كانت مياهها مغتسلاً وشراباً.. دمشق… جنّة الله في أرضه
قال ابن جُبير الأندلسي لمّا زار دمشق: «..دمشق جنّة الله في أرضه، حباها الله الموقع والمياه، فأتى أهلها وتوجوها بالأزاهير، وكحلوها بالرياحين، وفرشوا أرضها بالسندس النضير. حيث الظل الظليل والماء السلسبيل ينساب انسياب الأراقم بكل سبيل، لقد سئمت أرضها كثرة الماء، حتى اشتاقت للظماء، فتكاد تناديك بها الصمّ الصلاب، «اركض برجلك، هذا مغتسل بارد وشراب…».
ذلك أن منشآت توزيع المياه، التي كانت تمون دمشق بالمياه كانت إبداعاً بشرياً فريداً من نوعه، عبر العصور والدهور، وقد نقل الأمويون هذا النظام إلى الأندلس، فكان نظام توزيع المياه السائد بها.
وإذا كانت الحاجة إلى تزويد مدينة دمشق بالمياه وفقاً لذلك الأسلوب قد آلت إلى الزوال، بعد انتشار احتفار الآبار ومن ثم الاعتماد على مياه عين الفيجة.. فإن من الضرورة بمكان، إعداد مصورات لتلك المنشآت، بل المحافظة على نماذج منها، وبالتالي تصوير ما بقي قائماً منها ودراسته.. لأن هذه المنشآت تمثل جانباً من حضارة مدينة دمشق خلال فترة من تاريخها.
لقد انتظمت قواعد توزيع المياه على الدور والمرافق العامة بدمش على مبدأ إسالة الماء بنسب ثابتة إلى أصحاب الحقوق من هذه المياه، بشكل لا يدع مجالاً لعابث أو مستغل أن يبدّل تلك النسبة، وذلك وفقاً لأعراف وتقاليد صانت تلك الحقوق، وجعلت الإنسان يتقيّد بها ولا يفكر بتعديلها أو الخروج عنها.
وبالطبع فإن هذه الحقوق من المياه، مأخوذ بنظامها على نسب اشتقاق الفروع كالسواقي والجداول من النهر الأساسي الذي تشتق منه، وبالتالي فإن ذلك لا يمكن المساس به من قريب أو بعيد، فهي نسب لا تُبدل ولا تعدّل… ومصداق لذلك نجد بدمشق مسميات لحارات أو أزقّة تحمل اسم تلك المنشآت ومن ذلك حي القنوات ومنطقة المزاز جنوبي حي الشاغور وكذلك البحرة الدفّاقة والسبع طوالع بمناطق أخرى من دمشق.
ومن جهة أخرى فإن نسبة تدفق المياه بالاشتقاق من الأصول إلى الفروع أيضاً ثابتة من دون زيادة أو نقصان.
وقد طرأ على نسب توزيع مياه دمشق إلى أصحاب الحقوق تبدل بعد أن أصبحت دمشق بالدولة الإسلامية نتيجة لزيادة عدد سكان المدينة وبناء العديد من المساجد والحمامات التي تطلق حقوقاً دائمة من المياه، من نهر بردى وفروعه تلبية لحاجات هذه المساجد والحمامات والمرافق التابعة لها من المياه.
وكان توزيع المياه في أقفية ومسارب عديدة محفوظة الحقوق، وكان لها أرقام محدّدة، وهذه الحقوق محفوظة لدى متولي هذه الأوقاف (الشادي)، وقد ذكر ابن عساكر أن في دمشق وظواهرها ما يزيد على مئة وأربعين قناة تنقل المياه إلى أصحابها وإلى المرافق العامة التي بدمشق، وبالطبع فإن ذلك جعل دمشق جنّة الله في أرضه لكثرة مياهها. حتى قَلَّ أن يمر المرء بحائط إلا ويخرج من ذلك الحائط الماء بأنبوب إلى حوض يشرب ويستقي منه الوارد والصادي، بل إن المرء لا يرى مسجداً أو مدرسة أو خانقاها إلا والماء يجري إلى بحرة.
وعند إنشاء هذه الشبكة لتوزيع مياه دمشق لم تكن القساطل المقاومة للضغط ولا أدوات تحويل وتكسير المياه معروفة. ذلك أن الإنسان بذلك الحين اعتمد على ما يُعرف بالطالع، وهذه الطوالع موصولة ببعضها بوساطة مماصّات (سيفونات) من قساطل فخاريّة، يجري بها توزيع المياه إلى أصحابها، أو قطع تلك المياه لإصلاح عطل يوجب قطع المياه.
