البحث في معنى أصل العمل الفني من أجل هوية عربية للتشكيل العربي
"أصل المعنى.. وتوطين الهوية"، كتاب صدر حديثاً عن وزارة الثقافة والهيئة السورية للكتاب للناقد التشكيلي الدكتور جواد الزيدي، الكتاب يعتبر بمنزلة دراسة تكشف اللامفكر به في التشكيل العربي المعاصر، والبحث في معنى أصل العمل الفني وذلك من أجل هوية عربية للتشكيل العربي واستناداً للطروحات القائلة بتأصيل الهوية أو توطينها، يضم ثلاثة فصول: التأصيل الرمزي في الرسم العربي، الحروفية العربية والتأصيل التراثي، النحت العربي وتوطين الهوية.
لقد ترسخت ملامح التشكيل العربي من خلال ترسيخ مفاهيم محلية «شرقية وعربية»، قائمة على توظيف المنظومات الثقافية في العمل الفني والحفر في مدونات التراث العربي بكامل محمولاته واستثمارها من أجل إيجاد نسق مغاير في الفن يبتعد عما تعلمه فناننا العربي في بلدان دراسته، وقد أرادت هذه الجماعات أن تتحدد بمكانية معينة ضمن هذا الإطار بفعل زماني ثابت لاختلاف التفصيلات الدقيقة في البنية الثقافية العميقة والمرجعيات المحركة لكل منها، وإن اشتركت في البنى السطحية. فالثقافة المصرية الفرعونية كان لها أثرها في ما تحقق من منجز فني مصري معاصر على صعيد الرسم أو النحت، وهكذا فيما يخص العراق وسورية والمغرب، إلا أن المشتركات تبقى هاجساً للجميع من أجل تحديد الهوية الفنية وتوطينها في ضوء البحث عن الأصل التراثي، الذي يتمظهر في أغلب الأحيان بصفة الحداثية.
ويأتي الفصل الأول تحت عنوان «التأصيل الرمزي في الرسم العربي»، وبدأ الزيدي هذا الفصل بمقدمة تتحدث عن معنى الأصل وما المقصود من هذا المصطلح وذكر محاولات لـ«هيدجر، وميشيل فوكو، وجاك دريدا»، وعرض رؤية كل واحد منهم لطبيعة الأصل، فمثلاً عند فوكو استند الأصل لديه على الأبستيم الزمني، وعند هيدجر استندت دراسته على أصل العمل الفني بمرجعياته المعروفة لدى الباحثين.
التأصيل الرمزي في الرسم العربي
تعد محاولات هيدجر، «ميشيل فوكو، وجاك دريدا» من أكثر البحوث التي توجهت إلى معنى الأصل وعلاقتها بنظرية التاريخ وممارساتها النصية، وأن هذا المعنى هو نفسه يعمل في المكان ذاته، الذي أضحت فيه نظرية الأصول أكثر وضوحاً، إذ إن التاريخ لا يبدأ في لحظة معينة ثم يستمر خطياً بدءاً من تلك اللحظة.
يكتب دريدا: «أن نتأمل معنى الأصول أو أن نبحث فيه هو أن نجعل أنفسنا في الوقت نفسه مسؤولين عن معنى العلم الفلسفة هذا».
وبحسب هيدجر: تخفق محاولة تجلية الأصل كأصل مفرد وموحد، ومتموضع في مكان وزمان محددين، ومن الواضح أن في كل مرة ينوء المرء بالأصل مفرداً وجزئياً يثبت في النهاية.
وبحث الزيدي في الفصل الثاني الذي جاء بعنوان «التأصيل التراثي للحروفية العربية»، المدرسة الفنية التي أبرزت الخط العربي واكتشاف جماليته وقدرته الكبيرة على العطاء والرمزية المدهشة، وبين ذلك في طروحات « مديحة عمر وشاكر حسن الـسعيد وجميل حمودي وقتيبة الشيخ نوري ووجيه نحلة ونذير نبعة» وعدد آخر.
