رأي.. كذبة «جمالية».. تتقن آغاتا كريستوف سردها
في لوحتها الروائية المعنونة «الكذبة الثالثة» تبدأ الروائية الهنغارية آغاتا كريستوف برسم ملامح شخصية بطلها (لوكاس).. وكأنه بطل وحيد لمجمل الرواية.. يملأ فضاءها الروائي وحده.. يحيا على نحو يجعله يضع مسافة بينه وبين كل الأشخاص والأشياء.. يبدو وكما لو أنه لم يحيَ قط..
ما سرّ ذاك الانغماس اللافت بحياة العزلة التي اختارها لوكاس..؟
لربما التقطناه يعترف: «قد تكون حياة الواحد فينا أشدّ كآبة من أشدّ الكتب كآبةً».. فآثر عيش حزنه وكآبته وحيداً.
إلى ما يزيد عن ثلث خط سير الرواية لا شخصية بارزة سوى لوكاس راوياً الأحداث من منظوره.
تعتقد، كقارئ، أن العمل سيمضي على هذا النحو في نسج مناخات عزلة هذا الإنسان وما يخفيه وراءه من ماضٍ ومرضٍ جعل ذويه يضعونه، وهو لم يزل طفلاً بعمر الأربع سنوات، في مركز إعادة تأهيل دون أن يسأل عنه أحد أو يزوره.. الأمر الذي يورّثه قسوةً ولؤماً قلّ نظيرهما لدى طفل بمثل سنه.
أحياناً.. وربما غالباً.. تُفرض على أحدنا حياةٌ لم يكن ليرغب بها.. فيلوذ إلى مرارات الصمت الكثيف.. ظاهرياً.. المنفلت على شكل كتابات «كذبات» كما سمّاها لوكاس معترفاً: «أريد فقط أن أحيا بسلام ليتسنى لي أن أكتب».
شيء ما جعلني أقاطع بين رسم ملامح شخصية لوكاس الوحيد وبين الشخصية التي أدّاها الممثل جاك نيكلسون في فيلم (عن شميدت).. على الرغم من اختلافات كبيرة بين كلا الشخصيتين، زماناً ومكاناً.
فالسيد شميدت يحيا وحيداً مع أفكاره بعد أن ماتت زوجته وتقاعد من عمله، ليخلص إلى سؤالٍ مرٍّ: هل كانت حياتي ذات فائدة لأي إنسان..؟
يبدو أن لوكاس يحيا في تلافيف الكثير من التساؤلات الوجودية بما فيها سؤال السيد شميدت لنفسه، لكنه كان أكثر حيلةً منه مقتنعاً بقاعدة: «ما إن نمعن التفكير حتى نعجز عن حبّ الحياة»..
لعله أدرك أن حياته لم تكن ذات أهمية أو نفع لأي مخلوق ولا حتى لنفسه منذ حصلت مأساة عائلته التي جعلته يحيا وحيداً في مركز تأهيل مع أطفال مرضى وحيدين مثله.
تعمد الروائية أسلوب «الفلاش باك».. البدء مع شخصية بطلها دون الخوض، بدايةً، بسبب مجيئه إلى المركز.. تتوالى الأحداث وتنفلش مبرزةً ارتدادات الحرب العالمية الثانية التي تسببت بقصف المركز وما أدّت إليه من أخذ لوكاس إلى بيت سيدة عجوز تحيا بمفردها. تموت فيتغيّر مصير لوكاس إثر مصادفة تدفعه إلى اجتياز حدود البلاد المجاورة ليبدأ حياة جديدة.
القسم الثاني يبدأ بإخبارنا بوجود شقيق توءم للوكاس، هو كلاوس.. وهنا تروى الأحداث من وجهة نظره.. وكيف أنه يُنكر معرفته بأخيه لوكاس حين يأتي هذا الأخير لزيارته بعد مرور خمسين عاماً على فقدانه.
(الكذبة الثالثة) تلقي ضوءاً على ما تفعله الحرب من تشظيات نفسية واجتماعية ومضاعفاتها على مطلق إنسان.. وعدسة الروائية تحاول التقاط أكثر من حيزٍ يجوب في تقلبات المرء وفق ظرفه.. فلا مبالغة برسمها لمختلف الأجواء التي تحاول كريستوف تصويرها.. لكن فجأة تنقلب أو تنقطع تلك المناخات التي راعت نقلها من وحدة ويأسٍ ودمار معنوي، جعلتها جميعها تحاصر بطلها لوكاس.. إلى حالة التهاء بتفاصيل حكايته الماضية.
الثورة