وقد تألفت شبكة التوزيع من ثلاثة عناصر: هي: المأخذ والقساطل والطالع.
فالمأخذ هو ثقب دائري بحجر بازلتي أو نحوه. وهذا الحجر مثبّت على القناة المشتقة من النهر وبهذا المأخذ تحدد كمية المياه التي تمر من القناة إلى القساطل.
ودور هذه القساطل نقل المياه من المأخذ إلى الموزّع (الطالع) ومن الطالع إلى أصحاب حقوق المياه.
والقسطل أسطوانة من التراب الأحمر (الغضار) يعجن ويخمر ويُعرك ويوضع ذلك بقالب مجوف، ثم يجفف ويشوى، والقساطل على أنواع في الكبر والصغر، منها ما يعرف بالزمر وهو أصغرها، ثم الشركس وهو أكبر ثم الإيراني والسبيلي والزنجاري وهو أكبرها قياساً.
وفي أحد طرفي القسطل أُكرة يُدخل بها القسطل الآخر عند التركيب أما قطر القسطل فهو بين (15-30سم) وطوله بين (20-25سم) أما بناء القساطل أو تركيبها فهو من اختصاص الشادي، ويكون ذلك بحفر خندق يفرشه الشادي بما يعرف بالتتخيتة، وهي من الحجارة والآجر وهذه التتخيتة بسماكة (40-60سم). أما الملاط المستخدم لذلك فهو من التراب الأحمر (الغضار) ومن رماد وقود الحمامات مع الكلس المطفي وذلك بنسب خاصة، وهذا الملاط هو المعروف باسم اللاوونة، فتوضع تلك اللاوونة عند تركيب القساطل في نهاية القسطل التي تدخل في بداية القسطل الآخر، ويلحم على ذلك بمادة اللاوونة (اللاقونة) المذكورة، ثم يُغطى الشادي تلك القساطل (بعد تركيبها) بالآجر مع المونة (الملاط) بسماكة (30-50سم) ولمّا كان الشادي على معرفة مخططات تمديد القساطل (توزيعها) فهو يقوم بكريها (تنظيفها)، كما يقوم بصيانتها من أي تلف أو كسر نتيجة زلزال أو نحوه، كما يسهر هذا الشادي على وصول المياه إلى مستحقها ضمن القساطل من دون زيادة أو نقصان، لأنّه على معرفة بحقّ أو كمية المياه لكل منزل أو أيّ مرفق عام في منقطة عمله، كما أنه على معرفة جيدة بمواقع واتجاهات المياه إلى الطوالع في منطقته.
وكان الشادي يأخذ معه ابنه إلى مكان كل عمل يتعلق بتوزيع المياه أو صيانة القساطل، حتى يتعلم منه ذلك لأنّ حرفة الشادي، كانت من الحرف الدمشقية، المتوارثة بالأسرة وفقاً لنظام مشيخة الكارات (الأصناف) بدمشق.
وإذا تعرّضت القساطل التي تنقل المياه للخراف للعطل، أو الكسر، فإنّ هذه القساطل تنفصل عن بعضها، وينجم عن ذلك ضياع المياه وهدرها، فلا تصل حصص المياه كاملة إلى المستحقّين ولذلك كان على الشادي بكري هذه القساطل وتعزيلها، ويكون ذلك بواسطة قصبة طويلة يشقّها الشادي إلى ثلاثة شقوق، ثم يراكب تلك الشقوق، ويحكم ربطها، ويجعل برأسها كتلة من الخيش أو الجنفيص، ثم يفتح بالقسطل فتحة بمقدار، ما تدخل اليد، ويحفر حفراً أخرى ثانية على بعد يتراوح من (4-7) أمتار، ثم يعمد إلى حبل (مرس) ثم يعمد إلى حبل طوله ضعف المسافة الممتدة بين الحفر، ثم يدخل القصبة في الفتحة الأولى بحذر وحرص، ويسحب ذلك المرس من الطرف الآخر، فتسحب مع كتلة الخيش ما كان مترسباً بالقساطل بين الفتحتين، فيخرج الشادي ذلك، ومن ثم يعمد الشادي إلى إحداث فتحة جديدة ثم فتحة أخرى، ثم أخرى… حتى يتسنى له تعزيل أو كري تلك القساطل… وبذلك يتوقف هدر أو تسرّب المياه من القساطل وتصل حصص تلك المياه إلى مستحقيها من دون زيادة أو نقصان.
