رهاب الشرق بين عضال الدم المرسوم ووباء الظلام المحتوم
صاحبة الجلالة _ رشا الصالح
سلام عليك أيها الشرق القديم الوضاء، سلامٌ على حضاراتك وثراء ثقافاتك ، على أنوار روحانيتك وقناديلها التي مهدت للعالم طرق الحضارة ، ومنحت من صوفيتها إلى منابر كلماتها و مستنيريها ، وإرشادات أنبيائها ، وألوان مفكريها ولوحات شعرائها ، بحورا للسلام وسلَما لأمجادها الحاضرة .
سلام إليك يا شرقنا الحاضر من ظلام غزاك وحاول ويحاول إخماد شعلة تألقك الإنساني ، سلام إليك من تلوث هوائك بدماء الطغاة الكفرة .،ومن وباء سكن جنباتك منذ حوالي مائتي أو ألف عام ، حينما جاهدوا لاغتيال حقيقتك ، ليلطخوا بالعار مياه بحور وعيك ، وليقاضوا رأسك بأعلام سوادهم ، مقابل همجيتهم وسرقاتهم واحتكارهم لثرواتك ، ودحرجة لرؤوس أحرارك ، وذبح لمتصوفيك ، وقسر شعرائك عن نظم آيات البيان الداعية لفتح بيبان وأبواب الحقيقة الخالدة سرا ،مكتفين بالرموز والتلميح والتبطين ، لتقتل الجهر في قوافيهم وتخيرك بين النجاة بهم و بزوادة وزاد معارفهم، وبين أدلجة إماراتهم وحكوماتهم وكراسي حكامهم . وبين العيش على فتات الأرصفة و وشوارع الحياة ذلا ، أو الموت دونها قهرا وتقطيعا ، والأمثلة رهن الواقع محكية
و أي بلاء هذا الذي تغلغل في جسدك ، وظهر فجوره ووقاحة مروجيه، والذي لم يكن أبدا جديدا عليك، فقد ابتلي شرقنا العظيم من الزمن القديم إلى المعاصر بشتى أنواع الاحتلال الفكري والطاغوتي والظلامي، الذي عمل جاهدا على قلب معالم ثقافته السائدة فيها وقوالبها ، من ثقافة تنوير واحترام للآخر بعقائده ، إلى ثقافة صلب وذبح وتكفير للآخر المختلف بمكنونه وكيانه وانتمائه .
وظهر ذلك جليا على ممر التاريخ ، عندما صلب الحلاج لأجل الحقيقة التنويرية السامية ، وعندما شن الخليفة المتوكل سيفه وقلمه وحكمه على كل متنورا تبع خطى التنوير الروحي والعقلي وذلك بهجمة بربرية وحشية علنية مصرحا معلنا L(( من تمنطق بمنطق أرسطو فقد تزندق ))، والتي جعلت هذه النظرية العنصرية بداية السير لعملية التحول العكسي في كيان الشرق ودويلاته واتجاهات فلسفته ، عاملا على نفي كل شكل من أشكال الاختلاف ،فارضا إغلاق كل الأبواب المنفتحة على فكر وتنور الغير ، فارضا عليهم أصول العقيدة وقيودها ، لإيقاعه في تكلفة التدين والأصولية من جديد .
ومن ذاك التاريخ إلى الآن كبرت الفجوة الفكرية والإنسانية في محطات وأماكن شرقنا، وبدأ الصراع يتمادى بين الناس وبين الأنظمة السياسية القائمة والحاكمة ..وصار المبدع المنفتح علَةً يجب محاكمتها ، وقيدا لابد من الخلاص منه، بسفك دمه أو تخوينه وحرق مكتباته ونتاجه الفكري ، وذبح كل يراع لفكر تنويري قد يزهر ربيعا فيه ، ورميه بأنهار ظلامهم التي تلونت بحمر الدماء، و توشحت بسواد الحبر حدادا على ما جرى .
انعدمت الضوابط الأخلاقية والقانونية والشرعية التي تحمي مفاصل المجتمع وأبناءه المفكرين ، وبرزت الوجوه القبيحة بشتى أشكال الظلم والاستبداد من اقزام متملقين، وانهارت كل الأقنعة التي كانت تخفي المعالم الوحشية وأنياب الظلام وصانعيه .
