينة الري، التي كانت يوماً مدينة مزدهرة تقع بالقرب من طهران الآن إلى أن نهبها المغول في بدايات القرن الثالث عشر الميلادي.
وطفل صغير ينسخ الكلمة نفسها 360 مرة
وبعض أكثر القطع إثارةً للمشاعر في المعرض لم يكن المجوهرات دقيقة الصنع ولا النُصُب المُقدَّمة إلى الملوك أو الآلهة، بل القطع العادية من الحياة اليومية، مثل علامات قدم طفل محفوظة بحبٍ في الصلصال صنعها والدٌ منذ نحو 4 آلاف عام، أو لوحٍ مدرسي عمره 3750 عام تدرَّب عليه طالب بكتابة نفس الحرف المسماري 360 مرة. ويستكمل المتحف تقديم تجربة حسية من نوع آخر، عبر فعاليات جانبية كدرس سريع في طريق العزف على الطبلة العربية، وتذوق القهوة والشاي بالطريقة المحلية. كما يقدم فقرة تحاكي حاسة الشم عبر البهارات الشهيرة والأعشاب التي تشتهر بها المنطقة. وأخيراً يحاكي حاسة السمع بحفل تحييه المغنية الأردنية فرح سراج، إلى جانب تقديم عرض موسيقي راقص لملحمة جلجامش. ولعل أكثر ما يجذب المتجولين في غرف الآثار القديمة تِلك هوَ قصة التاريخ الإنساني، والقواسم المشتركة بين حياتنا اليوم وتِلك التي عاشتها شعوبٌ قبلنا بآلاف الأعوام.
عربي بوست