الحروفية العربية والتأصيل التراثي
إن اللوحة الجديدة التي تحمل حضارة النص أو المبنى الحروفي لا يمكن تمييز ظهورها وتحديد مواطن تجليها في رقعة مكانية محددة.
ففي الوقت الذي برزت به الحروفية العربية إلى المناخ التشكيلي، كانت هناك حفريات أغنت النص البصري الأوروبي وحاولت استلهام الحرف اللاتيني من منطق «هيبرغرافي»، تجسيمي للوحة المرسومة وبمناخات كرافيكية من خلال مجموعة حروفيين سادت أعمالهم بداية النصف الثاني من القرن العشرين مثل «الآنسانتييه، وأندريه ماسون، أيزور أليسو»، وغيرهم.
وهذا النمط من التحول والبحث عن الأصول نبهت إليه السوريالية في تبنيها الكتابة الآلية، بوصفها وسيلة اتصال وتعبير، لأن الكلمة والتعبير الحر يصبحان شيئاً واحداً، وأن حرية الكلمات تعني الحرية من أجل الذات، وبهذا لا تصبح تابعة للأشياء التي تعبر عنها، بل تفعل لحسابها، تلعب «تمارس الحب»، كما يدعي «بريتون».
أما الفصل الثالث فجاء بعنوان «النحت العربي وتوطين الهوية»، وبحث فيه عن مقاربات فكرية وجمالية للنحت العربي وذلك لترسيخ مفهوم توطين الهوية في مجموعة أعمال للنحت العراقي القديم والفرعوني وأغلبية تراث الحضارات القديمة، وأيضاً آليات العمل النحتي الحديث وصياغاته الأسلوبية واستعرض مجموعة من الرواد في مجال النحت منهم « محمد غني حكمت، إسماعيل فتاح الترك، جواد سليم، صالح القرةغولي، فريد بلكهيه» وغيرهم.
وأوضح الزيدي في مقارنة كيفية نحت المرأة وتشكيلها في منحوتات العرب والأجانب مثل «هنري مور، ورودان»، ويقول: «نساء هنري مور مضطجعات دائماً، أما في أعمال جواد سليم فتكون المرأة هي الأمُّ المربية والمناضلة والفلاحة».
النحت العربي وتوطين الهوية
يُعد النحت من أكثر الأجناس الفنية التصاقاً بالذاكرة العربية من خلال منجز حضارتين أوليين في التاريخ الإنساني، سواء ما اتصل بمفهومات الدين «الأسطورة»، أو الحياة الاجتماعية أو الجوانب الفنية الأخرى التي تلامس الحياة اليومية. فما أنجزته هاتان الحضارتان يشير إلى تقدم النحت بشكل واضح وأثره اللاحق في البنية الاجتماعية العربية، التي تعرفت على هذا الجنس الإبداعي من خلال الجدل الدائر فيما بعد، بما تفرضه تعاليم الدين، واقتربت منه وصنع الأطفال والنساء أشياءهم المحببة من الطين الحر، على الرغم من المساهمة الإعلامية التي منحت للرسم صفة الاتصال المباشر، لذلك أضحت هذه العلاقة جزءاً من بنية لا شعورية تتحكم بالجميع، ولكن الهم الإبداعي اختلف من حيث القراءة العميقة للموروث العربي، الذي تمظهرت فيه أعمال النهضة العربية النحتية، التي رافقت نشوء الدولة الجديدة.
وفي الخاتمة ذكر الزيدي أن استشراف تجربة التشكيل العربي المعاصر والبحث عن أصوله غير المكتشفة تتطلب تحديد خريطة طريق لها، لبيان ما هو غير واضح، سواء ما ارتبط ذلك بالمفكر به والشائع من الأصول التراثية، أو اللامفكر به من تلك الأصول، وفي الحالتين فإن القناعة والفاعلية نابعة من طبيعة الأثر المعاصر المرتبط بتاريخ الثقافة.
الوطن