الاستنزاف والتشبث بالبقاء
أحيانا لا أعرف كيف أبدأ حديثي، لا أعرف كيف أبدأ كلامي، أعاني كثيرا في علاقاتي مع الآخرين دون سبب واضح، أجتهد كثيرًا في أن ألملم شتاتي، في أن أسترجع طاقتي، في أن أصمد في أن أبقى، فقد خار عزمي من شعور التوجس خيفة من شيء ما مسيطر بشكل كلي على روحي، أحيانا أشعر بشيء ما داخلي يستنزف جوارحي، لا أعرف ماهيته على كل هو دائمًا حاضر في ذهني. كأن تبقى على قيد الحياة معافرًا في البقاء، أن تشعر بأن الشهيق والزفير هما عمليتان يخضعان تحت قبضة الاستنزاف، الحياة تعمل على إضعافك يوميا، منذ ولادتك حتى هرمك، فكلما تقدم بك العمر يوما اقتربت من عدوه أيامًا، ولكن يخيل أنك تقترب من فترة النشاط وعنفوان الشباب إن لم تبلغ الحلم، عليك أن تراجع نفسك في إن كنت لا تزال تعتقد أن فترة الشباب هي فترة الحيوية والنشاط، أنت محاط بكل الاتجاهات بشبح الاستنزاف. الحياة أكثر الأشياء استنزافًا، كذلك العمل هو استنزاف لنشاطك وحيويتك، أن تنام مبكرًا ثم تستيقظ لتقيم فرضك «الفجر» ثم ترتل أذكار الصباح فتعاود لتغفو قليلا، ومن ثم تستيقظ مرة أخرى فتستقل سيارتك ذاهبًا إلى عملك، فتبدأ عندها رحلة الاستنزاف رحلة الإضعاف، تبقى في عملك إلى الثانية ظهرًا إن كنت موظفًا حكوميًا، أو إلى أن يشاء مديرك إن كنت قابعًا في منظمة عملية خاصة. عند عودتك إلى منزلك تستقل فراشك مسافرًا إلى عالم آخر، هاربًا من الاستنزاف، فالعمل قد استنزف طاقتك ووقتك وجهدك، أضعف جسدك وأضعف روحك قبل كل هذا وفي ذلك كان صميم تكوين الاستنزاف، فعاصرة كل هذا أن الاستنزاف يعمل على إضعاف جسدك ويكمن ذلك الإضعاف في استسلامك للنوم، فالنوم هو استنزاف من نوع آخر ويا حبذا فيه، يصعب عليك إدراكه لأنك غير قادر على أن تبقى ثوان معدودة مستيقظًا، لتدرك هالتك فقد أسرك الاستنزاف. ولأن الاستنزاف يحيط بنا من كل نواحي الحياة، مواطن بلوغ الاستنزاف لا تقتصر على ما ذكر سلفًا فقط ، والمثال يتضح فيه المقال : أثناء عودتي يوم الإربعاء من إسبوع منتصف الشهر وبالتحديد يوم 15 نوفمبر، خرجت من الجامعه لأستقل سيارة الأجرة عائدًا للمنزل، فالمفاجأة كان سائق السيارة سيدة! نعم سيدة، تباينت ردود أفعالي ما بين الاندهاش والعجب والتعجب، ما بين اليأس والبؤس والحزن، مظاهر الاندهاش والعجب ربما ﻷنها المرة الأولى في حياتي أشاهد فيها سيدة تستقل سيارة أجرة، و مظاهر اليأس كانت تكمن في المعاناة والاستنزاف الذي اعترى تلك السيدة. في الواقع حروفي عاجزة عن وصف تلك الهالة، الهالة التي أصابتني بالاستنزاف، ما زال عقلي صامدًا لم يهن ولم يخر عزمه في تجسيد ذلك الموقف، كانت تلك السيدة طوال طريقنا تشكو مرارة العيش والحياة وصعوبتها، أشارت السيدة قبل ركوب مستقلي سيارتها إلى نهاية مطاف رحلتها، ولا تستطيع تجاوز ذلك المطاف، ولأن الاستنزاف كان حليفها، فكان معظم الباحثين عن سيارة تقلهم محطتهم بعد المطاف والحد الذي مقرر فيه انتهاء مسيرة تلك السيدة، فلك أن تتخيل كم الاستنزاف الذي تعاني منه، فكلما سألها الركاب «موقف يا حجة» تجيب بهوان وضعف تجيب مجسدة أبلغ صورة الاستنزاف «موقف إيه يا ابني! لو رحت الموقف هياخدوا العربية مني!»، ناهيك كل هذا عن كل العيون التي كانت تترقب تلك السيدة، ناهيك عن جملتها التي ظلت تكررها طوال الطريق «أنا اتعقدت يا ابني والله، مش عايزه الصبح يصبح عليا». على كل أعشق لعبة الشطرنج إلى الحد الذي تبصر فيه عيناك مدى النور الذي يكمن في الظلام لو لمسته عين قطتك،لكن أحيانا وفي خافق الأمر أجدها لعبة غير أخلاقية وفي ظاهره لعبة ذكاء، فيكمن فيها أبلغ معاني الإضعاف. «الاستنزاف في مخيلتي هو فكرة غير أخلاقية يعتنقها جبانًا أو حقيرًا». فالحقير: يعتنقها لأنه يستلذ من مشاهدة خصمه يتألم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. أما الجبان: فهو لا يستطيع الانقضاض على فريسته بصورة مباشرة، يتخذ من سياسة التلاعب ونصب الفخوخ وسيلة أولية ليوقع بفريسته. كذلك أعتبر الفخ وسيلة الجبان وإن كان الأمر في الظاهر عكس ذلك وهي وسيلة ذكاء في النيل من العدو. الأمر كذلك في لعبة الشطرنج فهي لعبة تتجلى فيها فكرة نصب الفخ، ربما يلحظ أحدكم وهو يقرأ شيئًا من التناقض بين حبي للشطرنج القائمة على الفخ واعتباري الفخ وسيلة الجبناء، ولكن على كل فكل من على ساحة الحكم في أي من بقاع الأرض جبانا! ومن مواطن الاستنزاف أن يكون شخصًا من أهل دارك وافته المنية، فأنتظرت إلى اليوم التالي لدفنه، فأن تبقى بجانب جثته ولا تستطيع أن تبوح له ولو بـ«كيف حالك؟» ذلك أبلغ معاني الاستنزاف؛ وعلى النقيض يبلغ الاستنزاف نشوته، حين ترزق بمولود بعد بضع سنين فيكمن ضعفك في سجدة، تزينها دموع الحمد فيتبدل حينها ضعفك قوة. ساسه بوست