حين تكون مصاباً بمرضٍ نادر..اسمه دمشق
هل تشعر بذاك البحث الدائم عن أحد ما رغم وجود الجميع حولك؟ هل تشعر بذاك البحث الدائم عن شيءٍ فقدته يوماً، دون أن تذكر متى، وأين، حتى إنك لا تعرف ما هو ؟ هل تشعر بذاك البحث الدائم عن مكانٍ تريد زيارته؟ هل تشعر بالبحث الدائم عن مدينةٍ رأيتها في أحلامك مراتٍ ومرات، مدينة لم ترَها من قبل، لكنها استحوذت عليك؟ أنت إذاً مصاب بذاك المرض النادر! تحمل داخلك مدينتك وامرأة تنتظرك، حاملة مفاتيح بيتك واضعة إياها قلادة على صدرها، تتخيلها وهي تفتح لك باب بيتك، وقلبها، أنت الحامل بلادك على هيئة خريطة، قلادة، أو حمالة مفاتيح، تذكير دائم ببلادك ومفاتيح بيتك! نعم، لقد أصبت بهذا المرض منذ الأزل، لا أذكر أنني شفيت منه يوماً، منذ الصغر وأنا مصابة به، البحث الدائم عن كل شيءٍ قديم، بقايا فخار مكسور، أو صخرة على هيئة قنفذ قامت الرياح والمياه بنحتها عبر آلاف السنين لتستحوذ عليّ، واستهوتني فكرة الهجرة، والبحث عن مدينة غرائبية. وحين زرت دمشق لأول مرة كنت في سن المراهقة، وسكنتني المدينة، و قررت العيش فيها، وحين أتيت للدراسة شعرت أنها ليست المدينة التي أبحث عنها، فهي ببساطة لم تشفني من ذاك المرض! تجولت فيها طويلاً، لم يبق حي أو زقاق لم أرَه، لكني شعرت بضيقها عليّ، وقررت البحث عن مدينة أخرى. كنت أحسد الدمشقيين الذين يستغربون رغبتي في السفر، السفر للهجرة، وليس للسياحة، كانوا يعتبرونها فكرة غريبة يلومونني عليها، نعم لم يكن لديهم ذلك المرض الذي أعاني منه! وحين اندلعت الحرب في سوريا، هاجر الناس جماعات، وليس أفراداً بشكلٍ فجائي، وأصبح ذاك الذي استغرب يوماً من رغبتي في الرحيل خارج البلاد التي ادعى يوماً أنه سيموت إن عاش بعيداً عنها! لم يكتب لي القدر الخروج من دمشق، وكنت أودع كل يومٍ أقارب وأصدقاء وغرباء، وأصبحت أشعر بالحب لهذه المدينة المهجورة. وخرج المرض رويداً رويداً من داخلي، أصبحت المدينة أيضاً مصابة بهذا المرض. صرنا صديقتين، نتسامر معاً، ونستمع لنعيق الغراب الواقف على رؤوس أشجارها مراقباً العائدين، لكن هيهات.. فمن يرحل لا يعود! ولم يتبقَّ لدمشق سوانا، نحن الذين نجونا لسبب أو لآخر في هذه الحرب القاتمة كما نجت مملكة النمل من أحذية جنود سليمان، نحن الجالسون على شرفاتنا الرمادية نراقب القمر الذي رأى من سمائه كل الدمار، والضجيج، والفوضى، دون أن يرف له جفن! الشمس تشرق في وقتها، والقمر يتحرك في مداره، والأرض تتنفس، وتتثاءب، ونحن الذين حملناها على أكتافنا نحن الفائزين في هذه الحرب، وعلى الأوسمة أن تكون من نصيبنا، نحن من نجونا من أحذية الحرب، وحاربنا خوفنا بكلمة، واستمررنا بشرب قهوتنا الصباحية برعشة من أصوات التفجيرات والصواريخ، وليس من نسائم الصباح المنعشة. ألا نستحق وساماً نحن المصابين بذاك المرض النادر الذي اسمه الحنين؟! تدوينة_هاف بوست