أما الطالع فيتألف من قسمين رئيسيين، قسم يشكل بناء الطالع والقسم الآخر موزع الماء بالطالع.
فمن حيث بناء الطالع يكون طول هذا الطالع وعرضه بحسب عدد التفرعات التي بالموزع، وقد يكون ذلك البناء ضمن الجدار، أو خارجاً بارزاً أمامه، وفي كلتا الحالتين يكون ارتفاع بناء الطالع بحسب ارتفاع منسوب مياه قناة النهر التي تغذي موزع الطالع بالمياه فمن الطوالع ما يكون ارتفاع بنائها نحو مترين، كما هي الحال في أبنية الطوالع التي تتغذى موزعاتها من الأقنية المتفرعة عن نهر القنوات، ومن هذه الطوالع ما كان ارتفاع بنائها نصف متر كما هي الحال بأبنية الطوالع التي تتغذى من الأقنية التي تتفرع عن نهر بانياس.
وفي جميع الأحوال، يغلق الطالع بمصراع مزود بقفل، مفتاحه عند الشادي، حفظاً لنظافة مياه الطالع، وللحيلولة من عبث العابثين لحقوق المياه، الذين قد يعمدون إلى سد مآخذ مياه الآخرين بالحشائش أو الخرق البالية لتتحول إليهم المياه بكمية أكثر.
ومن جهة أخرى فإن أبنية الطوالع الكبيرة غالباً ما تكون عند مفترقات الطرق أما أبنية الطوالع الأصغر فتكون ضمن جدار يطل على الزقاق، على شكل نافذة بالجدار لها مصراع، وفي حال كون الطالع يوزع الماء بين عدد من المنازل، فإنه يكون بحائط مشترك بين هذه المنازل، ويكون لكل منزل مفتاح يسمح بالإشراف على حق مياه ذلك المنزل من المياه.
وقد نجد من الطوالع ما كان خاصاً بمنزل واحد، وفي هذه الحال، يكون الطالع أو موزعه خلف جدار مدخل تلك الدار.
ويكون موزع الماء بالطالع على شكل قطعة رباعية من حجر البازلت، منحوتاً بها تجويف بعمق نحو 10 سم، فيأخذ شكل بحرة بوسطها فوهة يتراوح قطرها بين 5-10 سم ويطلق على هذه الفوهة اسم: الإمّاية، وعلى أطراف ذلك التجويف (البحرة) فتحات تعرف بالعتبات وهي منحوتة بعمق واحد، أما عرضها فيزيد أو ينقص وفقاً لكمية المياه المراد أخذها من المياه التي ترد إلى الإمّاية عبر تلك العتبة.
وبالطبع فإن المحافظة على منسوب واحد لعمق فتحات (عتبات) موزع الطالع، يسمح بمرور حصص الماء لمستحقيها بنسب تتناسب مع عرض كل فتحة مع كميات المياه الواردة إلى الطالع عبر الإمّاية، من دون زيادة أو نقصان.
أما مصدر مياه الطالع، فهي تأتي إلى الطالع من القساطل عبر الإماية، وبالتالي فإن تلك المياه توزع على مستحقيها عن طريق تلك الفتحات عبر قساطل أخرى تسوق المياه إلى مستحقيها.
وإذا كان أقصى ارتفاع لبناء الطالع يبلغ نحو مترين عن الأرض، فمن الطبيعي أن تنخفض المرافق التي تتغذى بالمياه من الطالع بمعدل 20-30 سم عن مستوى الماء بالطالع، لذا فإن بعض البيوت، وخاصة ما كان يتمون بالمياه من الطوالع التي تتغذى من الأقنية المتفرعة عن نهر بانياس، غالباً ما كانت تنخفض عن المتر عن الطريق العام ليتوفر الضغط الكافي في الماء وبالتالي لم تكن تلك المياه تصل إلا إلى الطابق الأرضي من الدور الدمشقية، حيث تنحصر المرافق الصحية التي يُستهلك بها الماء، كالمطبخ والحمام ودورة المياه، وعلى ذلك فإن بناء الطالع كلما كان أعلى من البحرة بالمنزل، كانت المياه أكثر تدفقاً.
الوطن