وبحضور ذلك كان للغضب الاجتماعي مكان كبير حيث ازداد باضطراد مع تنامي القمع والظلم بحجة الدين والسياسة والكراسي ، فاد رادات النزاعات الدموية وسقط ضحاياه من الأطفال والشيوخ واغتصبت النساء ، ومات الأبرياء ،وحطمت الثقافة وجمالتها برمتها، وقلبت مضامينها من داعية للسلام، إلى داعية للعنف والذبح والتحطيم للجمال ومعانيه ، وقلبت التصورات والمفاهيم عن الله حتى عن الإنسان وعن التاريخ نفسه ، وانعدمت البصيرة الواضحة عن المستقبل وحيثياته . ماتت كل الرؤى ،سفكت عقول وهجرت قلوب من مواطنها وبطرائق وحشية ، وظهر كل أشكال التعصب والتطرف الديني ،واشتهرت الأنظمة العشائرية والاديولوجيات الضلالية، التي غايتها تدمير ما تبقى من الإنسان الشرقي الواعي .
وظهر الاحتلال بنموذج آخر احتلالا لكنه ليس عسكريا ، إنما غزو فيروسي لمفاصل الأمة وشرقها وأعمدة نهوضها ، وأقيمت إمارات ونهبت أثار البلاد وثرواتها ، وخون المثقف الوطني، وضاع الحابل بالنابل ، وتعززت الجريمة بكل أشكالها المادية والاعتبارية .
وارتفع أكثر وأكثر صوت الاحتلال الفكري ، بشكله الضمني الظلامي ، ليتساوى أو يرتفع في فعل الجريمة ليتماثل مع المحتل الخارجي في الفعل والصنيع ، وكاد وصنع بخطى مرسومة قصدية على اجتذابه للشرق ، حيث تشاركا سوية في فعل الإجرام والضرر اللاحق بالإنسان والأوطان ، فهما متشابهان ووجهة لعملة واحدة ، فهما مثيل في الهجمة الظلامية التي روج إليها الظلام الداخلي بهياكل مصنوعة من العصابات الخارجية الإرهابية الممولة من الاحتلال الخارجي ،التي عمدت على احتلال البلاد وتقسيمها، لتشيد أشكال النبوءة السوداء ،ولينتصر سيف الحجاج على تنوير الحلاج ،و لتسرق معالم الإنسانية وتهرب حضارتها وآثارها إلى الغرب ، فكم من مدائن فجرت كانت منارة للحضارة وتوثيقا لإرثها التاريخي ،وكم من قلاع وجسور حطمت وكم من أقواس تهشمت ،وكم من ممالك غيبت عن الوجود بحجة صنميتها وابتعادها عن العقائد والدين الذي لا دين له والذي تروج له بمنطقها الخاص ..
فإذا ماقارنا خطر هذا الظلام الداخلي الذي غزا الشرق مع الخارجي ،لوجدنا لا فارق بينهما ، كلاهما قائم على الاستلاب العقلي والذهني ،والوطني للإنسان العربي وللشرق برمته .وهذا يعود أسبابه التاريخية لوجود عدة عقد اجتماعية ونفسية في البنيان والأساس الذي يقوم عليه هذا الكيان، وفي بينية المجتمع الذي تماشى معه . ومن أهم هذه الأسباب نذكر منها :
1-استمرار تطور النظام البنيوي الاجتماعي بالانتماء للعصبيات القبلية ،ورفع راية الولاء لقرابة الدم والعشيرة ، متناسية الارتقاء بمفاهيم الانتماء، ليكون الانتماء الأول والأخير للوطن الواحد .
2-انقلاب المفهوم الحقيقي لقاعدة الهرم لمعنى الوطنية رأسا على عقب، فبدلا من أن يكون أساسه الإنسان الواعي التنويري المتفتح القلب والفكر والرؤى متجذر الانتماء للأرض والوطن ، محفوظ الحقوق والحريات ، إلى تحويله لرمز أو رقم يكاد لا يذكر مع الصراعات الدموية والإجرامية ، ليغدو أشلاء لايكرم حتى جسده أو ذكراه ..
