الكاتب عادل محمود يكتب عن ثقافة التعفيش
مشكلة التعفيش الثقافية أن هذا الاسم المخيف والمبتذل، قد اخترعه المعفشون أنفسهم، وتباهوا به، التعفيش: سرقة علنية لمحتويات بيوت المهجرين بسبب الحرب، في الحروب القديمة هومثلث مرعب يجري تطبيق تقاليده الإجرامية: «الغنيمة، والسبيّة، والعبد». ويشكل هذا المثلث روافع لدوافع القتال الأساسية: التعبئة السياسية والإيديولوجية. والتعفيش أحد أضلاع هذا المثلث: الاستيلاء على عفش البيوت (المفروشات، والبرادت، والغسالات.. والأدوات الكهربائية السجاد.. وكل ما يمكن حمله)، والتعفيش من طرفي القتال يقوم به صنف واحد من القساة الذين جرى تثقيفهم على شخصنة العدو، وانتهاكه. هذه الحالة المزرية والمخزية في الحروب أنتجت قصصا عديدة مثيرة ، منها أن تأتي أسرة إلى بيتها، بعد انتهاء القتال، فلا تجد في البيت شيئا. فتذهب إلى سوق التعفيش، وتشتري أغراضها نفسها. الشيء الوحيد الذي يمكن العثور عليه في البيت الذي جرى تعفيشه.. هو الكتب حيث ترمى على الأرض وتؤخذ الحوامل الخشبية.. المكتبة ! في سوق التعفيش العلني، والذي يعرض كل الأشياء جملة ومفرقا، يمكنك شراء لاب توب بربع ثمنه، وبراد أجنبي وتلفزيون وغسالة.. كما تشاء. ولكن، كما أن هناك من لم يشترك في التعفيش، هناك من لا يشتري أي قطعة ماركة «تعفيش» بأي ثمن، حتى لو مجانا. فعلى كل قطعة أثاث توجد، على نحو خفي، آثار أصحابها، جلوسا، نياما، وهم يعيشون مفردات الحياة ، ولا أحد يعرف ما الذي حل بهم؟ في فيينا (النمسا) جرت أكبر حملة تعفيش في التاريخ عندما هاجم البريطانيون (الحلفاء) مدينة فيينا عشية أحد أيام نهاية الحرب العالمية الثانية1945.. نزل سكان المدينة إلى المؤسسات، والبنوك، والمتاحف قبل وصول القوات البريطانية وعفّشوها: خزائن البنوك، والقطع الأثرية النادرة، وسبائك الذهب والأموال في المصارف والوثائق في المؤسسات. مضت عشرة أعوام على ليلة التعفيش تلك.. وجاء يوم مغادرة الجيش البريطاني وتسليم البلد إلى النمساويين، في عام 1955.. وكانت المفاجأة: أعاد المعفشون كل شيء إلى مكانه الذي أخذ منه. دون حادثة نقصان واحدة. عندما قرأت هذه المعلومة، كنت، في مكان ما من البناء الذي أسكنه في دمشق.. اسمع المطربة السورية أسمهان تغني بذلك الصوت الشجي الحزين العميق: ليالي الأنس في فيينا. المصدر: جريدة عمان