بدأت قداسة النص الشعري تاريخياً من قداسة السلطة الدينية بالدرجة الأولى التي تلتقي مع قداسة السلطة السياسية والتي غالباً ما تكون السلطتان واحدة، أي إن الشاعر يلقن الكهنة ترانيمه وأناشيده التي يحتفي بها الناس بقداسة عالية، وقد يكون الكاهن شاعراً، والناس تردد هذا النص الشعري كنصٍ إلهي، ويحدث طقس احتفالي ممتلئ بالرقص والغناء، لتخلق ببساطة لغة الشعر والمسرح مع بعضهما بعضاً، فما أنجزه سوفوكليس من مسرح في اليونان القديمة ما زالت تعبر بشكل أساسي عن التواشج القديم بين الشعر والمسرح، فلم يعرف مصطلح مؤلف مسرحي وقتها، بل كان الشاعر هو المؤلف المسرحي.. لذا كان لا بدّ من التكامل الأصيل بين المسرح والشعر الذي اختفى في أيامنا هذه وصار أندر ما يكون.
الجمع بين الشعر والمسرح هو الأساس
يرى هيغل أن: (الدراما تمثل المرحلة العليا في الشعر وفي الفنّ عموماً، ويعتبر الحوار وسيلة التعبير القادرة على نقل المضمون الروحي)، لذا فإن هيغل سعى إلى اعتبار أن الجمع بين الشعر والمسرح هو الأساس الذي يمكن الانطلاق منه للوصول إلى الناس وتوجيههم وتهذيب سلوكهم وتحسين ذائقتهم اللفظية واللغوية، وفي المرحلة التي سميت النهضة العربية سعى عدد من المثقفين العرب إلى استخدام الشعر المسرحي، وعادوا لكتابة نماذج مسرحية بلغة شعرية ليتمكن الشعر من الربط موسيقياً ولفظياً بين علاقة الجمهور مع موروثه الثقافي، وبين الحكاية التي تعرض أمامه، مستفيدين أو مستندين إلى الاعتبار الذي كان يؤخذ للنص الشعري وموسيقاه وجزالة ألفاظه وبحوره، وحب الجمهور العربي للشعر، على اعتبار أن المسرح وقتها كان فناً جديداً له.
الطبقات البرجوازية.. شجعت حالة الدراما الواقعية النثرية
هاجم طه حسين تجارب أحمد شوقي وعزيز أباظة المسرحية واعتبرها شعراً ذاتياً لا يفي بالغرض المسرحي الدرامي، وبالفعل كانت الحوارات التي كتبها معظم كتاب المسرح الشعري هي مقطوعات غنائية قصيرة حيث تكتب كل شخصية ذاتها متجهةً إلى حالة ذاتية مجردة من الفعل والحدث الدرامي، فلا حبكة ولا صراع درامي ولا فعل يقابله فعلٌ مضاد، إنما حالة وصفية ساكنة متناسبة أكثر مع الرواية أكثر منها مع المسرح. هذه النظريات أثرت في المسرح الشعري، وكان انحساره الأبرز مع مجيء الواقعية، فقد انتقل الشعراء ليعبروا عن رغباتهم الدرامية وحكاياتهم في الرواية أو في الشعر الغنائي، مبتعدين عن المسرح كأداة تعبيرية، وظهرت مع الطبقات البرجوازية حالة الدراما الواقعية النثرية التي تخلوا فيها عن الشعر كلياً وتركزت في موضوعاتها على النقد الأخلاقي والاجتماعي للطبقة الوسطى، وبما أن الطبقات البرجوازية كانت هي الحاكمة فكان لابد من أن يكون لخياراتها الاستمرار وانحسار ما ترفضه في الفنون والآداب، وأن على المسرحيين أن يراعوا طعام عيشهم فلكي يضمنوا المال السخي كان لا بد من الانحياز إلى رغبة الطبقة الاقتصادية التي تدفع لقاء عملهم المسرحي فصار الواقع متحكماً بما يعرض على الخشبة لا الخشبة تصدر ثقافتها إلى الواقع.
المونولوج.. كقصيدة حوارية بلا شريك
يبدو جهل الممثلين باللغة أحد الأسباب التي قادت إلى انحسار المسرح الشعري، أو بالأحرى انحسار الشعر في المسرح، واعتماد المسرح الشعري على اختيار مواضيع تاريخية مكتوبة بلغة جامدة، وعليه يميز الكثيرون بين الشعر المسرحي الذي يمثل الملاحم التي عرفناها سابقاً عبر تاريخ العالم، وبين المسرح الشعري الذي يمثل خطوته الأولى شكسبير الذي تلتقي فيه ملامح متنوعة من الشعر الغنائي، فلا هو شعر خالص ولا دراما خالصة، ولربما يجد البعض أن المونولوج حالياً هو عبارة عن قصيدة تتضمن حواراً مع مستمع لا يتكلم ذي وجود افتراضي، لذا يعتبر هذا الفن اليوم آخر الانتماءات إلى حالة المسرح الشعري، لأنها قصيدة حوارية حذف منها شريك الحوار، لتتحول إلى قصيدة ذاتية.
معظم المسرحيين اليوم ليسوا شعراء
رأى صلاح عبد الصبور أن الشعر هو صاحب الحق الوحيد في المسرح، وأن المسرح النثري لا بد أن يقع في مطباتٍ تجعله ينحرف عن أهداف المسرح، ويعتبر هذا الموقف من المواقف المتطرفة تجاه الشعر في المسرح، لسبب بسيط أن معظم المسرحيين اليوم ليسوا شعراء، ومعظم الشعراء لا يتمكنون من صياغة الصراع في شعرهم، وحلة الشاعر الذي يستطيع أن يقول الدراما شعراً أو يكتب الشعر بشكل درامي متصاعد باتوا قلةً، وتحديداً حين صار الصراع واضحاً بين الفصحى والعامية ليصل حدّ التناقض، لتظهر بعدها حالات المسرح التجريبي التي وجدت اللغة فصحى أو عامية، شعراً أو نثراً زائدةً لا علاقة لها بالفعل المسرحي ولا بالظاهرة المسرحية، واعتبار اللغة المسرحية تنتمي إلى الأدب ولا تنتمي إلى الفن.
وهنا يحسم بيتر بروك الأمر ويلقي الأمر على عاتق الممثل فيقول: (إن مشكلة الممثل هي أن يجد طريقة للتعامل مع الشعر فهو إن تناوله بانفعالٍ مبالغ فيه فسينتهي إلى لغوٍ منمّق فارغ…)
حين بدأ انحسار المسرح الشعري الأوروبي، نهض المسرح الشعري العربي على يد أحمد شوقي، لكنه لم يعش طويلاً لأن عدد الشعراء الذين استطاعوا الكتابة المسرحية كانوا قلةً منهم محمد الفيتوري، صلاح عبد الصبور، وعبد الرحمن الشرقاوي.. وآخرون لم تنتشر أسماؤهم ولم تنفذ أعمالهم، ولهذا سبب يكمن في نهوض الاتجاه الواقعي في الأدب والفن والفلسفة والاقتصاد، لتصبح لغة المسرح نثرية، وتنتقل بعدها إلى لغة عامية، يطلب منها البساطة لتكون قادرة على الوصول إلى الجمهور حتى لا تشكل عائقاً أمام الفعل الدرامي.
الوطن