3- غياب المعنى الجدير بالتسمية لبناء دولة مواطنة ومؤسسات ، وغياب هذه الثقافة عن عقلية الأفراد وحتى عن نخب مجتمعها ومثقفيه ممن هم رؤوس التغير الحقيقي للمجتمع وحتى السلطة ، سواء كان ذلك على الصعيد السياسي والثقافي لتجد أطروحاتهم لقضية دولة المواطنة حيثيا متماهيا و راسما للمشكلة بيديه ، مرددا إياها جاعلا منها مجرد شعارات واهية تكاد لا تخرج من أوراقه أو أروقتهم .
4-عدم وجود السلاسة والمرونة في الطرح بين قائد المؤسسة وبين السلطة لتتكيف مع ظاهرة الشخصنة أحيانا كثيرة ، ليجعل الطرح مؤطرا لمشاكل الشعب واحتياجاته يأخذ حيزا خياليا ، يكاد لا يتعدى الرغبة الشخصية لقائد المؤسسة من اجل النجاح في المرحلة القادمة للترشيح في قيادتها ، وقبول أصوات مرشحيه ، معتمدا بذلك على عقول الفئات المجتمعية التي هي في وعوز مادي وروحي فقط ،مروجا لمساعدتهم في القادم المعلن عنه بخطاباته ، معتمدا على التراكم الذهني المحافظ لهذه الفئات أيضا ، غير عابئ بمهمته بتنمية الوعي وحل صراعاتهم تدريجيا ، إنما تقزيم هذه المشاكل ، لتتحول مع الزمن لبؤرة وفجوة طاغوتية ،ومناخ مؤهل لتناسخ وتكاثف الظلام .وتياراته الدينية والاجتماعية، مؤججا بذلك كل أشكال الحروب الغارقة في دمويتها ، مناشدا بالحل والإصلاح والخلاص ، لما حل من تيارات إسلامية، أو عصابات إرهابية تعيث فسادا وظلما وقهرا للشعوب ، إلى جانب قهرها الرجعي طويل الأمد لهم على مدى العصور ..
لذلك تحت وقع سياط هذا الظلم ومرجعياته وسيوفه وتكبيراته ، وأمام هذه الاحتمالات القائمة على الاستلاب للعقل الشرقي وتخديره وتغيبيه ، وتحويله إلى عبد حقيقي ، مأمور من احتلال داخلي أشد خطورة أو يساويها مع الاحتلال الخارجي وظاهرة الاغتصاب ، ليقع الجميع حتى المناضلين والمتنورين والدول وحكوماتها في فخ و أفخاخ ميتة من الذهنيات الاستعبادية ، والاستسلام أمام هذا الطاغوت ومقولاته وخلافاته و أفكاره الخادعة ، الأمر الذي يتوجب وبكل بسالة من الجميع إيقاف هذه البشاعة الظلامية ،ودحر الظلام بسيف النور والوعي والتنور الحقيقي بشتى أنواعه ، الفكري السياسي والاجتماعي والنخبوي ، والذي يتطلب من الأفراد والمؤسسات والسلطات العمل عليها، بفكر وتوجه تآزري ، وضمن معايير أخلاقية استشفائية وخطى ثابتة ، تعيد منهجة الخطط وقراءة القادم بوضوح وشفافية ، وسن السياسات الثقافية وحتى العسكرية العادلة المناشدة بالتساوي بين الحقوق والواجبات بينها وبين المواطنين ، والعمل بكل ما أوتوا من جهد، لإيقاف مجازر الدم الطافح في الأجواء، وفتح المجال أمام كل السبل التي تسمح بإيقاف هذه العواصف النيرانية ، التي تعيد سفن نجاة شرقنا الجميل ، وتعيد فخر مجده وتراثه الحر والتحريري من كل أوابد الكفر والغزاة ،ليعبر ويكبر الشرق من ماضيه إلى ذاته وإنسانيته ، ليصرخ الإنسان الواعي أولا نعم له ولإنسانيته وحقه بالحياة ،مكرما ، لتصفق حريته التنويرية لا الدموية نعم للسلام ،
نعم لسلامك ياشرقنا العظيم ، نعم لأنسك وأناسك ، لأخلاقك واحلامك ، لكلامك وحياتك ، حبا وشفاء من عضال ظالم حل فيك ، سلاما من نور سلاما ..